النيابة تتحفظ على كاميرات المراقبة في محيط زاوية التيجاني    انطلاق العام الدراسي الجديد في 120 مدرسة بشمال سيناء (فيديو وصور)    بيراميدز يبحث عن بطاقة التأهل على حساب الجيش الرواندي بدوري أبطال أفريقيا    توزيع الكتب المدرسية على التلاميذ بالجيزة في أول أيام العام الدراسي الجديد (صور)    وزير خارجية لبنان: لا يمكن السماح لإسرائيل الاستمرار في الإفلات من العقاب    ننشر تفاصيل الحكم ضد طارق رمضان حفيد البنا بتهمة التعدي على فتاة    عاجل - تحديثات سعر الدولار اليوم السبت 21 سبتمبر 2024    تشكيل مانشستر يونايتد المتوقع أمام كريستال بالاس    تشكيل ليفربول المتوقع أمام بورنموث    روسيا: تدمير 16 طائرة مسيرة أوكرانية فوق مقاطعة بريانسك    احتجزه في الحمام وضربه بالقلم.. القصة الكاملة لاعتداء نجل محمد رمضان على طفل    حالة الطقس المتوقعة غدًا 22 سبتمبر| إنفوجراف    بدء توافد الطلاب على المدارس في أول أيام العام الدراسي الجديد    سفاح التجمع| النهاية إعدام.. صباح النطق بالحكم تناول إفطاره وظهر في القفص حاملًا مصحف    عاجل.. فيفا يعلن منافسة الأهلي على 3 بطولات قارية في كأس إنتركونتيننتال    حدث ليلا.. تطورات جديدة بشأن حزب الله وإسرائيل والحرب على غزة (فيديو)    حبس متهم مفصول من الطريقة التيجانية بعد اتهامه بالتحرش بسيدة    رسميا.. رابط الواجبات المنزلية والتقييمات الأسبوعية ل الصف الثاني الابتدائي    مدحت العدل يوجه رسالة لجماهير الزمالك.. ماذا قال؟    فلسطين.. شهيد وعدة إصابات جراء قصف الاحتلال لمنزل في خان يونس    ضبط 12شخصا من بينهم 3 مصابين في مشاجرتين بالبلينا وجهينة بسوهاج    عمرو أديب: بعض مشايخ الصوفية غير أسوياء و ليس لهم علاقة بالدين    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024    فصل التيار الكهرباء عن ديرب نجم بالشرقية لأعمال الصيانة    مريم متسابقة ب«كاستنج»: زوجي دعمني للسفر إلى القاهرة لتحقيق حلمي في التمثيل    هاني فرحات: جمهور البحرين ذواق للطرب الأصيل.. وأنغام في قمة العطاء الفني    وفاة والدة اللواء محمود توفيق وزير الداخلية    محامي يكشف مفاجآت في قضية اتهام صلاح التيجاني بالتحرش    "حزب الله" يستهدف مرتفع أبو دجاج الإسرائيلي بقذائف المدفعية ويدمر دبابة ميركافا    وزير الخارجية: الجهد المصري مع قطر والولايات المتحدة لن يتوقف ونعمل على حقن دماء الفلسطينيين    موعد إجازة 6 أكتوبر 2024 للموظفين والمدارس (9 أيام عطلات رسمية الشهر المقبل)    مواصفات فورد برونكو سبورت 2025    في احتفالية كبرى.. نادي الفيوم يكرم 150 من المتفوقين الأوائل| صور    الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية تعزى وزير الداخلية فى وفاة والدته    عبد المنعم على دكة البدلاء| نيس يحقق فوزا كاسحًا على سانت إيتيان ب8 أهداف نظيفة    ملف مصراوي.. عودة شوبير الرسمية.. تأهل الزمالك لدور المجموعات بالكونفدرالية.. وظهور فتوح    نائب محافظ المركزي المصري يعقد لقاءات مع أكثر من 35 مؤسسة مالية عالمية لاستعراض نجاحات السياسة النقدية.. فيديو وصور    «أغلى من المانجة».. متى تنخفض الطماطم بعد أن سجل سعرها رقم قياسي؟    صرف فروقات الرواتب للعسكريين 2024 بأمر ملكي احتفاءً باليوم الوطني السعودي 94    حفل للأطفال الأيتام بقرية طحانوب| الأمهات: أطفالنا ينتظرونه بفارغ الصبر.. ويؤكدون: بهجة لقلوب صغيرة    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    وصلت بطعنات نافذة.. إنقاذ مريضة من الموت المحقق بمستشفى جامعة القناة    بدائل متاحة «على أد الإيد»| «ساندوتش المدرسة».. بسعر أقل وفائدة أكثر    وزير الخارجية يؤكد حرص مصر على وحدة السودان وسلامته الإقليمية    ضائقة مادية.. توقعات برج الحمل اليوم 21 سبتمبر 2024    وزير الثقافة بافتتاح ملتقى «أولادنا» لفنون ذوي القدرات الخاصة: سندعم المبدعين    أول ظهور لأحمد سعد وعلياء بسيوني معًا من حفل زفاف نجل بسمة وهبة    مستشفى قنا العام تسجل "صفر" فى قوائم انتظار القسطرة القلبية لأول مرة    عمرو أديب يطالب الحكومة بالكشف عن أسباب المرض الغامض في أسوان    تعليم الفيوم ينهي استعداداته لاستقبال رياض أطفال المحافظة.. صور    ريم البارودي تنسحب من مسلسل «جوما» بطولة ميرفت أمين (تفاصيل)    أخبار × 24 ساعة.. انطلاق فعاليات ملتقى فنون ذوي القدرات الخاصة    انقطاع الكهرباء عن مدينة جمصة 5 ساعات بسبب أعمال صيانه اليوم    أكثر شيوعًا لدى كبار السن، أسباب وأعراض إعتام عدسة العين    أوقاف الفيوم تفتتح أربعة مساجد اليوم الجمعة بعد الإحلال والتجديد    آية الكرسي: درع الحماية اليومي وفضل قراءتها في الصباح والمساء    الإفتاء: مشاهدة مقاطع قراءة القرآن الكريم مصحوبة بالموسيقى أو الترويج لها محرم شرعا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهوية وجدل الجمال والقبح في قصص الخيال العلمي العربية
نشر في صوت البلد يوم 14 - 08 - 2017

لقصص الخيال العلمي جمهورها عبر العالم، وفي الساحة العربية تحظى بنسبة من المتابعة إبداعاً وتلقياً. وسواء غلب على القصص طابع الخيال في تصوّر حصول أمور غريبة أو عجيبة، أو طابع العلم في إيجاد تفسيرات معقولة أو منطقية لما يجري من أحداث محيّرة، فإنّ العنصر الأدبي هو الذي يجمع بين هذين المكوّنين. فالمهم هو وجود شخصية أو شخصيات لها موقف مما يجري حولها، إعجاباً أو معاناة، أو محض تأمل، ولا بدّ من أحداث وصراع يدور في زمن ومكان حقيقيين أو متخيّلين.
وفي نظرة إلى القصص المؤلَّفة عربياً ذات طابع الخيال العلمي، فإننا نجد قواسم مشتركة تعود بها إلى الأصول السابقة لهذا الخيال، كالسفر عبر الفضاء ومواجهة الآخرين الغرباء لدى لوقيان السميساطي الكاتب السوري القديم في قصّته "قصة حقيقية"، وتجاور الواقعي والأسطوري وصراع القوى في الإلياذة والأوديسة الملحمتين اليونانيتين، واختراق المكان واكتشاف طبائع الكائنات لدى السندباد، أو كشف المستقبل والمفاجآت المخبوءة في ألف ليلة وليلة من المرويات العربية، وصولاً إلى العصر الحديث حيث لقاء الغرباء ودهشة الأماكن لدى كتّاب عديدين منهم على سبيل المثال راي برادبري، وه. ج. ويلز.
ومن خلال نموذج معاصر هو القصص المنشورة في مجلة "الخيال العلمي" التي تصدر عن وزارة الثقافة السورية في دمشق، نرصد سمات ناظمة لتجربة كتابة قصة الخيال العلمي العربية، وذلك من خلال القصص ما بين العددين الأول والأربعين إذ نجد:
1 إنّ الأسلوب الأقرب إلى الحكاية هو الأنسب لنوع الخيال العلمي، من حيث تدرّج الأحداث من بداية الظاهرة حتى نهايتها مروراً بالصراع وانتهاء بإيجاد حلّ لها أو استشراف مستقبلٍ ما. وبما أن أسلوب الحكاية شائع في كل من قصص الأطفال والأساطير، فإن قصص الخيال العلمي العربية تلتقي مع قصص الأطفال في التباين الحاد بين مفهومي الخير والشر، وهذا لا يعني أنهما مفهومان واضحان كل الوضوح داخل القصة، فخير الإنسان قد يكون شراً لسكان الكواكب الأخرى، أو لخصومه من الرجال الآليين مثلاً. كما أنها تلتقي مع قصص الأطفال في مفهوم "البطل" الذي يتحول في قصة الخيال العلمي إلى نموذج جمالي يسعى إلى الانتصار لقيمة الجمال في مواجهة القبح، سبيلاً أساسياً للوصول إلى الخير العام، وبغير هذا لا يكون بطلاً يقدّم الفائدة للمجتمع الذي ينتمي إليه، وهذا يرتبط بتحقيق مفهوم الهوية كما سيظهر من خلال نماذج مختارة من هذه القصص.
2 أما التقاء أسلوب قصص الخيال العلمي العربية مع الأساطير، فيظهر بشكل رئيسي من خلال التعرُّض للظواهر الخارقة التي قد يتمّ تفسيرها علمياً داخل القصة، أو تركُها مسرحاً للدهشة، ومن خلال محاكاة المفارقة بين مفهومي النقص والكمال من جهة، والجدلية بينهما من جهة أخرى، ففي الأساطير ثمة الإنسان، والآلهة، وأنصاف الآلهة، وتتداخل مجالات النفوذ والصلات بين هذه المفاهيم، فقد تنشب بينها حروب أو علاقات حب أو مكائد وصراعات، والأمر ذاته حاصل في القصص بين مفهومات مقابلة، هي: الإنسان، والإنسان الآلي، أو الإنسان الكائن نصف الآلي، مع ملاحظة أن العلاقات بين هذه المكوّنات مضطربة، والغالب أن كلاً منها يبقى في مكانه يخطط وينظر إلى الآخر.
3 إن أسلوب الحكاية ذاته يسمح ببعض الثغرات داخل الطبيعة الأدبية لقصص الخيال العلمي العربية، من بينها الانسياق في الأساليب الإنشائية، كوصف الأحاسيس أو جمال المكان أو قبحه ضمن تيار الوعي، إلى درجة تُنسي المتلقي الموضوع الأساسي للقصة. ويبرز أيضاً طول الحوار على حساب الحدث، إذ يتمّ تلخيص الماضي والحاضر من خلال حوار الشخصيات وهي في مكانها لا تتحرك، وقد يحتوي الحوار على سرد من العبارات التقريرية حول النظريات والعلوم مما يُضجر القارئ. ويلجأ المؤلّف أحياناً إلى ابتكار نهاية مبتورة في خاتمة القصة، ناجمة عن الحيرة في إيجاد مخرج بَعد التعقيد العلمي الحاصل داخل النص. وقريب من ذلك أيضاً جنوح النص القصصي نحو الخرافات، وامتزاج القضية العلمية الأصلية بخوارق لا يتقبّل القارئ المعاصر وجودها من دون تفسير منطقي.
4 تُجمع شريحة واسعة من قصص الخيال العلمي العربية على أهمية مفهوم "الهوية"، وغالباً يرتبط هذا المفهوم ببطل القصة الذي يرغب في إثبات ذاته، ويكون إما منتمياً إلى جماعة أرضية كوكب الأرض أو راغباً في اكتشاف أصوله نظراً لحيرته حول حقيقة أصله، وقد يقع في مأزق تحديد الهوية حين تثمر تساؤلاته عن مفاجأة كونه رجلاً آلياً من أحفاد البشر.
القوي والضعيف
يعزز وعي بطل القصة بكونه ضعيفاً من تمسكه بهويته ومحاولة الاطمئنان إلى هوية الآخر الخصم، أو الآخر المجهول الذي يبرز داخل الأحداث، وقد يضطر إلى الصراع معه. وتنصّ كل من قصة "في بطن الجبل" للدكتور طالب عمران، و"قارئ الأفكار" للدكتور فواز سيّوف على كلمة "الهوية". ففي قصة "في بطن الجبل" يقول زياد إنه سيحتفظ بالولاّعة في الكيس الذي يحتوي بطاقة هويته، وفي "قارئ الأفكار" يتم استخدام تقنية "لصق الهوية" لمعرفة هوية طرفي الاتصالإن الهدف في القصة الأولى هو حفاظ زياد وزينة على حياتهما، ورغبتهما في الخروج من المكان الخطر الذي علقا فيه. ثمة مفارقة بين العناصر القبيحة التي تحيط بهما كالخفافيش والمياه القذرة، والراحة التي حصلا عليها فجأة حين ظهر الشيخ الغريب ذو اللحية البيضاء، ومن ثمّ تبدّى حوله أتباعه وزوجته العجوز. ويجدر بالذكر أن الصورة التقليدية للشيخ بلحيته البيضاء تظهر أيضاً في قصة "حذار إنه قادم" لنهاد شريف، إذ إن هذا المظهر التقليدي للشيخ ملازم للصورة الجمعية المتخيلة له عبر محكيّات التراث وصولاً إلى العصر الحالي، وهذا ما يتصل بالتساؤل التقليدي كذلك حول هوية هذا الكائن، إذ إنّ زينة في قصة "في بطن الجبل" تسأل الشيخ عن هويته، فيؤكد لها أنه ليس من الجان.
في كل من القصتين "في بطن الجبل" و"قارئ الأفكار" لا يعاني الأبطال من خطر حقيقي يتهدد هويتهم، فزياد وزينة في قصة "في بطن الجبل" ضعيفان ولكن أهل بطن الجبل يساعدونهما من دون مقابل، ويقدّمون لهما أطايب الطعام والشراب، بما يوافق الصورة التقليدية لنعيم الجنة، وما يوافق الحلم الذي رآه زياد أثناء غيبوبته. ويستمر الواقع الجميل والمريح إلى نهاية سعيدة حيث يخرج زياد وخطيبته زينة إلى سطح الأرض ويعودان إلى أسرتيهما بعد أن حُسبا من الأموات بسبب السيول التي تسببت في انهيار المبنى الذي كانا فيه.
أما قصة "قارئ الأفكار" فهي تُقابل بين إمكانيات القوة والضعف، التي تتوافق مع احتمالات السعادة والشقاء، والجمال والقبح في واقع الحياة. فمع البرنامج المسمّى "نمر صوت" يمكن لمستخدميه أن يقرؤوا أفكار بعضهم بعضاً، ومشاعرهم، ويؤدّي هذا داخل القصة إلى كشف المطامع حيناً، ونيّات العمل الصادق حيناً آخر. ويكاد الصراع الخفي ينشب بين خبيري البرنامج الأجنبيين والمديرين المحليين الذين ينوون شراء نسخة من البرنامج وتشغيله على نطاق واسع، ولكن يتم استدراك ذلك وتعود الحياة إلى مجراها الذي ينحو إلى الجمال على حساب القبح، ويتم تعديل بعض فقرات البرنامج، فتحُول سياسة الطرفين دون الانقسام الواضح إلى قوي وضعيف.
يبرز صراع القوة والضعف على نحو كبير في قصتي "الإنسان الفوتون" للدكتور عمار سليمان علي، و"الحجرات الرقمية" لسامر أنور الشمالي. إذ إنّ بطلي القصتين يرغبان في تحدّي الكائنات الفضائية أو العجيبة غير الأرضية، واختراق مجال نشاطها، إما للسفر عبر الفضاء المكاني غير المرئي كما في "الإنسان الفوتون"، أو للعودة إلى كوكب الأرض كما في "الحجرات الرقمية".
إنّ بطل "الإنسان الفوتون" يعي ضعفه أمام الطبيعة ولكنه يتحدّاها ويقدّم أمام الجمهور فتحاً علمياً جديداً بناءً على تجربة اختبرها بنفسه عدة مرات في أوقات سابقة. إذ يتصوّر راوي القصة وجود قبيلة من الفوتونات، ويقوم بطل القصة بانتحال شخصية أحد الفوتونات ليبدو كأنه من أفراد القبيلة، وبهذا التنكّر يمكنه الحصول على مزايا الفوتون بالتنقل السريع غير المرئي عبر طرفي اتصال؛ فيذهب مثلاً من موقع مدينة أوغاريت السورية القديمة إلى المكسيك. إنه يرغب في تحقيق تجربة علمية وفق مبدأ "الكمال" جمالياً، فيمتلك الأسباب التي تجعل الحياة أسهل وأجمل في الانتقال حيثما يريد وما يتبع ذلك من إمكانيات واسعة. ولكن مفارقة القصة أن قوة البطل تتحول إلى ضعف، فقبيلة الفوتونات اكتشفت الحيلة، وامتلكت زمام القوة واحتجزت البطل لديها بلا رجعة، وانهارت أحلام الحياة الجميلة.
ولا يغيب استخدام تقنية الفوتونات عن بعض القصص المعاصرة كما في "أبي حزمة من الضوء تجوب الأكوان" لياسر محمود، حيث يختفي الرجل أثناء محاولته السفر عبر الزمن ويرجّح العلماء أنه تحول إلى طيف من الفوتونات.
إنّ السفر بهذا الشكل يذكّرنا إلى حدّ ما بقصة الدكتور عبدالسلام العجيلي "زيلوس كوكب الغيرة"، مع فارق أنّ بطل العجيلي تحوّل إلى فوتون أثناء عملية السفر، لكنّ خللاً في الإرسال جعله يتحول في نقطة الوصول إلى تابع جديد لكوكب زحل.
في قصة "الحجرات الرقمية" يتأخر البطل في التساؤل عن هويته وهدف وجوده، فهو يركن إلى حياة الدعة والراحة التي تحيل كل ما حوله إلى جمال. إنّه يتحكم في نوع الطقس في الحُجرة التي يقطنها الحُجرة الرقمية وهي نموذج لحجرات الكوكب الغريب الذي يعيش فيه، ويعدّل الإضاءة كما يشاء، وتأتي الأماكن إليه بدلاً من أن يسافر إليها. ولكنه يفطن إلى عزلته وقد استبدّ به الملل، ويوقن بأنه مجرد إنسان ضعيف يقبل بأن يكون حقلاً لتجارب يجريها عليه سكّان الكوكب الغريب، فيتساءل للمرة الأولى بما ينمّ على حنينه إلى هويته. يرغب في لقاء بشر مثله، ومغادرة المكان الرقمي إلى مكان حي، وكأنه يستوعب ثقل واقعه الممل الأقرب إلى القبح في رتابته وافتقاره إلى حركة الحياة.
غير أن مفارقة النهاية تكون في أن كوكب الأرض نفسه تحوّل إلى حجرات رقمية، أي إن الزمن المتسارع جعل حضارة الأرض تضمحلّ وتُختصر إلى ما سبقها إليه الكوكب الغريب، فضاعت الهوية المثالية التي كان البطل ينتمي إليها. وهذه النهاية العودة إلى نقطة البداية وتبادلية الأدوار أو السير على منوال الكواكب المنكوبة تَلوح في عدة قصص معاصرة، منها على سبيل المثال "أنقذوا هذا الكوكب" لصلاح معاطي، إذ يضحك العلماء من رسالة تصلهم يستنجد فيها سكان كوكبٍ بعيد فقدَ شروط الحياة لانحرافه عن مساره حول نجم مجموعته الشمسية، والسبب هو جنوح السكان عن القيم والفضائل، ليتحوّل الضحك إلى ألم حين يُعلن أحد العلماء عن اكتشافٍ يقول بأن الأرض نفسها بدأت بالخروج عن مسارها.
الرجل والمرأة
من اللافت أن الأسرة تؤدي دوراً مركزياً في قصص الخيال العلمي العربية، إذ لا تكاد قصة تخلو من أفراد الأسرة الذين يقفون إلى جانب البطل في تجاربه، كما هي زوجة بطل قصة "الإنسان الفوتون"، وزينة خطيبة زياد في قصة "في بطن الجبل"، أو يكونون جزءاً من التجارب أو متلقّين لها كما هم أفراد عائلات العلماء والطلاب في قصة "قارئ الأفكار". غير أن بعض القصص يركز على علاقة الرجل بالمرأة في كونها المحفز الأساسي لوعي البطل بمفهوم الهوية وسعيه إليه والاختلاف عن الآخر الخصم. ففي قصة "المرقوم" ل لينا كيلاني، يستوقف بطلَ القصة المرقوم وجهُ سلمى الذي يَلوح له فجأة بين الحشود، فيضيع تركيزه على الأرقام ويفقد وظيفته في السيرك، وهو في انتقاله إلى عمل آخر يتّسم بالخطورة، يَشترط أن يتركّز في إحدى راحتيه جهاز يُنبئه بالعثور على سلمى حين يمكن ذلك. لقد كان المرقوم متخبّطاً في الحياة لا يفرّق بين طموحه الشخصي وأطماع الآخرين من الساحر إلى مدير السيرك إلى قبطان السفينة إلى مديري المركز العلمي السرّي، ولكن وجود سلمى في مخيلته أيقظ شرارةً من جمال الحياة وسط رتابة الآلات وشرائح الإلكترونيات الرقمية الأقرب إلى القبح.
ويتّضح هذا القبح لاحقاً حين يكتشف المرقوم أنه عبارة عن آلة كبيرة زُرعت بالشرائح بهدف التجسس، لا بهدف تحسين حياة الناس. وتزداد الصورة قبحاً وسوداوية حين يكتشف أيضاً بأنه مراقَب. لقد قرر أن الطريقة الوحيدة لإثبات هويته الخيّرة المنفصلة عن الآخرين هي أن يقضي على نفسه، ولكن هذا الخيار لم يكن في يده.
وتشبه نهاية "المرقوم" إلى حد كبير النهاية في قصة "حذار إنه قادم" لنهاد شريف، فبطل "حذار إنه قادم" يدرك متأخراً بأنه عبارة عن رجل نصف آلي، هدف العلماء هو تحويله إلى إنسان. ويقترن مفهوم الإنسان بالمتوحشين الذين دمروا كوكبهم فيما سبق من الزمان. لذا فإن البطل يرغب عن هذه التجربة، ويهرب بعيداً إلى الغابة، ليكتشف بقايا "المتوحشين" ويعجب بفتاتهم "سوها" وتكون منفذاً له إلى إدراك الجمال والإحساس به. وهنا يدرك البطل الفارق الآلي بينه وبين المتوحشين، وصعوبة معيشته بينهم، ولذلك يقرر الانتقام من صانعيه، الذين يرمز مركزهم العلمي النووي إلى القبح مقابل جمال الحياة في وحشيتها، ويذهب إلى المركز وفي نيته تفجير نفسه فيه. إنه في هذه القصة يمتلك أسباب الفعل التدميري لذاته وللآخرين، بشكل يختلف عن "المرقوم".
وتتميز قصة "أقنعة" لصلاح معاطي بأن أحداثها تدور في بيئة بشرية خالية من الآلات. إنّ البطل الشاب "أحمد عبدالفتاح" يتمرّد على الواقع الذي لا يبصر منه سوى القبح والنفاق والزيف في سلوك الناس وأفعالهم، فيحصل على قناع جديد لوجه عجوز، يحتوي على "مادة سحرية" كما يصفها الطبيب، ويغيّر اسمه إلى "رشاد"، ويتطبّع بطباع رجل عجوز. وينخرط في حياة جديدة لا أحد يعرفه فيها، وينفصل عن كل واقعه القديم، ولا تشير القصة إلى أنه بات واقعاً أقل قبحاً. ويصادف أن يقع حادث لرشاد، إذ تصدمه سيارة فتاة ووالدها، فيقبع في المستشفى ويتعرف هذين الشخصين ويعجب بالفتاة. وهنا يرغب في تغيير واقعه إلى الأجمل والعودة إلى الشخصية القديمة حيث "أحمد عبدالفتاح" الشاب، ولكن يسقط في يده، وتنتابه الخيبة والرعب حين لا يسفر خلع القناع عن شيء، فقد اكتسى وجهه الشاب القديم سمات القناع الجديد، وتشرّبها فصارا شيئاً واحداً، ليكون إنكاره هويته وسعيه إلى التخلص منها نافذة على شقاء وقبح جديد لا جمال فيه كما كان يعتقد.
.....
د. علياء الداية قاصة وأكاديمية في جامعة حلب
لقصص الخيال العلمي جمهورها عبر العالم، وفي الساحة العربية تحظى بنسبة من المتابعة إبداعاً وتلقياً. وسواء غلب على القصص طابع الخيال في تصوّر حصول أمور غريبة أو عجيبة، أو طابع العلم في إيجاد تفسيرات معقولة أو منطقية لما يجري من أحداث محيّرة، فإنّ العنصر الأدبي هو الذي يجمع بين هذين المكوّنين. فالمهم هو وجود شخصية أو شخصيات لها موقف مما يجري حولها، إعجاباً أو معاناة، أو محض تأمل، ولا بدّ من أحداث وصراع يدور في زمن ومكان حقيقيين أو متخيّلين.
وفي نظرة إلى القصص المؤلَّفة عربياً ذات طابع الخيال العلمي، فإننا نجد قواسم مشتركة تعود بها إلى الأصول السابقة لهذا الخيال، كالسفر عبر الفضاء ومواجهة الآخرين الغرباء لدى لوقيان السميساطي الكاتب السوري القديم في قصّته "قصة حقيقية"، وتجاور الواقعي والأسطوري وصراع القوى في الإلياذة والأوديسة الملحمتين اليونانيتين، واختراق المكان واكتشاف طبائع الكائنات لدى السندباد، أو كشف المستقبل والمفاجآت المخبوءة في ألف ليلة وليلة من المرويات العربية، وصولاً إلى العصر الحديث حيث لقاء الغرباء ودهشة الأماكن لدى كتّاب عديدين منهم على سبيل المثال راي برادبري، وه. ج. ويلز.
ومن خلال نموذج معاصر هو القصص المنشورة في مجلة "الخيال العلمي" التي تصدر عن وزارة الثقافة السورية في دمشق، نرصد سمات ناظمة لتجربة كتابة قصة الخيال العلمي العربية، وذلك من خلال القصص ما بين العددين الأول والأربعين إذ نجد:
1 إنّ الأسلوب الأقرب إلى الحكاية هو الأنسب لنوع الخيال العلمي، من حيث تدرّج الأحداث من بداية الظاهرة حتى نهايتها مروراً بالصراع وانتهاء بإيجاد حلّ لها أو استشراف مستقبلٍ ما. وبما أن أسلوب الحكاية شائع في كل من قصص الأطفال والأساطير، فإن قصص الخيال العلمي العربية تلتقي مع قصص الأطفال في التباين الحاد بين مفهومي الخير والشر، وهذا لا يعني أنهما مفهومان واضحان كل الوضوح داخل القصة، فخير الإنسان قد يكون شراً لسكان الكواكب الأخرى، أو لخصومه من الرجال الآليين مثلاً. كما أنها تلتقي مع قصص الأطفال في مفهوم "البطل" الذي يتحول في قصة الخيال العلمي إلى نموذج جمالي يسعى إلى الانتصار لقيمة الجمال في مواجهة القبح، سبيلاً أساسياً للوصول إلى الخير العام، وبغير هذا لا يكون بطلاً يقدّم الفائدة للمجتمع الذي ينتمي إليه، وهذا يرتبط بتحقيق مفهوم الهوية كما سيظهر من خلال نماذج مختارة من هذه القصص.
2 أما التقاء أسلوب قصص الخيال العلمي العربية مع الأساطير، فيظهر بشكل رئيسي من خلال التعرُّض للظواهر الخارقة التي قد يتمّ تفسيرها علمياً داخل القصة، أو تركُها مسرحاً للدهشة، ومن خلال محاكاة المفارقة بين مفهومي النقص والكمال من جهة، والجدلية بينهما من جهة أخرى، ففي الأساطير ثمة الإنسان، والآلهة، وأنصاف الآلهة، وتتداخل مجالات النفوذ والصلات بين هذه المفاهيم، فقد تنشب بينها حروب أو علاقات حب أو مكائد وصراعات، والأمر ذاته حاصل في القصص بين مفهومات مقابلة، هي: الإنسان، والإنسان الآلي، أو الإنسان الكائن نصف الآلي، مع ملاحظة أن العلاقات بين هذه المكوّنات مضطربة، والغالب أن كلاً منها يبقى في مكانه يخطط وينظر إلى الآخر.
3 إن أسلوب الحكاية ذاته يسمح ببعض الثغرات داخل الطبيعة الأدبية لقصص الخيال العلمي العربية، من بينها الانسياق في الأساليب الإنشائية، كوصف الأحاسيس أو جمال المكان أو قبحه ضمن تيار الوعي، إلى درجة تُنسي المتلقي الموضوع الأساسي للقصة. ويبرز أيضاً طول الحوار على حساب الحدث، إذ يتمّ تلخيص الماضي والحاضر من خلال حوار الشخصيات وهي في مكانها لا تتحرك، وقد يحتوي الحوار على سرد من العبارات التقريرية حول النظريات والعلوم مما يُضجر القارئ. ويلجأ المؤلّف أحياناً إلى ابتكار نهاية مبتورة في خاتمة القصة، ناجمة عن الحيرة في إيجاد مخرج بَعد التعقيد العلمي الحاصل داخل النص. وقريب من ذلك أيضاً جنوح النص القصصي نحو الخرافات، وامتزاج القضية العلمية الأصلية بخوارق لا يتقبّل القارئ المعاصر وجودها من دون تفسير منطقي.
4 تُجمع شريحة واسعة من قصص الخيال العلمي العربية على أهمية مفهوم "الهوية"، وغالباً يرتبط هذا المفهوم ببطل القصة الذي يرغب في إثبات ذاته، ويكون إما منتمياً إلى جماعة أرضية كوكب الأرض أو راغباً في اكتشاف أصوله نظراً لحيرته حول حقيقة أصله، وقد يقع في مأزق تحديد الهوية حين تثمر تساؤلاته عن مفاجأة كونه رجلاً آلياً من أحفاد البشر.
القوي والضعيف
يعزز وعي بطل القصة بكونه ضعيفاً من تمسكه بهويته ومحاولة الاطمئنان إلى هوية الآخر الخصم، أو الآخر المجهول الذي يبرز داخل الأحداث، وقد يضطر إلى الصراع معه. وتنصّ كل من قصة "في بطن الجبل" للدكتور طالب عمران، و"قارئ الأفكار" للدكتور فواز سيّوف على كلمة "الهوية". ففي قصة "في بطن الجبل" يقول زياد إنه سيحتفظ بالولاّعة في الكيس الذي يحتوي بطاقة هويته، وفي "قارئ الأفكار" يتم استخدام تقنية "لصق الهوية" لمعرفة هوية طرفي الاتصالإن الهدف في القصة الأولى هو حفاظ زياد وزينة على حياتهما، ورغبتهما في الخروج من المكان الخطر الذي علقا فيه. ثمة مفارقة بين العناصر القبيحة التي تحيط بهما كالخفافيش والمياه القذرة، والراحة التي حصلا عليها فجأة حين ظهر الشيخ الغريب ذو اللحية البيضاء، ومن ثمّ تبدّى حوله أتباعه وزوجته العجوز. ويجدر بالذكر أن الصورة التقليدية للشيخ بلحيته البيضاء تظهر أيضاً في قصة "حذار إنه قادم" لنهاد شريف، إذ إن هذا المظهر التقليدي للشيخ ملازم للصورة الجمعية المتخيلة له عبر محكيّات التراث وصولاً إلى العصر الحالي، وهذا ما يتصل بالتساؤل التقليدي كذلك حول هوية هذا الكائن، إذ إنّ زينة في قصة "في بطن الجبل" تسأل الشيخ عن هويته، فيؤكد لها أنه ليس من الجان.
في كل من القصتين "في بطن الجبل" و"قارئ الأفكار" لا يعاني الأبطال من خطر حقيقي يتهدد هويتهم، فزياد وزينة في قصة "في بطن الجبل" ضعيفان ولكن أهل بطن الجبل يساعدونهما من دون مقابل، ويقدّمون لهما أطايب الطعام والشراب، بما يوافق الصورة التقليدية لنعيم الجنة، وما يوافق الحلم الذي رآه زياد أثناء غيبوبته. ويستمر الواقع الجميل والمريح إلى نهاية سعيدة حيث يخرج زياد وخطيبته زينة إلى سطح الأرض ويعودان إلى أسرتيهما بعد أن حُسبا من الأموات بسبب السيول التي تسببت في انهيار المبنى الذي كانا فيه.
أما قصة "قارئ الأفكار" فهي تُقابل بين إمكانيات القوة والضعف، التي تتوافق مع احتمالات السعادة والشقاء، والجمال والقبح في واقع الحياة. فمع البرنامج المسمّى "نمر صوت" يمكن لمستخدميه أن يقرؤوا أفكار بعضهم بعضاً، ومشاعرهم، ويؤدّي هذا داخل القصة إلى كشف المطامع حيناً، ونيّات العمل الصادق حيناً آخر. ويكاد الصراع الخفي ينشب بين خبيري البرنامج الأجنبيين والمديرين المحليين الذين ينوون شراء نسخة من البرنامج وتشغيله على نطاق واسع، ولكن يتم استدراك ذلك وتعود الحياة إلى مجراها الذي ينحو إلى الجمال على حساب القبح، ويتم تعديل بعض فقرات البرنامج، فتحُول سياسة الطرفين دون الانقسام الواضح إلى قوي وضعيف.
يبرز صراع القوة والضعف على نحو كبير في قصتي "الإنسان الفوتون" للدكتور عمار سليمان علي، و"الحجرات الرقمية" لسامر أنور الشمالي. إذ إنّ بطلي القصتين يرغبان في تحدّي الكائنات الفضائية أو العجيبة غير الأرضية، واختراق مجال نشاطها، إما للسفر عبر الفضاء المكاني غير المرئي كما في "الإنسان الفوتون"، أو للعودة إلى كوكب الأرض كما في "الحجرات الرقمية".
إنّ بطل "الإنسان الفوتون" يعي ضعفه أمام الطبيعة ولكنه يتحدّاها ويقدّم أمام الجمهور فتحاً علمياً جديداً بناءً على تجربة اختبرها بنفسه عدة مرات في أوقات سابقة. إذ يتصوّر راوي القصة وجود قبيلة من الفوتونات، ويقوم بطل القصة بانتحال شخصية أحد الفوتونات ليبدو كأنه من أفراد القبيلة، وبهذا التنكّر يمكنه الحصول على مزايا الفوتون بالتنقل السريع غير المرئي عبر طرفي اتصال؛ فيذهب مثلاً من موقع مدينة أوغاريت السورية القديمة إلى المكسيك. إنه يرغب في تحقيق تجربة علمية وفق مبدأ "الكمال" جمالياً، فيمتلك الأسباب التي تجعل الحياة أسهل وأجمل في الانتقال حيثما يريد وما يتبع ذلك من إمكانيات واسعة. ولكن مفارقة القصة أن قوة البطل تتحول إلى ضعف، فقبيلة الفوتونات اكتشفت الحيلة، وامتلكت زمام القوة واحتجزت البطل لديها بلا رجعة، وانهارت أحلام الحياة الجميلة.
ولا يغيب استخدام تقنية الفوتونات عن بعض القصص المعاصرة كما في "أبي حزمة من الضوء تجوب الأكوان" لياسر محمود، حيث يختفي الرجل أثناء محاولته السفر عبر الزمن ويرجّح العلماء أنه تحول إلى طيف من الفوتونات.
إنّ السفر بهذا الشكل يذكّرنا إلى حدّ ما بقصة الدكتور عبدالسلام العجيلي "زيلوس كوكب الغيرة"، مع فارق أنّ بطل العجيلي تحوّل إلى فوتون أثناء عملية السفر، لكنّ خللاً في الإرسال جعله يتحول في نقطة الوصول إلى تابع جديد لكوكب زحل.
في قصة "الحجرات الرقمية" يتأخر البطل في التساؤل عن هويته وهدف وجوده، فهو يركن إلى حياة الدعة والراحة التي تحيل كل ما حوله إلى جمال. إنّه يتحكم في نوع الطقس في الحُجرة التي يقطنها الحُجرة الرقمية وهي نموذج لحجرات الكوكب الغريب الذي يعيش فيه، ويعدّل الإضاءة كما يشاء، وتأتي الأماكن إليه بدلاً من أن يسافر إليها. ولكنه يفطن إلى عزلته وقد استبدّ به الملل، ويوقن بأنه مجرد إنسان ضعيف يقبل بأن يكون حقلاً لتجارب يجريها عليه سكّان الكوكب الغريب، فيتساءل للمرة الأولى بما ينمّ على حنينه إلى هويته. يرغب في لقاء بشر مثله، ومغادرة المكان الرقمي إلى مكان حي، وكأنه يستوعب ثقل واقعه الممل الأقرب إلى القبح في رتابته وافتقاره إلى حركة الحياة.
غير أن مفارقة النهاية تكون في أن كوكب الأرض نفسه تحوّل إلى حجرات رقمية، أي إن الزمن المتسارع جعل حضارة الأرض تضمحلّ وتُختصر إلى ما سبقها إليه الكوكب الغريب، فضاعت الهوية المثالية التي كان البطل ينتمي إليها. وهذه النهاية العودة إلى نقطة البداية وتبادلية الأدوار أو السير على منوال الكواكب المنكوبة تَلوح في عدة قصص معاصرة، منها على سبيل المثال "أنقذوا هذا الكوكب" لصلاح معاطي، إذ يضحك العلماء من رسالة تصلهم يستنجد فيها سكان كوكبٍ بعيد فقدَ شروط الحياة لانحرافه عن مساره حول نجم مجموعته الشمسية، والسبب هو جنوح السكان عن القيم والفضائل، ليتحوّل الضحك إلى ألم حين يُعلن أحد العلماء عن اكتشافٍ يقول بأن الأرض نفسها بدأت بالخروج عن مسارها.
الرجل والمرأة
من اللافت أن الأسرة تؤدي دوراً مركزياً في قصص الخيال العلمي العربية، إذ لا تكاد قصة تخلو من أفراد الأسرة الذين يقفون إلى جانب البطل في تجاربه، كما هي زوجة بطل قصة "الإنسان الفوتون"، وزينة خطيبة زياد في قصة "في بطن الجبل"، أو يكونون جزءاً من التجارب أو متلقّين لها كما هم أفراد عائلات العلماء والطلاب في قصة "قارئ الأفكار". غير أن بعض القصص يركز على علاقة الرجل بالمرأة في كونها المحفز الأساسي لوعي البطل بمفهوم الهوية وسعيه إليه والاختلاف عن الآخر الخصم. ففي قصة "المرقوم" ل لينا كيلاني، يستوقف بطلَ القصة المرقوم وجهُ سلمى الذي يَلوح له فجأة بين الحشود، فيضيع تركيزه على الأرقام ويفقد وظيفته في السيرك، وهو في انتقاله إلى عمل آخر يتّسم بالخطورة، يَشترط أن يتركّز في إحدى راحتيه جهاز يُنبئه بالعثور على سلمى حين يمكن ذلك. لقد كان المرقوم متخبّطاً في الحياة لا يفرّق بين طموحه الشخصي وأطماع الآخرين من الساحر إلى مدير السيرك إلى قبطان السفينة إلى مديري المركز العلمي السرّي، ولكن وجود سلمى في مخيلته أيقظ شرارةً من جمال الحياة وسط رتابة الآلات وشرائح الإلكترونيات الرقمية الأقرب إلى القبح.
ويتّضح هذا القبح لاحقاً حين يكتشف المرقوم أنه عبارة عن آلة كبيرة زُرعت بالشرائح بهدف التجسس، لا بهدف تحسين حياة الناس. وتزداد الصورة قبحاً وسوداوية حين يكتشف أيضاً بأنه مراقَب. لقد قرر أن الطريقة الوحيدة لإثبات هويته الخيّرة المنفصلة عن الآخرين هي أن يقضي على نفسه، ولكن هذا الخيار لم يكن في يده.
وتشبه نهاية "المرقوم" إلى حد كبير النهاية في قصة "حذار إنه قادم" لنهاد شريف، فبطل "حذار إنه قادم" يدرك متأخراً بأنه عبارة عن رجل نصف آلي، هدف العلماء هو تحويله إلى إنسان. ويقترن مفهوم الإنسان بالمتوحشين الذين دمروا كوكبهم فيما سبق من الزمان. لذا فإن البطل يرغب عن هذه التجربة، ويهرب بعيداً إلى الغابة، ليكتشف بقايا "المتوحشين" ويعجب بفتاتهم "سوها" وتكون منفذاً له إلى إدراك الجمال والإحساس به. وهنا يدرك البطل الفارق الآلي بينه وبين المتوحشين، وصعوبة معيشته بينهم، ولذلك يقرر الانتقام من صانعيه، الذين يرمز مركزهم العلمي النووي إلى القبح مقابل جمال الحياة في وحشيتها، ويذهب إلى المركز وفي نيته تفجير نفسه فيه. إنه في هذه القصة يمتلك أسباب الفعل التدميري لذاته وللآخرين، بشكل يختلف عن "المرقوم".
وتتميز قصة "أقنعة" لصلاح معاطي بأن أحداثها تدور في بيئة بشرية خالية من الآلات. إنّ البطل الشاب "أحمد عبدالفتاح" يتمرّد على الواقع الذي لا يبصر منه سوى القبح والنفاق والزيف في سلوك الناس وأفعالهم، فيحصل على قناع جديد لوجه عجوز، يحتوي على "مادة سحرية" كما يصفها الطبيب، ويغيّر اسمه إلى "رشاد"، ويتطبّع بطباع رجل عجوز. وينخرط في حياة جديدة لا أحد يعرفه فيها، وينفصل عن كل واقعه القديم، ولا تشير القصة إلى أنه بات واقعاً أقل قبحاً. ويصادف أن يقع حادث لرشاد، إذ تصدمه سيارة فتاة ووالدها، فيقبع في المستشفى ويتعرف هذين الشخصين ويعجب بالفتاة. وهنا يرغب في تغيير واقعه إلى الأجمل والعودة إلى الشخصية القديمة حيث "أحمد عبدالفتاح" الشاب، ولكن يسقط في يده، وتنتابه الخيبة والرعب حين لا يسفر خلع القناع عن شيء، فقد اكتسى وجهه الشاب القديم سمات القناع الجديد، وتشرّبها فصارا شيئاً واحداً، ليكون إنكاره هويته وسعيه إلى التخلص منها نافذة على شقاء وقبح جديد لا جمال فيه كما كان يعتقد.
.....
د. علياء الداية قاصة وأكاديمية في جامعة حلب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.