لماذا تأخر التغيير الحكومي كل هذا الوقت؟ معيار اختيار الأكفأ لتحقيق الرضا الشعبي وتخفيف الأعباء عن المواطن وحركة شاملة للمحافظين    أوروجواي يطيح بالولايات المتحدة صاحب الأرض من كوبا أمريكا    طلاب الثانوية العامة بالجيزة يتوافدون لأداء امتحان اللغة الأجنبية الأولى    شديد الحرارة.. تعرف على حالة الطقس اليوم الثلثاء    مهرجان العلمين.. «الترفيه» والطريق إلى الإنسانية    مستشار سابق بالبنتاجون: العالم كله سئم منا وأمريكا ستفقد الهيمنة على العالم (فيديو)    كوريا الشمالية تختبر صاروخا بالستيا ضخما بوزن 4.5 طن    تقرير عبري: نصر الله غير مكانه بعد تلقيه تحذيرا من المخابرات الإيرانية بأن إسرائيل تنوي تصفيته    حدث ليلا.. ارتفاع عدد قتلى وجرحى الاحتلال إلى أكثر من 4 آلاف ووباء يهدد مليار شخص    واشنطن: حادثة طعن في إحدى محطات المترو    وزارة العمل تعلن عن 120 وظيفة بشرم الشيخ ورأس سدر والطور    بيراميدز يقرر رفع دعوى قضائية ضد ثروت سويلم المتحدث باسم رابطة الأندية    حملات مكثفة لمتابعة تطبيق غلق المحال التجارية بالإسماعيلية    أسعار اللحوم والأسماك اليوم 2 يوليو 2024    مصرع شخصين وإصابة 10 في انقلاب ميكروباص بطريق مصر الفيوم    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين بقتل «طفل شبرا الخيمة»    الثانوية العامة 2024| اليوم.. طلاب بني سويف يؤدون امتحان مادة اللغة الإنجليزية    ألقى بنفسه من على السلم.. انتحار روبوت في كوريا الجنوبية    خالد داوود: جمال مبارك كان يعقد لقاءات في البيت الأبيض    أبطال فيلم «عصابة الماكس» يحضرون عرض مسرحية «ملك والشاطر»    أمين الفتوى: وثيقة التأمين على الحياة ليست حراما وتتوافق مع الشرع    ملف يلا كورة.. موقف ثنائي الأهلي من الأولمبياد.. رحيل لاعب الزمالك.. وأزمة بيراميدز    مفاوضات مع جورج كلوني للانضمام إلى عالم مارفل    فودة يفتتح أول مطعم أسيوي بممشي السلام في شرم الشيخ    طرح شقق الأوقاف 2024.. المستندات المطلوبة وشروط الحجز    نتنياهو: المرحلة الرئيسية من الحرب ضد "حماس" ستنتهي قريبا    كوبا أمريكا.. أوروجواي 0-0 أمريكا.. بنما 0-0 بوليفيا    رئيس حزب «الغد»: يجب على الحكومة الجديدة إعطاء الأولوية لملفي الصحة والتعليم    أحمد حجازي يحسم مصيره مع اتحاد جدة.. ويكشف تفاصيل عرض نيوم السعودي    أرملة عزت أبو عوف تحيى ذكري وفاته بكلمات مؤثرة    خلال أيام.. البترول تعلن مفاجأة بشأن إلغاء تخفيف الأحمال نهائيا في فصل الصيف (تفاصيل)    «الإفتاء» توضح حكم تغيير اتجاه القبلة عند الانتقال إلى سكن جديد    الأزهر يعلن صرف الإعانة الشهرية لمستحقي الدعم الشهري اليوم    مخاطر الأجواء الحارة على مرضى الصحة النفسية.. انتكاسة العقل    3 مشروبات عليك تجنبها إذا كنت تعاني من مرض القلب.. أبرزها العصائر المعلبة    حيل ونصائح تساعد على التخلص من النمل في المنزل بفصل الصيف    متى تنتهي أزمة نقص الدواء في مصر؟..البرلمان يجيب    الزمالك يتقدم بشكوى رسمية لرابطة الأندية ضد ثروت سويلم    «نيبينزيا» يعطي تلميحا بإمكانية رفع العقوبات عن طالبان    قضايا الدولة تهنئ المستشار عبد الراضي بتعيينه رئيسًا لنيابة الإدارية    جامعة الأزهر تعلن تسخير جميع الإمكانات لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة    الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد جنوده وإصابة آخر في انفجار قنبلة بالضفة الغربية    موعد الإعلان عن الحكومة الجديدة وأداء اليمين الدستورية.. أحمد موسي يكشف (فيديو)    عبدالله جورج: الزمالك سيحصل على الرخصة الإفريقية    دولتان تتصدران مشتريات خام الأورال الروسي في يونيو    خالد داوود: أمريكا قررت دعم الإخوان بعد أحداث 11 سبتمبر (فيديو)    تهانينا للنجاح في امتحانات الدبلومات الفنية لعام 2024    ناقد فني: شيرين تعاني من أزمة نفسية وخبر خطبتها "مفبرك"    فى ذكرى ميلاده ال«80».. وحيد حامد الذى «كشف المستور»    العالم علمين| عمرو الفقي: المهرجانات محرك أساسي لتنشيط السياحة وترويج المدن الجديدة.. وتخصيص 60% من أرباح مهرجان العلمين لفلسطين    استخراج الجثة السابعة لفتاة إثر انهيار منزل بأسيوط    ميدو: الكرة المصرية تستند على لوائح جار عليها الزمن    تنسيق الثانوية 2024.. تعرف على أقسام وطبيعة الدراسة بكلية التربية الموسيقية حلوان    تعرف على توقعات برج الثور اليوم 2 يوليو 2024    برلماني: المكالمات المزعجة للترويج العقاري أصبحت فجة ونحتاج تنظيمها (فيديو)    انطلاق فعاليات المسح الميداني بقرى الدقهلية لاكتشاف حالات الإصابة بالبلهارسيا    أمين الفتوى عن الهدايا بعد فسخ الخطوبة: «لا ترد إلا الذهب»    غدا.. "بيت الزكاة والصدقات" يبدء صرف إعانة يوليو للمستحقين بالجمهورية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سؤال الهُوية وقتل الأب في رواية «قيد الدرس»
نشر في صوت البلد يوم 21 - 04 - 2016

"هل إذا تمنّى المرء موت أبيه ثم قُتل أبوه يكون مشاركًا في الجريمة؟» هكذا تساءل إيفان كارامازوف الابن الثاني والمعروف عنه بالإلحاد والجدال في قضايا الدين في رواية «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكى، التساؤل جاء كنوعٍ من تأنيب الضمير، وإن كان عكس إحساسًا داخليًّا برغبة قتل الأب، نفس الإحساس الذي شعر به إيفان هو ما راود جميع شخصيات رواية لنا عبد الرحمن «قيد الدرس» الصّادرة عن دار الآداب بيروت 2015، على اختلاف تركيبتهم وعلاقتهم بالأب، وإن كان حسّان وياسمين أكثر شخصيتْن إجهازًا على صورة الأب الرومانطيقية، بتعريتها من مفهوم الأبوة الكلاسيكي؛ فياسيمن في حومة الهجوم عليها ومحاكمتها على هروبها وعملها في المطعم كراقصة ثارت على الجميع وأدانت الأب فهي لم تُمارس العهر كما يتهمونها، فترى أنّ «العهر الأكبر حين غادرنا أب لم يُبالِ بترك عائلة وحيدة وسط الفقر والحاجة» (ص 184)
اختلفت أسباب القتل في الروايات التي جعلت من قتل الأب تيمة لها، مثل «الإخوة كارامازوف» ورائعة نجيب محفوظ «السّراب»، فبعضها مُتعلِّقٌ بِالميراث، وكثير منها مُتعلق بجوانب نفسية حيث تفضيل الأب لأحد أبنائه على الآخرين، أو أزمات سببها غياب الأب كما هو الحال في رواية لنا عبد الرحمن، فالقتل هنا مبعثه افتقاد الهُوية، وليس الهوية الورقية التي تحقّقت لشخصيات الرواية بقرار سياسي عام 1994، وإنما هوية الانتماء التي بحث الجميع عنها في صورة الأب، ومع الأسف تركهم «للأشباح الواقعيين والمتخيلين» كما تقول ليلى وهي تتحسر في نوبات الألم والندم على تركها الدراسة.
 الأب الضائع
جميع شخصيات الرواية على اختلاف انتماءاتها، وأيضًا اختلاف مراحلها العمرية، حيث تنتتمي الرواية في أحد جوانبها إلى روايات الأجيال التي تصل إلى أربعة أجيال بدءًا من جيل الجدة سعاد وصولا بالحفدة؛ سامي وأنس ابن حسن، ونايا ابنة ياسمين. كان الجميع يبحث عن الأب الذي ضاع لأسباب مختلفة، منها لسعيه وراء المال كما في حالة الجدة سعاد؛ فالأب الحاج رضا كان مُنْشَغِلاً بتجارة الأقمشة في «سوق إياس»، وكان يتركها بمفردها في البيت وحيدة ويذهب مع أخيها الأكبر أحمد لتجارته، فوقعت أسيرة لحكايات البنات اللاتي عرَّفنها على عوّاد الكردي الذي كان يبيع الأثواب والعطور والحُليّ، بسبب نزواته كما في حالة الأم نجوى وقعت ضحيّة لأب كان يهجرهم لأشهر متنقلاً بين بيوت زوجاته، ويخلط بين أسماء أطفاله لكثرتهم، وبعد زواجها وقعت ضحية لزوج مناضل شيوعي باسم عبد الله، يهجرها من أجل قضايا وطنية، ولكن مع الأسف «لم يجد الانتماء لا في الأوطان ولا في السلاح، ولا في المرأة التي أحبها» لذا «ظلت صورة الرجل في ذهنها مهتزة بين أب دنجوان فقد شرعيته في نظرها منذ أن منحها اسم راقصة أحبها وبين زوج غير عاطفي غادرها بعد ثلاثة أيام من الزواج» (ص،29)، أو لأسباب متلعلقة باللعنة التي سرت في العائلة ووصلت إلى حسن وياسمين أبناء ليلى وباسم عبد الله.
تكرَّرت مأساة افتقاد الأب على مستوى الأبناء، كما أنها خَلَقَتْ أزمة لجميع الأبناء، فليلى كانت «تتحسَّر على عدم وجود أسرة تحميها .... أو أب يدافع عنها»، وحسّان مِن شدَّة الكراهية لهذا الأب قتله معنويًا عبر أسئلته، لكن الفاجعئة أن مِن وَطَأْة ما فعله الأب بهم، بعضهم كرّر مأساته خاصّة ياسمين وحسن والأخير صار نسخة منه، فَهَجَرَ البيت بعد سرقة خالته كانتقام على التحوّلات التي لحقت بأخته ياسمين من جرّاء تَعَلُّقها بخالتها ملكة التي عادت من البرازيل بعد وفاة زوجها بأموال كثيرة، ثم في مرحلة لاحقة التحق بالجماعات الدينيّة المتطرفة التي ازدهرت في التسعينيات، وكذلك على مستوى الأحفاد فسامي ابن الثلاثة عشر عامًا أسئلته عن الحياة تُحزن الأم لأنّه مثلها «بحث عن الأب ولم يجده، وسيظل طول حياته يتوق لمن يمنحه تلك العاطفة المنقوصة».
 الهوية المفقودة
تنشغل الرواية بالهوية المفقودة، وما سببته هذه الهوية من آلام لأسرة باسم عبد الله المُناضل الشيوعي الذي راح يُطارد «الهوية الورقيّة» ظانًا أنها خلاصه، حاملاً السّلاح تارة وتارة هاربًا مخلفًا خلفه هوية «افتقاد الأب» التي عانى منها الأبناء، وستنتقل في علاقة دائرية إلى الأحفاد، وقد تحوَّلت إلى لعنة لهم، طاردتهم في كلِّ مكانٍ حلُّوا فيه، وأيضًا إلى تساؤلات أشبه بمشانق غرضها قتل الأب.
تعمد الكاتبة إلى حيلة تقنية على مستوى البناء، فتبدأ الرواية من النهاية حيث عودة حسّان أخو ليلى من فرنسا في زيارة قصيرة ليأخذ ابنها سامي ويعود به من حيث أتى بعد أن تركته أمانة معه، لأنها ستجري عملية، لا تعرف عاقبتها، فكرة البداية من النهاية ثم تبدأ التدرج وفق البناء الهرمي المقلوب الذي بنيت عليه أحداث الرواية، لكن الجميل أنها تستغل هذه الدائرية التي هي سمة مميزة للعمل ككل، لتظهر اللعنة التي حلَّت بالجميع؛ فعلى مستوى الشخصيات ياسمين تُكرّر سعاد، وحسن يُكرِّر الأب رغم رغبته في قتله بالمعني الفرويدي، وليلى تجتر مأساة نجوى وتَوْرث منها لعنة الفشل، وعملية التكرار على مستوى الشخصيات، ودائرية النّص تسير على الزمن مع إنه يتراوح بين زمانين ماضٍ وحاضر، وإن كان الماضي ينقسم هو الآخر إلى ماضٍ بعيد حيث حكاية الجدة، وزوجات عوّاد الأربعة، والحياة في دير السرو، وآخر أبعد حيث ماضي التهجير القسري الذي فُرض على الفلسطينين منذ عام 1922، وما حاق بالقرى السبعة، إلى ماضٍ قريب ماثل في حرب بيروت عام 1982، وصولا إلى الزمن الحاضر حيث الثورة السورية وما تلاها من صراع جبهات مُتعدِّدة. إلى جانب هذه المراوحة في الأزمنة والأمكنة؛ دير السّرو شتورة وادي أبو جميل، بيروت الفكهاني، وفرنسا، ثمة مراوحة في الرواة، فالسّرد الذي يسطير عليه الرّاوي الغائب يرصد عن جميع الشخصيات باستنثاء حسّان وليلى اللذين يرويان بالأنا، كما أن ثمّة تردّد للراوي الأنت، كما في حالة حسّان وهو يخاطب ذاته رغم أنه يسرد عن ذاته في الفصل السّابق وعلاقته بصولا وموقفه من أبيه. الشيء الملاحظ أن الراوي الغائب الذي يسرد عن نجوى، في أحيان معينة يبدو شخصًا لصيقًا بها ويقدم آراء واعتراضات في صيغة نصائح، فما أن تتغيّر نجوى بسبب علاقة الحب بينها وبين جانو النجار الذي كان يحبها قبل زواجها، يقول الراوي «لكن الحب في وقت متأخر لن يحظى برضا العائلة، وَسُيعتبر خيانة» (ص،175)
 تعثُّر الأحلام
لم تنجح شخصية واحدة في تحقيق ما تصبوا إليه من آمال أو طموحات، حتى ولو كانت ضئيلة، باستنثاء شخصية وهيب أخو نجوى الذي على الأقل نجى من الصراعات، ففضّل أن يبقى مع دجاجاته، كان مسالمًا بعكس الشَّخصيات الأخرى التي عركتها الحياة فتخلّت عن أحلامها البسطية مثل ليلى التي انقطعت عن التعليم لعدم استقرار الأسرة وعدم وجود مال، فاضّطرت إلى أن تعمل، ثم فقدانها حبهال ربيع، وهو ما جعلها تسقط في زواجات فاشلة بدءًا من حميد وصولاً إلى ماهر الطبّاخ القادم من إسبانيا، ثمّ الصّدمة الكبرى عندما راودها الشك بأنّ ثمّة علاقة بينه وبين بأختها ياسمين، فيتلاشى كلّ شيء و«لم يبق لها سوى نظرة عين ساهمة، ووجنتان غائرتان، وهالات زرقاء حول عينها». باسم الشخصية الإشكالية الذي ظلّ رفيقًا للبندقية حتى تجلت الخيانة بقتل صديقه أمام عينيه فعاد إلى أولاده، هو أكثر الشخصيات انهزامية بعد ليلى ففي ظلِّ بحثه الدائم عن هويته الضَّائِعَة لم يجنِ سوى الهُروب والغياب، واكتفى بجلد الذّات بحكايات عن الوطن المفقود، وإن كان قاوم قليلاً بالبندقية، إلا أنه فضل الهرب في النهاية، أما حسن الصغير الذي كان يحبه الأب، فما أن صُدِم بأبيه وأخته حتى ترك دراسته وأطلق لحيته، ولزم الصمت فترة، ثم هاجر هو الآخر ليقاتل في سبيل الله.
 قتل الأب بالسؤال.
صورة الأب الغائب وحالة الضياع التي حلّت على الجميع بسبب هذا الغياب سيطرت على الشخصيات وطاردتها عقدة عدم الانتماء، فحسّان أكثر الشخصيات نقمة على الأب وفي تساؤلاته أشبه بأوديب وهو يقتل أبوه، وهو ما تشكّل عبر الأحلام التي كانت تطارده ثمّ في تذكّره الماضي والحوارات المتخيّلة التي كان يجريها بينه وبين الأب «كنت أنوي كشف قناعه أمام نفسه، ومواجهته بضعفه وتخاذله بنكران أبوّته! ما فائدة أبوّة منقوصة؟!» (ص، 211).
حالة الصّراع بين البحث عن الأب وقتله، تنعكس على السَّرد الذي يراوح بين الغنائيّة التي تعكس حجم المأساة التي عاشها الأبناء كلّ على حدّة أو مجتمعين بسبب غياب الأب أو بالأحرى هروبه، وفقدان الانتماء حتى عندما جاءت الهوية اتضح أن الانتماء هو الذي يفتقدونه، وبين التساؤلات التي تعكس حالة الضياع التي عاشها الجميع، لا فرق بين أسئلة حسّان عن الأب الغائب والهارب والأب الميت، أو عن أسئلة الهوية والانتماء، أو الحب والضياع، أو أسئلة الأم المعلنة أو المضمرة عن المصير الذي آلت إليه وكأنها تعاقب على لعنة الأم سعاد التي هربت من قبل فكتب على أبنائها الشتات والضياع لا فرق بين الأم نجوى ومأساتها الكبرى مع الزوج ثم مع الأبناء وخاصّة مأساة حسن الذي انسرب في دروب لا عودة منها، أو ياسيمن التي جنحت لتمردها وكأنها تُكرِّر مأساة الأم، أو حتى أسئلتها الخاصّة ورغباتها في الزواج بمن يُحبّها (جانو)، إلى أسئلة ليلى الوجودية: عن مَنْ هى؟ هل هي «البنت الفقيرة أمّ الأم المعذبة أمّ زوجة صاحب مطعم أندلسيا الشهير في بيروت؟ أم هي أمّ ابن لأب غائب أيضًا؟ وتساؤلاتها عن علاقتها بزياد؟ وعن علاقتها بخالتها ملكة هل هي التي تشبهها أم ياسمين؟ وعن أحلامها الكبرى وهل هي فعلًا القديسة التي أرادت تفدي أخوتها؟ إلى أسئلة حسن عن انتمائه لأبيه أم لأمه، أم للأسرة، وهي الحيرة التي دفعته إلى البحث عن الله في نهاية الرواية.
د. ممدوح فرّاج النّابي
"هل إذا تمنّى المرء موت أبيه ثم قُتل أبوه يكون مشاركًا في الجريمة؟» هكذا تساءل إيفان كارامازوف الابن الثاني والمعروف عنه بالإلحاد والجدال في قضايا الدين في رواية «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكى، التساؤل جاء كنوعٍ من تأنيب الضمير، وإن كان عكس إحساسًا داخليًّا برغبة قتل الأب، نفس الإحساس الذي شعر به إيفان هو ما راود جميع شخصيات رواية لنا عبد الرحمن «قيد الدرس» الصّادرة عن دار الآداب بيروت 2015، على اختلاف تركيبتهم وعلاقتهم بالأب، وإن كان حسّان وياسمين أكثر شخصيتْن إجهازًا على صورة الأب الرومانطيقية، بتعريتها من مفهوم الأبوة الكلاسيكي؛ فياسيمن في حومة الهجوم عليها ومحاكمتها على هروبها وعملها في المطعم كراقصة ثارت على الجميع وأدانت الأب فهي لم تُمارس العهر كما يتهمونها، فترى أنّ «العهر الأكبر حين غادرنا أب لم يُبالِ بترك عائلة وحيدة وسط الفقر والحاجة» (ص 184)
اختلفت أسباب القتل في الروايات التي جعلت من قتل الأب تيمة لها، مثل «الإخوة كارامازوف» ورائعة نجيب محفوظ «السّراب»، فبعضها مُتعلِّقٌ بِالميراث، وكثير منها مُتعلق بجوانب نفسية حيث تفضيل الأب لأحد أبنائه على الآخرين، أو أزمات سببها غياب الأب كما هو الحال في رواية لنا عبد الرحمن، فالقتل هنا مبعثه افتقاد الهُوية، وليس الهوية الورقية التي تحقّقت لشخصيات الرواية بقرار سياسي عام 1994، وإنما هوية الانتماء التي بحث الجميع عنها في صورة الأب، ومع الأسف تركهم «للأشباح الواقعيين والمتخيلين» كما تقول ليلى وهي تتحسر في نوبات الألم والندم على تركها الدراسة.
 الأب الضائع
جميع شخصيات الرواية على اختلاف انتماءاتها، وأيضًا اختلاف مراحلها العمرية، حيث تنتتمي الرواية في أحد جوانبها إلى روايات الأجيال التي تصل إلى أربعة أجيال بدءًا من جيل الجدة سعاد وصولا بالحفدة؛ سامي وأنس ابن حسن، ونايا ابنة ياسمين. كان الجميع يبحث عن الأب الذي ضاع لأسباب مختلفة، منها لسعيه وراء المال كما في حالة الجدة سعاد؛ فالأب الحاج رضا كان مُنْشَغِلاً بتجارة الأقمشة في «سوق إياس»، وكان يتركها بمفردها في البيت وحيدة ويذهب مع أخيها الأكبر أحمد لتجارته، فوقعت أسيرة لحكايات البنات اللاتي عرَّفنها على عوّاد الكردي الذي كان يبيع الأثواب والعطور والحُليّ، بسبب نزواته كما في حالة الأم نجوى وقعت ضحيّة لأب كان يهجرهم لأشهر متنقلاً بين بيوت زوجاته، ويخلط بين أسماء أطفاله لكثرتهم، وبعد زواجها وقعت ضحية لزوج مناضل شيوعي باسم عبد الله، يهجرها من أجل قضايا وطنية، ولكن مع الأسف «لم يجد الانتماء لا في الأوطان ولا في السلاح، ولا في المرأة التي أحبها» لذا «ظلت صورة الرجل في ذهنها مهتزة بين أب دنجوان فقد شرعيته في نظرها منذ أن منحها اسم راقصة أحبها وبين زوج غير عاطفي غادرها بعد ثلاثة أيام من الزواج» (ص،29)، أو لأسباب متلعلقة باللعنة التي سرت في العائلة ووصلت إلى حسن وياسمين أبناء ليلى وباسم عبد الله.
تكرَّرت مأساة افتقاد الأب على مستوى الأبناء، كما أنها خَلَقَتْ أزمة لجميع الأبناء، فليلى كانت «تتحسَّر على عدم وجود أسرة تحميها .... أو أب يدافع عنها»، وحسّان مِن شدَّة الكراهية لهذا الأب قتله معنويًا عبر أسئلته، لكن الفاجعئة أن مِن وَطَأْة ما فعله الأب بهم، بعضهم كرّر مأساته خاصّة ياسمين وحسن والأخير صار نسخة منه، فَهَجَرَ البيت بعد سرقة خالته كانتقام على التحوّلات التي لحقت بأخته ياسمين من جرّاء تَعَلُّقها بخالتها ملكة التي عادت من البرازيل بعد وفاة زوجها بأموال كثيرة، ثم في مرحلة لاحقة التحق بالجماعات الدينيّة المتطرفة التي ازدهرت في التسعينيات، وكذلك على مستوى الأحفاد فسامي ابن الثلاثة عشر عامًا أسئلته عن الحياة تُحزن الأم لأنّه مثلها «بحث عن الأب ولم يجده، وسيظل طول حياته يتوق لمن يمنحه تلك العاطفة المنقوصة».
 الهوية المفقودة
تنشغل الرواية بالهوية المفقودة، وما سببته هذه الهوية من آلام لأسرة باسم عبد الله المُناضل الشيوعي الذي راح يُطارد «الهوية الورقيّة» ظانًا أنها خلاصه، حاملاً السّلاح تارة وتارة هاربًا مخلفًا خلفه هوية «افتقاد الأب» التي عانى منها الأبناء، وستنتقل في علاقة دائرية إلى الأحفاد، وقد تحوَّلت إلى لعنة لهم، طاردتهم في كلِّ مكانٍ حلُّوا فيه، وأيضًا إلى تساؤلات أشبه بمشانق غرضها قتل الأب.
تعمد الكاتبة إلى حيلة تقنية على مستوى البناء، فتبدأ الرواية من النهاية حيث عودة حسّان أخو ليلى من فرنسا في زيارة قصيرة ليأخذ ابنها سامي ويعود به من حيث أتى بعد أن تركته أمانة معه، لأنها ستجري عملية، لا تعرف عاقبتها، فكرة البداية من النهاية ثم تبدأ التدرج وفق البناء الهرمي المقلوب الذي بنيت عليه أحداث الرواية، لكن الجميل أنها تستغل هذه الدائرية التي هي سمة مميزة للعمل ككل، لتظهر اللعنة التي حلَّت بالجميع؛ فعلى مستوى الشخصيات ياسمين تُكرّر سعاد، وحسن يُكرِّر الأب رغم رغبته في قتله بالمعني الفرويدي، وليلى تجتر مأساة نجوى وتَوْرث منها لعنة الفشل، وعملية التكرار على مستوى الشخصيات، ودائرية النّص تسير على الزمن مع إنه يتراوح بين زمانين ماضٍ وحاضر، وإن كان الماضي ينقسم هو الآخر إلى ماضٍ بعيد حيث حكاية الجدة، وزوجات عوّاد الأربعة، والحياة في دير السرو، وآخر أبعد حيث ماضي التهجير القسري الذي فُرض على الفلسطينين منذ عام 1922، وما حاق بالقرى السبعة، إلى ماضٍ قريب ماثل في حرب بيروت عام 1982، وصولا إلى الزمن الحاضر حيث الثورة السورية وما تلاها من صراع جبهات مُتعدِّدة. إلى جانب هذه المراوحة في الأزمنة والأمكنة؛ دير السّرو شتورة وادي أبو جميل، بيروت الفكهاني، وفرنسا، ثمة مراوحة في الرواة، فالسّرد الذي يسطير عليه الرّاوي الغائب يرصد عن جميع الشخصيات باستنثاء حسّان وليلى اللذين يرويان بالأنا، كما أن ثمّة تردّد للراوي الأنت، كما في حالة حسّان وهو يخاطب ذاته رغم أنه يسرد عن ذاته في الفصل السّابق وعلاقته بصولا وموقفه من أبيه. الشيء الملاحظ أن الراوي الغائب الذي يسرد عن نجوى، في أحيان معينة يبدو شخصًا لصيقًا بها ويقدم آراء واعتراضات في صيغة نصائح، فما أن تتغيّر نجوى بسبب علاقة الحب بينها وبين جانو النجار الذي كان يحبها قبل زواجها، يقول الراوي «لكن الحب في وقت متأخر لن يحظى برضا العائلة، وَسُيعتبر خيانة» (ص،175)
 تعثُّر الأحلام
لم تنجح شخصية واحدة في تحقيق ما تصبوا إليه من آمال أو طموحات، حتى ولو كانت ضئيلة، باستنثاء شخصية وهيب أخو نجوى الذي على الأقل نجى من الصراعات، ففضّل أن يبقى مع دجاجاته، كان مسالمًا بعكس الشَّخصيات الأخرى التي عركتها الحياة فتخلّت عن أحلامها البسطية مثل ليلى التي انقطعت عن التعليم لعدم استقرار الأسرة وعدم وجود مال، فاضّطرت إلى أن تعمل، ثم فقدانها حبهال ربيع، وهو ما جعلها تسقط في زواجات فاشلة بدءًا من حميد وصولاً إلى ماهر الطبّاخ القادم من إسبانيا، ثمّ الصّدمة الكبرى عندما راودها الشك بأنّ ثمّة علاقة بينه وبين بأختها ياسمين، فيتلاشى كلّ شيء و«لم يبق لها سوى نظرة عين ساهمة، ووجنتان غائرتان، وهالات زرقاء حول عينها». باسم الشخصية الإشكالية الذي ظلّ رفيقًا للبندقية حتى تجلت الخيانة بقتل صديقه أمام عينيه فعاد إلى أولاده، هو أكثر الشخصيات انهزامية بعد ليلى ففي ظلِّ بحثه الدائم عن هويته الضَّائِعَة لم يجنِ سوى الهُروب والغياب، واكتفى بجلد الذّات بحكايات عن الوطن المفقود، وإن كان قاوم قليلاً بالبندقية، إلا أنه فضل الهرب في النهاية، أما حسن الصغير الذي كان يحبه الأب، فما أن صُدِم بأبيه وأخته حتى ترك دراسته وأطلق لحيته، ولزم الصمت فترة، ثم هاجر هو الآخر ليقاتل في سبيل الله.
 قتل الأب بالسؤال.
صورة الأب الغائب وحالة الضياع التي حلّت على الجميع بسبب هذا الغياب سيطرت على الشخصيات وطاردتها عقدة عدم الانتماء، فحسّان أكثر الشخصيات نقمة على الأب وفي تساؤلاته أشبه بأوديب وهو يقتل أبوه، وهو ما تشكّل عبر الأحلام التي كانت تطارده ثمّ في تذكّره الماضي والحوارات المتخيّلة التي كان يجريها بينه وبين الأب «كنت أنوي كشف قناعه أمام نفسه، ومواجهته بضعفه وتخاذله بنكران أبوّته! ما فائدة أبوّة منقوصة؟!» (ص، 211).
حالة الصّراع بين البحث عن الأب وقتله، تنعكس على السَّرد الذي يراوح بين الغنائيّة التي تعكس حجم المأساة التي عاشها الأبناء كلّ على حدّة أو مجتمعين بسبب غياب الأب أو بالأحرى هروبه، وفقدان الانتماء حتى عندما جاءت الهوية اتضح أن الانتماء هو الذي يفتقدونه، وبين التساؤلات التي تعكس حالة الضياع التي عاشها الجميع، لا فرق بين أسئلة حسّان عن الأب الغائب والهارب والأب الميت، أو عن أسئلة الهوية والانتماء، أو الحب والضياع، أو أسئلة الأم المعلنة أو المضمرة عن المصير الذي آلت إليه وكأنها تعاقب على لعنة الأم سعاد التي هربت من قبل فكتب على أبنائها الشتات والضياع لا فرق بين الأم نجوى ومأساتها الكبرى مع الزوج ثم مع الأبناء وخاصّة مأساة حسن الذي انسرب في دروب لا عودة منها، أو ياسيمن التي جنحت لتمردها وكأنها تُكرِّر مأساة الأم، أو حتى أسئلتها الخاصّة ورغباتها في الزواج بمن يُحبّها (جانو)، إلى أسئلة ليلى الوجودية: عن مَنْ هى؟ هل هي «البنت الفقيرة أمّ الأم المعذبة أمّ زوجة صاحب مطعم أندلسيا الشهير في بيروت؟ أم هي أمّ ابن لأب غائب أيضًا؟ وتساؤلاتها عن علاقتها بزياد؟ وعن علاقتها بخالتها ملكة هل هي التي تشبهها أم ياسمين؟ وعن أحلامها الكبرى وهل هي فعلًا القديسة التي أرادت تفدي أخوتها؟ إلى أسئلة حسن عن انتمائه لأبيه أم لأمه، أم للأسرة، وهي الحيرة التي دفعته إلى البحث عن الله في نهاية الرواية.
د. ممدوح فرّاج النّابي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.