لماذا تأخر التغيير الحكومي كل هذا الوقت؟ معيار اختيار الأكفأ لتحقيق الرضا الشعبي وتخفيف الأعباء عن المواطن وحركة شاملة للمحافظين    أوروجواي يطيح بالولايات المتحدة صاحب الأرض من كوبا أمريكا    طلاب الثانوية العامة بالجيزة يتوافدون لأداء امتحان اللغة الأجنبية الأولى    شديد الحرارة.. تعرف على حالة الطقس اليوم الثلثاء    مهرجان العلمين.. «الترفيه» والطريق إلى الإنسانية    مستشار سابق بالبنتاجون: العالم كله سئم منا وأمريكا ستفقد الهيمنة على العالم (فيديو)    كوريا الشمالية تختبر صاروخا بالستيا ضخما بوزن 4.5 طن    تقرير عبري: نصر الله غير مكانه بعد تلقيه تحذيرا من المخابرات الإيرانية بأن إسرائيل تنوي تصفيته    حدث ليلا.. ارتفاع عدد قتلى وجرحى الاحتلال إلى أكثر من 4 آلاف ووباء يهدد مليار شخص    واشنطن: حادثة طعن في إحدى محطات المترو    وزارة العمل تعلن عن 120 وظيفة بشرم الشيخ ورأس سدر والطور    بيراميدز يقرر رفع دعوى قضائية ضد ثروت سويلم المتحدث باسم رابطة الأندية    حملات مكثفة لمتابعة تطبيق غلق المحال التجارية بالإسماعيلية    أسعار اللحوم والأسماك اليوم 2 يوليو 2024    مصرع شخصين وإصابة 10 في انقلاب ميكروباص بطريق مصر الفيوم    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين بقتل «طفل شبرا الخيمة»    الثانوية العامة 2024| اليوم.. طلاب بني سويف يؤدون امتحان مادة اللغة الإنجليزية    ألقى بنفسه من على السلم.. انتحار روبوت في كوريا الجنوبية    خالد داوود: جمال مبارك كان يعقد لقاءات في البيت الأبيض    أبطال فيلم «عصابة الماكس» يحضرون عرض مسرحية «ملك والشاطر»    أمين الفتوى: وثيقة التأمين على الحياة ليست حراما وتتوافق مع الشرع    ملف يلا كورة.. موقف ثنائي الأهلي من الأولمبياد.. رحيل لاعب الزمالك.. وأزمة بيراميدز    مفاوضات مع جورج كلوني للانضمام إلى عالم مارفل    فودة يفتتح أول مطعم أسيوي بممشي السلام في شرم الشيخ    طرح شقق الأوقاف 2024.. المستندات المطلوبة وشروط الحجز    نتنياهو: المرحلة الرئيسية من الحرب ضد "حماس" ستنتهي قريبا    كوبا أمريكا.. أوروجواي 0-0 أمريكا.. بنما 0-0 بوليفيا    رئيس حزب «الغد»: يجب على الحكومة الجديدة إعطاء الأولوية لملفي الصحة والتعليم    أحمد حجازي يحسم مصيره مع اتحاد جدة.. ويكشف تفاصيل عرض نيوم السعودي    أرملة عزت أبو عوف تحيى ذكري وفاته بكلمات مؤثرة    خلال أيام.. البترول تعلن مفاجأة بشأن إلغاء تخفيف الأحمال نهائيا في فصل الصيف (تفاصيل)    «الإفتاء» توضح حكم تغيير اتجاه القبلة عند الانتقال إلى سكن جديد    الأزهر يعلن صرف الإعانة الشهرية لمستحقي الدعم الشهري اليوم    مخاطر الأجواء الحارة على مرضى الصحة النفسية.. انتكاسة العقل    3 مشروبات عليك تجنبها إذا كنت تعاني من مرض القلب.. أبرزها العصائر المعلبة    حيل ونصائح تساعد على التخلص من النمل في المنزل بفصل الصيف    متى تنتهي أزمة نقص الدواء في مصر؟..البرلمان يجيب    الزمالك يتقدم بشكوى رسمية لرابطة الأندية ضد ثروت سويلم    «نيبينزيا» يعطي تلميحا بإمكانية رفع العقوبات عن طالبان    قضايا الدولة تهنئ المستشار عبد الراضي بتعيينه رئيسًا لنيابة الإدارية    جامعة الأزهر تعلن تسخير جميع الإمكانات لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة    الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد جنوده وإصابة آخر في انفجار قنبلة بالضفة الغربية    موعد الإعلان عن الحكومة الجديدة وأداء اليمين الدستورية.. أحمد موسي يكشف (فيديو)    عبدالله جورج: الزمالك سيحصل على الرخصة الإفريقية    دولتان تتصدران مشتريات خام الأورال الروسي في يونيو    خالد داوود: أمريكا قررت دعم الإخوان بعد أحداث 11 سبتمبر (فيديو)    تهانينا للنجاح في امتحانات الدبلومات الفنية لعام 2024    ناقد فني: شيرين تعاني من أزمة نفسية وخبر خطبتها "مفبرك"    فى ذكرى ميلاده ال«80».. وحيد حامد الذى «كشف المستور»    العالم علمين| عمرو الفقي: المهرجانات محرك أساسي لتنشيط السياحة وترويج المدن الجديدة.. وتخصيص 60% من أرباح مهرجان العلمين لفلسطين    استخراج الجثة السابعة لفتاة إثر انهيار منزل بأسيوط    ميدو: الكرة المصرية تستند على لوائح جار عليها الزمن    تنسيق الثانوية 2024.. تعرف على أقسام وطبيعة الدراسة بكلية التربية الموسيقية حلوان    تعرف على توقعات برج الثور اليوم 2 يوليو 2024    برلماني: المكالمات المزعجة للترويج العقاري أصبحت فجة ونحتاج تنظيمها (فيديو)    انطلاق فعاليات المسح الميداني بقرى الدقهلية لاكتشاف حالات الإصابة بالبلهارسيا    أمين الفتوى عن الهدايا بعد فسخ الخطوبة: «لا ترد إلا الذهب»    غدا.. "بيت الزكاة والصدقات" يبدء صرف إعانة يوليو للمستحقين بالجمهورية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شهلا العجيلي تبحث عن شمس بين مقابر ومخيمات
نشر في صوت البلد يوم 11 - 02 - 2016

في لحظة عبثية عاجلة، قد تنقلب الأمور كلّها، فيصير المواطن لاجئاً والوطن رعباً والدار دماراً والعائلة شتاتاً والحياة احتمال موت دائماً. على هذه التحولات المصيرية السريعة، تنبني رواية شهلا العجيلي «السماء قريبة من بيتنا» (منشورات ضفاف)، المرشحة للبوكر العربية ضمن قائمتها الطويلة.
قد يشعر قارئ رواية شهلا العجيلي الثالثة، بعد «عين الهرّ» و «سجاد عجمي»، بأنّه يقرأ روايات عدة في رواية، حيث تزجّ الكاتبة في نصّها الكثير من الأسماء والشخصيات والمدن والأزمنة والهويات، إضافة إلى المعارف الثقافية والسياحية والفنية، هي الأستاذة المختصّة بعلم الجمال. لكنّ العصب الرئيس لهذه الرواية (342 صفحة) يظلّ كامناً في جدلية العلاقة بين الإنسان وبيئته. لهذا، اختارت العجيلي أن تكون بطلة الرواية (جمان) باحثة في علم الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان، وبطلها (ناصر العامري) أستاذاً في الجغرافيا يعمل خبيراً دولياً في المناخ والجفاف. يلتقي البطلان مصادفة في رحلة العودة من إسطنبول إلى عمّان، قبل أن يتحوّل لقاؤهما العابر إلى قصة حب يبحث كلّ طرف فيها عمّا ينقصه في الآخر. هو الخمسيني المطلّق زوجته الأميركية وأب لثلاثة أبناء يعيشون في الولايات المتحدة، ركب الطائرة ليشارك في جنازة أمّه المتوفاة صباحاً، وهي الثلاثينية العزباء العائدة من مهمة عمل إلى مكان لا ينتظرها فيه أحد، بعدما قرّر والدها وشقيقتاها جود وسلمى البقاء في الرقة، على أمل عودة السلام إليها.
وليس عبثاً أن يلتقي الفلسطيني والسورية في الطائرة، هذا المكان الخطر العائم في الفضاء اللانهائي، وهما المشتتان الممزقان خارج وطنيهما. ومن هذا اللقاء الفلسطيني - السوري في الطائرة تتولّد رموز الاقتلاع العربي ومأسويته، فتحضر مقولة إدوارد سعيد، على لسان الراوية، لترسّخ هذا الواقع: «الجغرافيا عدونا الأول».

تحولات كبيرة
تتشكّل بنية الرواية عبر خطوط متداخلة ومتشابكة تلتقي فيها حيوات شخصيات كثيرة تُقحمها العجيلي بأسلوب حكائي سلس، غير أنّ حياة الراوية جمان بدران تبقى هي البؤرة التي تحتضن كلّ هذه التحولات. بل إنّ حكايتها الشخصية تدخل في لعبة مرآة مع حكاية وطنها، سورية. فالشابة الجميلة المفعمة بالحياة والثقافة والذكريات تُصاب بمرضِ خبيث ليصير جسدها النديّ عُرضة لعلاجات «مُدمّرة»، منها الأشعة والكيماوي، في وقت تُضرب سورية بأسلحة مدمرة أيضاً نتيجة حرب خبيثة تُحاك على أرضها منذ خمس سنوات. ولكن، هل ثمة مجال للشفاء؟ لا أحد يعلم. وفي بعض المقاطع، يتماهى جسد جمان المريض بجسد سورية المُنهك، فتصير صفاتهما واحدة: «متألمة، متهافتة، أما لهذا الألم أن ينتهي؟ لا أعرف كيف أحدد شكل الوجع أو مكانه».
تنطلق الرواية بإشارة زمنية «كان يوم الإثنين 30/4/1947 يوماً ربيعياً مشرقاً من أيّام حلب»، فيظنّ القارئ لوهلة أنّ أحداث الرواية تحصل في حقبة زمنية قديمة من تاريخ سورية، وأنّ الروائية لجأت إلى الماضي عوضاً عن حاضرٍ لا تزال رؤيته ضبابية مشوشة. ولكن، بعد صفحات قليلة، يُفاجأ القارئ بوثبة زمنية تنتقل بنا إلى الفترة الراهنة، حيث تجلس الراوية جمان - تعمل في جمعيات إنسانية مخصصة لمساعدة اللاجئين السوريين في المخيمات - في صالة الترانزيت، بانتظار دخول البوابة المحددة، المكان الذي غالباً ما يستعدّ فيه الناس لبدء مغامرة جديدة. «المطارات سلالم الحكايات، ونحن السوريين ربما لنا حكايتنا المختلفة معها، فبمجرّد مرورنا من الكوة الأخيرة لأي موظف جوازات، نكون قد استلمنا صكّ ولادة جديدة».
تتكرّر الاستعادات الزمنية على امتداد الرواية، على اعتبار أنّ التاريخ الشخصي للأفراد لا ينفصل بتاتاً عن التاريخ العام لأوطانهم. واللافت أنّ الكاتبة تظلّ مدركة هذا التأرجح المقصود عبر الزمن، فنراها تُقدّم في البداية شخصيات لا يتضح دورها إلّا في فصول أخرى مثل «شهيرة الحفّار» (أم ناصر المتوفاة) التي تفتتح الرواية بنقل أجواء بيت أهلها القديم في حلب (1947)، حين كان يلتقي الشيخ عمر البطش، فنان الموشحات والموسيقار عبدالوهاب في منزل والدها بهجب بيك، لنكتشف لاحقاً أنّ الفتاة الصغيرة التي كانت تتمايل على أنغام العود في غرفة مجاورة للصالة الرئيسة لن تكون سوى السيدة شهيرة الحفّار، «التي كانت جنازتها اليوم» (والدة المسافر الفلسطيني ناصر العامري). وهذا يتكرر مع صبيّ الجيلاتي في «بورتوفينو» الذي تذكره سريعاً أثناء استعادة ذكرياتها في إيطاليا، قبل أن نكتشف أنّه سيغدو لاحقاً الدكتور يعقوب، طبيب جمان. وتعمد الكاتبة إلى استخدام أفعال مستقبلية مسبوقة غالباً ب «سوف» وإشارات لا يكتمل معناها إلّا لاحقاً في النصّ، وهذه التقنية تُسمّى نقدياً «إرهاصات»، وهي تُشبّه بالبذرة التي لا تلفت النظر إلّا بعد أن تنمو وتنضج، غير أنّ «روح كلّ وظيفة قصصية هي بذرتها، وهي العنصر الذي يُيذّره السرد لينضج في ما بعد»، وفق ما يقول رولان بارت.

تفاصيل
تُثري العجيلي نصّها السردي بالتفاصيل من غير أن تدفع بقارئها إلى الملل. تهتم ببناء شخصياتها عبر تراكم تفاصيلها حتى لتغدو من لحمٍ ودم. وكذلك تعتني بتفاصيل المدن التي تصفها، ليصبح المكان شخصية قائمة بذاتها. حين تصف مدينة حلب مثلاً، تستعيد الشوارع بأزقتها الواسعة والضيقة، بمطاعمها القديمة والجديدة، مقاهيها، ناسها، أكلاتها، روائح مطخبها الذي لا ينافسه أي مطبخ آخر في العالم، على ما تقول جمان. كأنما بالكلام عن المكان تريح نفسها من شوق يخنقها حدّ الموت: «لا مطاعم الريتز، ولا مقاهي الشانزليزيه أو مقاهي أرصفة براغ، تساوي الجلسة على تيراس أوتيل بارون... في مطعم «دار زمريا» يقدمون كرات اللحم المطبوخة بفاكهة الكرز، على نغمات القدود الحلبية، يعزفونها عوّادون قد شربوا الفن مع حليب أمهاتهم».
وكم تبدو صورة المكان/ الحلم مؤلمة أمام مشاهد أخرى تنقلها الراوية من خلال عملها في المنظمات الإنسانية من داخل مخيمات اللاجئين، ومنها مخيّم الزعتري، وهي المساعدة الأقرب إلى هؤلاء الناس من بين العاملين الآخرين لكونها السورية الوحيدة بينهم. كانت جُمان تتمنى ألّا تزور المخيم لكنها ذهبت وصادفت اللاجئين الذين كانوا بالأمس أصحاب بيوتٍ وأراضٍ ومشاريع ومهمات، فبدت كأنها تتعرّف إلى وجهها الآخر، هي الآتية من عائلة إقطاعية سورية معروفة.
لكنّ الصدمة الأكبر في حياة جمان تبقى حين تكتشف إصابتها بمرض السرطان، حيث يصير الإنسان هو ضيف السماء المُحتمل، ويغدو الموت لصيقاً به كما ظلّه. ولا ندري ما إذا كان العنوان قد جاء من هنا أم من فكرة الإيمان الذي يتعزّز فجأة في قلوب المرضى والخائفين. «وحين انطفأ صفّ من الأضواء في أحد طوابق المركز، صارت النجوم أكثر لمعاناً، وبدا كلّ شيء محتوماً، الألم والموت والشفاء. السماء هنا قريبة، قريبة جداً ولا تحتاج إلى سلالم أو حبال». هكذا تختتم الرواية.
لا شكّ في أنّ رواية العجيلي تترك في نفسك غصّة نتيجة مشاهد موغلة في الواقع. فمن الجثث السورية التي لم تعد تجد تراباً يحتضنها، وهي بالمناسبة أصبحت تيمة تتكرر في الروايات السورية الجديدة كما في رواية «الموت عمل شاق» لخالد خليفة و «الذئاب لا تنسى» للكاتبة لينا هويان الحسن، إلى مأساة اللجوء والاغتراب وصولاً إلى شدّة المرض وثبوره، يقف القارئ على تماس مع واقعه المعقد إنسانياً وسياسياً واجتماعياً، من غير أن تُنهكه نبرة الرواية الميلودرامية. فالكاتبة عرفت كيف تُطعّم روايتها بمشاهد جمالية عالية، برزت في ذكريات جمان العائلية في مدينة بورتوفينو الإيطالية حيث صادفت داليدا مرات في الفندق، ومرات أخرى في الحفلات المسائية على سطح الأوتيل حيث غنّت رائعتها «عثرتُ على حبي في بورتوفينو»، وحيث كانت قبلتها الأولى هي وجورجيو الصبي الإيطالي الوسيم في قبو الفندق السحيق والرطب، وهناك استقلّت قوارب الصيادين وسبحت في مياه الأزرق الجميل.
جاءت المشاهد سحرية كجرعة تنفّس اصطناعية تُعيد إلى قلب القارئ نوراً يخرج من وسط ظلمة حالكة.
في لحظة عبثية عاجلة، قد تنقلب الأمور كلّها، فيصير المواطن لاجئاً والوطن رعباً والدار دماراً والعائلة شتاتاً والحياة احتمال موت دائماً. على هذه التحولات المصيرية السريعة، تنبني رواية شهلا العجيلي «السماء قريبة من بيتنا» (منشورات ضفاف)، المرشحة للبوكر العربية ضمن قائمتها الطويلة.
قد يشعر قارئ رواية شهلا العجيلي الثالثة، بعد «عين الهرّ» و «سجاد عجمي»، بأنّه يقرأ روايات عدة في رواية، حيث تزجّ الكاتبة في نصّها الكثير من الأسماء والشخصيات والمدن والأزمنة والهويات، إضافة إلى المعارف الثقافية والسياحية والفنية، هي الأستاذة المختصّة بعلم الجمال. لكنّ العصب الرئيس لهذه الرواية (342 صفحة) يظلّ كامناً في جدلية العلاقة بين الإنسان وبيئته. لهذا، اختارت العجيلي أن تكون بطلة الرواية (جمان) باحثة في علم الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان، وبطلها (ناصر العامري) أستاذاً في الجغرافيا يعمل خبيراً دولياً في المناخ والجفاف. يلتقي البطلان مصادفة في رحلة العودة من إسطنبول إلى عمّان، قبل أن يتحوّل لقاؤهما العابر إلى قصة حب يبحث كلّ طرف فيها عمّا ينقصه في الآخر. هو الخمسيني المطلّق زوجته الأميركية وأب لثلاثة أبناء يعيشون في الولايات المتحدة، ركب الطائرة ليشارك في جنازة أمّه المتوفاة صباحاً، وهي الثلاثينية العزباء العائدة من مهمة عمل إلى مكان لا ينتظرها فيه أحد، بعدما قرّر والدها وشقيقتاها جود وسلمى البقاء في الرقة، على أمل عودة السلام إليها.
وليس عبثاً أن يلتقي الفلسطيني والسورية في الطائرة، هذا المكان الخطر العائم في الفضاء اللانهائي، وهما المشتتان الممزقان خارج وطنيهما. ومن هذا اللقاء الفلسطيني - السوري في الطائرة تتولّد رموز الاقتلاع العربي ومأسويته، فتحضر مقولة إدوارد سعيد، على لسان الراوية، لترسّخ هذا الواقع: «الجغرافيا عدونا الأول».

تحولات كبيرة
تتشكّل بنية الرواية عبر خطوط متداخلة ومتشابكة تلتقي فيها حيوات شخصيات كثيرة تُقحمها العجيلي بأسلوب حكائي سلس، غير أنّ حياة الراوية جمان بدران تبقى هي البؤرة التي تحتضن كلّ هذه التحولات. بل إنّ حكايتها الشخصية تدخل في لعبة مرآة مع حكاية وطنها، سورية. فالشابة الجميلة المفعمة بالحياة والثقافة والذكريات تُصاب بمرضِ خبيث ليصير جسدها النديّ عُرضة لعلاجات «مُدمّرة»، منها الأشعة والكيماوي، في وقت تُضرب سورية بأسلحة مدمرة أيضاً نتيجة حرب خبيثة تُحاك على أرضها منذ خمس سنوات. ولكن، هل ثمة مجال للشفاء؟ لا أحد يعلم. وفي بعض المقاطع، يتماهى جسد جمان المريض بجسد سورية المُنهك، فتصير صفاتهما واحدة: «متألمة، متهافتة، أما لهذا الألم أن ينتهي؟ لا أعرف كيف أحدد شكل الوجع أو مكانه».
تنطلق الرواية بإشارة زمنية «كان يوم الإثنين 30/4/1947 يوماً ربيعياً مشرقاً من أيّام حلب»، فيظنّ القارئ لوهلة أنّ أحداث الرواية تحصل في حقبة زمنية قديمة من تاريخ سورية، وأنّ الروائية لجأت إلى الماضي عوضاً عن حاضرٍ لا تزال رؤيته ضبابية مشوشة. ولكن، بعد صفحات قليلة، يُفاجأ القارئ بوثبة زمنية تنتقل بنا إلى الفترة الراهنة، حيث تجلس الراوية جمان - تعمل في جمعيات إنسانية مخصصة لمساعدة اللاجئين السوريين في المخيمات - في صالة الترانزيت، بانتظار دخول البوابة المحددة، المكان الذي غالباً ما يستعدّ فيه الناس لبدء مغامرة جديدة. «المطارات سلالم الحكايات، ونحن السوريين ربما لنا حكايتنا المختلفة معها، فبمجرّد مرورنا من الكوة الأخيرة لأي موظف جوازات، نكون قد استلمنا صكّ ولادة جديدة».
تتكرّر الاستعادات الزمنية على امتداد الرواية، على اعتبار أنّ التاريخ الشخصي للأفراد لا ينفصل بتاتاً عن التاريخ العام لأوطانهم. واللافت أنّ الكاتبة تظلّ مدركة هذا التأرجح المقصود عبر الزمن، فنراها تُقدّم في البداية شخصيات لا يتضح دورها إلّا في فصول أخرى مثل «شهيرة الحفّار» (أم ناصر المتوفاة) التي تفتتح الرواية بنقل أجواء بيت أهلها القديم في حلب (1947)، حين كان يلتقي الشيخ عمر البطش، فنان الموشحات والموسيقار عبدالوهاب في منزل والدها بهجب بيك، لنكتشف لاحقاً أنّ الفتاة الصغيرة التي كانت تتمايل على أنغام العود في غرفة مجاورة للصالة الرئيسة لن تكون سوى السيدة شهيرة الحفّار، «التي كانت جنازتها اليوم» (والدة المسافر الفلسطيني ناصر العامري). وهذا يتكرر مع صبيّ الجيلاتي في «بورتوفينو» الذي تذكره سريعاً أثناء استعادة ذكرياتها في إيطاليا، قبل أن نكتشف أنّه سيغدو لاحقاً الدكتور يعقوب، طبيب جمان. وتعمد الكاتبة إلى استخدام أفعال مستقبلية مسبوقة غالباً ب «سوف» وإشارات لا يكتمل معناها إلّا لاحقاً في النصّ، وهذه التقنية تُسمّى نقدياً «إرهاصات»، وهي تُشبّه بالبذرة التي لا تلفت النظر إلّا بعد أن تنمو وتنضج، غير أنّ «روح كلّ وظيفة قصصية هي بذرتها، وهي العنصر الذي يُيذّره السرد لينضج في ما بعد»، وفق ما يقول رولان بارت.

تفاصيل
تُثري العجيلي نصّها السردي بالتفاصيل من غير أن تدفع بقارئها إلى الملل. تهتم ببناء شخصياتها عبر تراكم تفاصيلها حتى لتغدو من لحمٍ ودم. وكذلك تعتني بتفاصيل المدن التي تصفها، ليصبح المكان شخصية قائمة بذاتها. حين تصف مدينة حلب مثلاً، تستعيد الشوارع بأزقتها الواسعة والضيقة، بمطاعمها القديمة والجديدة، مقاهيها، ناسها، أكلاتها، روائح مطخبها الذي لا ينافسه أي مطبخ آخر في العالم، على ما تقول جمان. كأنما بالكلام عن المكان تريح نفسها من شوق يخنقها حدّ الموت: «لا مطاعم الريتز، ولا مقاهي الشانزليزيه أو مقاهي أرصفة براغ، تساوي الجلسة على تيراس أوتيل بارون... في مطعم «دار زمريا» يقدمون كرات اللحم المطبوخة بفاكهة الكرز، على نغمات القدود الحلبية، يعزفونها عوّادون قد شربوا الفن مع حليب أمهاتهم».
وكم تبدو صورة المكان/ الحلم مؤلمة أمام مشاهد أخرى تنقلها الراوية من خلال عملها في المنظمات الإنسانية من داخل مخيمات اللاجئين، ومنها مخيّم الزعتري، وهي المساعدة الأقرب إلى هؤلاء الناس من بين العاملين الآخرين لكونها السورية الوحيدة بينهم. كانت جُمان تتمنى ألّا تزور المخيم لكنها ذهبت وصادفت اللاجئين الذين كانوا بالأمس أصحاب بيوتٍ وأراضٍ ومشاريع ومهمات، فبدت كأنها تتعرّف إلى وجهها الآخر، هي الآتية من عائلة إقطاعية سورية معروفة.
لكنّ الصدمة الأكبر في حياة جمان تبقى حين تكتشف إصابتها بمرض السرطان، حيث يصير الإنسان هو ضيف السماء المُحتمل، ويغدو الموت لصيقاً به كما ظلّه. ولا ندري ما إذا كان العنوان قد جاء من هنا أم من فكرة الإيمان الذي يتعزّز فجأة في قلوب المرضى والخائفين. «وحين انطفأ صفّ من الأضواء في أحد طوابق المركز، صارت النجوم أكثر لمعاناً، وبدا كلّ شيء محتوماً، الألم والموت والشفاء. السماء هنا قريبة، قريبة جداً ولا تحتاج إلى سلالم أو حبال». هكذا تختتم الرواية.
لا شكّ في أنّ رواية العجيلي تترك في نفسك غصّة نتيجة مشاهد موغلة في الواقع. فمن الجثث السورية التي لم تعد تجد تراباً يحتضنها، وهي بالمناسبة أصبحت تيمة تتكرر في الروايات السورية الجديدة كما في رواية «الموت عمل شاق» لخالد خليفة و «الذئاب لا تنسى» للكاتبة لينا هويان الحسن، إلى مأساة اللجوء والاغتراب وصولاً إلى شدّة المرض وثبوره، يقف القارئ على تماس مع واقعه المعقد إنسانياً وسياسياً واجتماعياً، من غير أن تُنهكه نبرة الرواية الميلودرامية. فالكاتبة عرفت كيف تُطعّم روايتها بمشاهد جمالية عالية، برزت في ذكريات جمان العائلية في مدينة بورتوفينو الإيطالية حيث صادفت داليدا مرات في الفندق، ومرات أخرى في الحفلات المسائية على سطح الأوتيل حيث غنّت رائعتها «عثرتُ على حبي في بورتوفينو»، وحيث كانت قبلتها الأولى هي وجورجيو الصبي الإيطالي الوسيم في قبو الفندق السحيق والرطب، وهناك استقلّت قوارب الصيادين وسبحت في مياه الأزرق الجميل.
جاءت المشاهد سحرية كجرعة تنفّس اصطناعية تُعيد إلى قلب القارئ نوراً يخرج من وسط ظلمة حالكة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.