الكتابة عن الشاعر موفق محمد تعني الكتابة عن الشعرية العراقية الملتزمة بقضايا الإنسان، فهو يمثل بامتياز ديوان الشعر الذي يتغنى بأمجاد الإنسان العراقي من جلجامش حتى يومنا هذا ويهجو من كانوا وراء عذاباته ويلعن حروبهم التي أشعلوها فكانت أجساد العراقيين الطاهرة وقودا لها. موفق محمد هو أحد الشعراء العراقيين الذين يحملون إرث العراق الحضاري والشعري والنضالي بشكل خاص، وهو في كل مجموعاته الشعرية التي صدرت، كان يحمل صوت العراقي المعذب وهو يحتجّ على سجانيه ويعدد أسماءهم ورتبهم بهجاء مرّ جعل المسؤولين في الحكومات المتعاقبة يخشون صوته ويعمدون إلى تكميمه بعدم دعوته إلى المهرجانات الشعرية في العراق، وإنه كما يقول “جيتار قطع الساسة أوتاره بأسنانهم، خوفا من لثغة طفل فيه”. الشاعر والمغني في ديوانه الجديد “سعدي الحلي… في جنائنه” (2015) يمتزج صوت الشاعر موفق محمد مع صوت سعدي الحلي المطرب الشعبي الشهير ليشكلا صوتا صادحا يمتزج فيه الغناء بالقصيدة عبر تنويعات ومشاهد عن كوابيس الحياة العراقية، ومنعطفاتها الخطيرة. ويستثمر الشاعر بفاعلية صوت المطرب الذي يمثل النواح العراقي بامتياز فهو صوت قد احتل مساحة واسعة من أسماع الناس، وعبر عن آلامه وعذاباته وحزنه، يضاف إلى ذلك ارتباط اسم المغني سعدي الحلي بالنكتة الشعبية التي جعلت من هذا المغني بطلا لها، وهي نكات عبرت عن سخرية الناس ورفضهم وإحساسهم بالظلم واحتجاجهم عليه من خلال شخصية المغني. كما أن صوته يرتبط بالمخيلة الشعبية بالنواح والمرح في آن واحد، وبهذا المعنى يشكل هذا الصوت عمقا في الذات العراقية، ليعيد الشاعر صوغ الآلام الممضّة والإحباطات الكبيرة للآمال، التي يعيشها الناس عبر حياتهم منذ أزمان بعيدة، ليكتب قصيدة درامية طويلة دون فواصل أو عناوين بل هي على شكل لهاث مستمرّ لا نهاية لبوحه وشكواه، لكنه يتوقف مع سعدي برهة أمام جمال وطراوة الشخصية العراقية: الأم والحبيبة والنهر والشخصية التاريخية. يبدأ الشاعر من حيث انتهى بلده؛ احتلال وقتل ومفخخات، وخراب لا مثيل له، بوجهة نظر تتجه إلى السياسي والعسكري اللذين كانا سببا مباشرا لهذا الخراب “لم يبق شيء في الربايا… الجنود وهذا هو حظ أولاد الملحة/ ميّتون/ والجنرالات الأسود على أبناء جلدتهم أصحاب السيوف المتقاطعة والتبجان الراجفة على الأكتاف/ يلبسون الدشاديش/ ويسوقون سياراتهم الرباعية الدفع”. ثم يتساءل “كيف صاروا أسيادا على حين غفلة؟” ويجيب موجها اللوم إلى الناس “أتصاب الشعوب بالعمى؟/ فتخرج صناديق الاقتراع النطيحة والمتردية وما أكل السبع/ وتعيد الكرة ثانية”. ثم يعدد أدوات القتل والدمار ابتداء من الوسائل البدائية؛ الخناجر والسكاكين والسيوف وصولا إلى القاذفات، الراجمات الصادقات المؤمنات. ويتساءل بمرارة وسخرية “أكانت مخبأة بين العمائم واللحى”. ويؤكدها بأغنية من سعدي الحلي “كلها تريد ترمي السهم بحشايه، انه وحيد ونتن بنات هواية”. وخلال تساؤلاته المرّة يرسم لوحة للمصائر وللأرواح المغدورة التي سحقت بوحشية دون أن تجد احتجاجا أو صوتا ينصرها فأصبحت “أسرابا تطوّق أبواب السماوات وما من مجيب” ثم يستحث السماء كي تجيب ليكون جوابها انتظارا للعقاب الذي لا بدّ أن يكون “قولي شيئا أيتها السماء/ فهل هي حرب بين الهين؟/ أم أنه إله واحد/ قولي شيئا ليطمئن قلبي. فممّ تخافين أيتها السماء؟”. لوحات متعددة إن رسم لوحة لواقع الحال في الحياة العراقية ينهض به صوت الشاعر بتنويعات وصور شعرية تستفيد من الأشكال الشعرية المتنوعة؛ قصيدة التفعيلة، حين يرتفع الصوت المنفرد ليعزف على مفردات الحزن والنحيب مصحوبا بالأغنية والشعر العامي العراقي، ثم قصيدة النثر، حين يعدد غسيل الساسة والعسكريين وما سببوه للناس من أذى، حين يكون المشهد دالا على الفجيعة وملتحما بوقائع من صميم الحياة العراقية. وقائع تبدو خارج فانتازيا حروب العالم ومثالها المأساوي: حين يعود جسد الشهيد على شكل جودلية (بالعراقي هي مجموعة من قطع القماش الصغيرة الزائدة عن الحاجة بألوان وأشكال مختلفة يصنع منها فراشا للجلوس) يرسم تفاصيلها الشاعر بسوريالية لم تخطر على ذهن ومخيلة الفنان العالمي سلفادور دالي. أما الشعر الشعبي وغناء سعدي الحلي، فهما مكرسان لتحري الذاكرة الشعبية وجريان مفرداتها بحثا عن الحياة الجميلة، أو تحفيزا للحزن الذي يأخذ الروح إلى مجاهل عميقة فيها، والأسف العميق على ضياع اللحظات الجميلة فيها، مرة بأبيات من أغاني سعدي ومرة أخرى بإدخال المفردة العامية على السطر الشعري الفصيح “ونحن نطحن في ماكنة الطوائف/ والله وصفينه اتراب حنطة/ كواغد في مهب الريح كم عمر أضعناه وكم حر ذبحناه وكم نهر يكركر بالسواقي بالقتلى دفناه”. أو قوله “ركب دهري المصايب وردمني/ واله بكل الحدايق وردمني/ شصبر الروح بعدك وردمني/ وانا كبور النجف تزحف عليه”. ثم يتوسل صوت المغني ليعيد إلى سماء المدينة وحاراتها وأزقتها البسمة والحب والجمال، يعيدها إلى عكد المفتي، وعكد البوس، عكد اليهود وعكد العجم، لتتألق الغيوم بأقواس قزح “فتصل البلابل يانعة في ثمارها ويسيل الغناء في مناقيرها”. ثم يسترسل مع الصوت الحزين يعدّد ويرسم صورا محايثة للغناء عبر ذاكرة تستحضر شعرية لحظات الحياة الشعبية وهي تحتفي بحياتها الخاصة عبر وسائلها الخاصة “صبايا ومري حديثات وفخاتي وكمنجات وبرتقال وطاسات ومناشف وحمام نسوان”، ثم يختمها “بضجيج الأزقة” في حنجرة المغني “أصيحن والصده الصوتي ينابي طحت وارماحهم عجلة ينابي”. إن تجربة الشاعر موفق محمد الجديدة وهي ترافق صوت المغني سعدي الحلي، تنفتح على أفق غني بالأحزان والنواح الذي كرسته تلك الأغاني، متزامنة مع السخرية السوداء التي كرستها سيرة المغني وما تراكم على شخصه من نكات وسخرية، كانت موجهة أصلا نحو الفضاء المسموم بأوبئة الحروب التي فتكت بالناس، ومازالت تنتهك حياتهم، ليرسم الشاعر من خلالها مشهدا داميا من عينات لها حضور في الواقع المعيش والذاكرة “عباءات سود يتفطرن تحت جثث أبنائهن، الزقورات والجنائن المعلقة وعشتار التي مازالت تغني” متواشجة مع صور مسوخ بلحى طويلة وأنياب ذئاب “يقطعون رقاب العراقيين بالمناشير واللحى فيسيل الدم إلى الرجاب”، لينتهي النشيج على صورة النبي يوسف الذي يظل قميصه مرفرفا. ليختم الشاعر مسيرة النواح والسخرية من السجان بعودة الأمل عبر خيال يخترق الأزمنة ليطير بالشاعر والمغني “إلى حيث تشتبك الأسئلة ويبتسم الطفل في السنبلة”. الكتابة عن الشاعر موفق محمد تعني الكتابة عن الشعرية العراقية الملتزمة بقضايا الإنسان، فهو يمثل بامتياز ديوان الشعر الذي يتغنى بأمجاد الإنسان العراقي من جلجامش حتى يومنا هذا ويهجو من كانوا وراء عذاباته ويلعن حروبهم التي أشعلوها فكانت أجساد العراقيين الطاهرة وقودا لها. موفق محمد هو أحد الشعراء العراقيين الذين يحملون إرث العراق الحضاري والشعري والنضالي بشكل خاص، وهو في كل مجموعاته الشعرية التي صدرت، كان يحمل صوت العراقي المعذب وهو يحتجّ على سجانيه ويعدد أسماءهم ورتبهم بهجاء مرّ جعل المسؤولين في الحكومات المتعاقبة يخشون صوته ويعمدون إلى تكميمه بعدم دعوته إلى المهرجانات الشعرية في العراق، وإنه كما يقول “جيتار قطع الساسة أوتاره بأسنانهم، خوفا من لثغة طفل فيه”. الشاعر والمغني في ديوانه الجديد “سعدي الحلي… في جنائنه” (2015) يمتزج صوت الشاعر موفق محمد مع صوت سعدي الحلي المطرب الشعبي الشهير ليشكلا صوتا صادحا يمتزج فيه الغناء بالقصيدة عبر تنويعات ومشاهد عن كوابيس الحياة العراقية، ومنعطفاتها الخطيرة. ويستثمر الشاعر بفاعلية صوت المطرب الذي يمثل النواح العراقي بامتياز فهو صوت قد احتل مساحة واسعة من أسماع الناس، وعبر عن آلامه وعذاباته وحزنه، يضاف إلى ذلك ارتباط اسم المغني سعدي الحلي بالنكتة الشعبية التي جعلت من هذا المغني بطلا لها، وهي نكات عبرت عن سخرية الناس ورفضهم وإحساسهم بالظلم واحتجاجهم عليه من خلال شخصية المغني. كما أن صوته يرتبط بالمخيلة الشعبية بالنواح والمرح في آن واحد، وبهذا المعنى يشكل هذا الصوت عمقا في الذات العراقية، ليعيد الشاعر صوغ الآلام الممضّة والإحباطات الكبيرة للآمال، التي يعيشها الناس عبر حياتهم منذ أزمان بعيدة، ليكتب قصيدة درامية طويلة دون فواصل أو عناوين بل هي على شكل لهاث مستمرّ لا نهاية لبوحه وشكواه، لكنه يتوقف مع سعدي برهة أمام جمال وطراوة الشخصية العراقية: الأم والحبيبة والنهر والشخصية التاريخية. يبدأ الشاعر من حيث انتهى بلده؛ احتلال وقتل ومفخخات، وخراب لا مثيل له، بوجهة نظر تتجه إلى السياسي والعسكري اللذين كانا سببا مباشرا لهذا الخراب “لم يبق شيء في الربايا… الجنود وهذا هو حظ أولاد الملحة/ ميّتون/ والجنرالات الأسود على أبناء جلدتهم أصحاب السيوف المتقاطعة والتبجان الراجفة على الأكتاف/ يلبسون الدشاديش/ ويسوقون سياراتهم الرباعية الدفع”. ثم يتساءل “كيف صاروا أسيادا على حين غفلة؟” ويجيب موجها اللوم إلى الناس “أتصاب الشعوب بالعمى؟/ فتخرج صناديق الاقتراع النطيحة والمتردية وما أكل السبع/ وتعيد الكرة ثانية”. ثم يعدد أدوات القتل والدمار ابتداء من الوسائل البدائية؛ الخناجر والسكاكين والسيوف وصولا إلى القاذفات، الراجمات الصادقات المؤمنات. ويتساءل بمرارة وسخرية “أكانت مخبأة بين العمائم واللحى”. ويؤكدها بأغنية من سعدي الحلي “كلها تريد ترمي السهم بحشايه، انه وحيد ونتن بنات هواية”. وخلال تساؤلاته المرّة يرسم لوحة للمصائر وللأرواح المغدورة التي سحقت بوحشية دون أن تجد احتجاجا أو صوتا ينصرها فأصبحت “أسرابا تطوّق أبواب السماوات وما من مجيب” ثم يستحث السماء كي تجيب ليكون جوابها انتظارا للعقاب الذي لا بدّ أن يكون “قولي شيئا أيتها السماء/ فهل هي حرب بين الهين؟/ أم أنه إله واحد/ قولي شيئا ليطمئن قلبي. فممّ تخافين أيتها السماء؟”. لوحات متعددة إن رسم لوحة لواقع الحال في الحياة العراقية ينهض به صوت الشاعر بتنويعات وصور شعرية تستفيد من الأشكال الشعرية المتنوعة؛ قصيدة التفعيلة، حين يرتفع الصوت المنفرد ليعزف على مفردات الحزن والنحيب مصحوبا بالأغنية والشعر العامي العراقي، ثم قصيدة النثر، حين يعدد غسيل الساسة والعسكريين وما سببوه للناس من أذى، حين يكون المشهد دالا على الفجيعة وملتحما بوقائع من صميم الحياة العراقية. وقائع تبدو خارج فانتازيا حروب العالم ومثالها المأساوي: حين يعود جسد الشهيد على شكل جودلية (بالعراقي هي مجموعة من قطع القماش الصغيرة الزائدة عن الحاجة بألوان وأشكال مختلفة يصنع منها فراشا للجلوس) يرسم تفاصيلها الشاعر بسوريالية لم تخطر على ذهن ومخيلة الفنان العالمي سلفادور دالي. أما الشعر الشعبي وغناء سعدي الحلي، فهما مكرسان لتحري الذاكرة الشعبية وجريان مفرداتها بحثا عن الحياة الجميلة، أو تحفيزا للحزن الذي يأخذ الروح إلى مجاهل عميقة فيها، والأسف العميق على ضياع اللحظات الجميلة فيها، مرة بأبيات من أغاني سعدي ومرة أخرى بإدخال المفردة العامية على السطر الشعري الفصيح “ونحن نطحن في ماكنة الطوائف/ والله وصفينه اتراب حنطة/ كواغد في مهب الريح كم عمر أضعناه وكم حر ذبحناه وكم نهر يكركر بالسواقي بالقتلى دفناه”. أو قوله “ركب دهري المصايب وردمني/ واله بكل الحدايق وردمني/ شصبر الروح بعدك وردمني/ وانا كبور النجف تزحف عليه”. ثم يتوسل صوت المغني ليعيد إلى سماء المدينة وحاراتها وأزقتها البسمة والحب والجمال، يعيدها إلى عكد المفتي، وعكد البوس، عكد اليهود وعكد العجم، لتتألق الغيوم بأقواس قزح “فتصل البلابل يانعة في ثمارها ويسيل الغناء في مناقيرها”. ثم يسترسل مع الصوت الحزين يعدّد ويرسم صورا محايثة للغناء عبر ذاكرة تستحضر شعرية لحظات الحياة الشعبية وهي تحتفي بحياتها الخاصة عبر وسائلها الخاصة “صبايا ومري حديثات وفخاتي وكمنجات وبرتقال وطاسات ومناشف وحمام نسوان”، ثم يختمها “بضجيج الأزقة” في حنجرة المغني “أصيحن والصده الصوتي ينابي طحت وارماحهم عجلة ينابي”. إن تجربة الشاعر موفق محمد الجديدة وهي ترافق صوت المغني سعدي الحلي، تنفتح على أفق غني بالأحزان والنواح الذي كرسته تلك الأغاني، متزامنة مع السخرية السوداء التي كرستها سيرة المغني وما تراكم على شخصه من نكات وسخرية، كانت موجهة أصلا نحو الفضاء المسموم بأوبئة الحروب التي فتكت بالناس، ومازالت تنتهك حياتهم، ليرسم الشاعر من خلالها مشهدا داميا من عينات لها حضور في الواقع المعيش والذاكرة “عباءات سود يتفطرن تحت جثث أبنائهن، الزقورات والجنائن المعلقة وعشتار التي مازالت تغني” متواشجة مع صور مسوخ بلحى طويلة وأنياب ذئاب “يقطعون رقاب العراقيين بالمناشير واللحى فيسيل الدم إلى الرجاب”، لينتهي النشيج على صورة النبي يوسف الذي يظل قميصه مرفرفا. ليختم الشاعر مسيرة النواح والسخرية من السجان بعودة الأمل عبر خيال يخترق الأزمنة ليطير بالشاعر والمغني “إلى حيث تشتبك الأسئلة ويبتسم الطفل في السنبلة”.