يأتي كتاب محمد سليم العوا "القاضي والسلطان" ليعالج أزمة القضاة الأخيرة التي بدأت في صيف 2006.. حيث يرصد الكتاب مشروع قانون استقلال السلطة القضائية الذي تقدم به القضاة منذ العام 1991 ووافق عليه مجلس الوزراء يوم الأربعاء الموافق 14/ 6/ 2006. القانون ظل سراً لعدة شهور، ثم تم نشره ليتضح أن المعركة ليست معركة مشروع مقابل مشروع؛ وإنما هي معركة استقلال مقابل محاولات احتواء وسيطرة، تذهب بسلطة القضاء إلى حيث لا تجد لعملها أثراً، وحيث تنطلق يد القوة الغاشمة بلا رقيب ولا حسيب.. ويتناول هذا الفصل الثالث من الكتاب التعديلات التي أدخلها مشروع القانون الجديد على تسع وعشرين مادة من قانون السلطة القضائية الذي يحتوي على مائة وإحدى وسبعين مادة. وتبدأ المادة الأولى من مشروع القانون الجديد بوجوب استبدال عبارة (بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى) بعبارة (بعد أخذ رأي مجلس القضاء الأعلى)، وظاهر النص يتضمن تقوية لسلطان مجلس القضاء الأعلى، وهذا إن كان صحيحاً في بعض المواضع؛ فإنه غير صحيح في البعض الآخر، والتي يكون فيها لوزير العدل – ممثل السلطة التنفيذية – قول في الشأن القضائي يقتضي العرض على مجلس القضاء الأعلى وموافقته؛ فضلاً عن المواضع التي لا يزال وزير العدل ينفرد فيها باتخاذ القرار.
المادة (77) تفتيش قضائي! ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى المادة (77) من قانون السلطة القضائية الذي يقضي بأن تشكل إدارة للتفتيش القضائي بوزارة العدل، وبأن يكون لها مدير ووكيل يختاران من بين مستشاري محكمة النقض أو محاكم الاستئناف...؛ ويُخَوِّل وزير العدل سلطة وضع لائحة للتفتيش القضائي، وكذلك سلطة إحالة ما يرد إليه من الأمور المتعلقة بالتفتيش على أعمال القضاة إلى مجلس القضاء الأعلى. والتعديل الوحيد الذي أدخله مشروع القانون الجديد على هذه المادة؛ جاء في الفقرة الأولى منها بتغيير عبارة (ومن عدد كاف من المستشارين والرؤساء بالمحاكم الابتدائية)؛ لتصبح (وعدد كاف منهم ومن الرؤساء بالمحاكم الابتدائية) وهو تغيير شكلي لا يفيد أي حكم جديد.
وبذلك تبقي المادة على سلطات التفتيش القضائي وقدراته في التأثير على المسيرة الوظيفية للقضاة الخاضعين له، وهم كل قضاة مصر الذين لم يصلوا إلى درجة المستشارين بمحاكم الاستئناف، والأهم من ذلك إبقاء حق وزير العدل في ترشيح من يشغل وظيفة مساعد الوزير لشؤون التفتيش القضائي، وفي ترشيح وكلاء هذه الوزارة وأعضائه؛ مما يزيد من تبعية التفتيش القضائي للوزير. تبعية / أقدمية /انتداب.. تعيين وانتخاب! وصولاً لتعديل المادة (26) التي تنقل تبعية رجال النيابة من السلطة التنفيذية -ممثلة في وزير العدل- إلى رؤسائهم بترتيب الدرجات وانتهاء بالنائب العام، والحقيقة أن هذا النص لا يقدم ولا يؤخر، ما دام النائب العام نفسه يتم تعيينه بقرار من السلطة التنفيذية مباشرة؛ ممثلة في رأسها الأعلى (رئيس الجمهورية)؛ الأمر الذي لا يمكن معه القول بأن النيابة –بهذا التعديل– قد أصبحت غير تابعة للسلطة التنفيذية. وإلى مشكلة تشكيل المجلس الأعلى للقضاء بالأقدمية؛ الأمر الذي يتيح للسلطة التنفيذية المعرفة المسبقة بمن سيصيبه الدور للجلوس في مجلس القضاء الأعلى، ليتم انتداب هؤلاء القضاة مدداً تستمر وتتواصل حتى تجاوزت العشرين عاماً بالنسبة لبعض القضاة، انتدبوا فيها من العمل بالمحاكم إلى العمل بوزارة العدل وإداراتها المختلفة، أو إدارات الدولة ووزاراتها والشركات التابعة لها؛ الأمر الذي يبتعد بالقاضي عن حياة القضاء الحقيقية، ويُنشِئ علاقة ذات خصوصية بالغة بين هؤلاء القضاة وبين السلطة التنفيذية، بما في ذلك من مفسدة للقضاء، ومضيعة لهيبة القضاة، وإدارج لهم في سلك الموظفين التابعين، وهم الواجب بقاؤهم مستقلين عن كل سلطة سوى سلطة الدستور والقانون.
ويأتي المشروع الجديد لقانون السلطة القضائية متجاهلاً قواعد الندب التي اقترحها القضاة أنفسهم، ومطيلاً لمدة الندب والإعارة إلى ست سنوات، بعد أن كانت لا تزيد على السنوات الأربع! وحين طالب القضاة بوجوب ضم ستة أعضاء منتخبين لتشكيل المجلس الأعلى للقضاء؛ بدلاً من تشكيله بالأقدمية وحدها، بما يتيح للسلطة التنفيذية سيطرة أبدية عليه؛ جاء بيان مجلس الوزراء ناصاً على أن المشروع قد عمل بهذا الاقتراح وأيد هذه التوسعة في ضم الأعضاء إلى المجلس. والحاصل أن المادة (77 مكرر 1) -وهي موضع هذا التعديل- لم يأتِ لها ذكر في مشروع القانون المعدل الذي أقره مجلس الوزراء! ويتساءل المؤلف عما إذا كان التعديل مدرجاً ولم يقره مجلس الوزراء؟ أم أنه كان أملاً يراود الذين أعدوا المشروع ثم لم يدرجوه فيه؟ أم أنه سقط سهواً في طباعة المشروع الذي وزع بعد موافقة مجلس الوزراء عليه؟!! إقرأ الجزء الأول من كتاب القاضي و السلطان