عن عمر يناهز الثالثة والتسعين، رحل العلامة الأردني ناصر الدين الأسد، الكاتب والناقد والباحث والأكاديمي، رجل اللغة والنقد، صاحب «مصادر الشعر الجاهليّ»، وهو رسالته للدكتوراه، التي مثّلت، من دون رغبة من المؤلف أن تكون، ردّاً على أستاذه طه حسين، وعلى كتابه الشهير والمثير «في الشعر الجاهلي»، فجاء رد التلميذ النجيب والمبدع في ذلك السِّفر المتين والمثير أيضاً، بإشراف أحد أبرز من قرأوا الشعر الجاهلي ودرسوه، وهو شوقي ضيف. وكانت حياة ناصر الدين كلّها محتشدة بالإثارة، ولكن في إطار من العقلانية الأشد ميلاً إلى المناهج الأكاديمية، بعيداً من المؤثرات الإعلامية والمغامرات الدونكيشوتية. أقول علامة، وكانت أول صلة لي به، صلة الطالب الجامعيّ برئيس جامعته، كانت الجامعة الأردنية، في أواخر السبعينات من القرن الفائت، تعيش مرحلة غليان طالبيّ حين عمدت الأجهزة الأمنية إلى إلغاء اتحاد الطلاب، فاندلعت الاحتجاجات وبلغت حدّ الصدامات، واقتحام العسكر حرم الجامعة، ما اضطر الرئاسة، وفيها ناصر الدين الأسد، الطلب إلى العسكر بالانسحاب، وكان أن وقف بين الطلاب المحتجّين لتهدئتهم كي يتسنى له مطالبة العسكر بالانسحاب، لكنه يومذاك، وعلى مرأى من طلابه وفريق عمله، تعرّض للضرب بهراوات العسكر. هذا المشهد كان بداية تواصل، عن بعد، بيني ومعي طلاب قسم اللغة العربية، وبين هذا الأستاذ الذي لم نكن تعرّفنا به بعد. ولكن تكرّ الأيام الجامعية في قسم اللغة العربية وآدابها، ونأخذ في التعرف بالأسفار التي أنجزها أستاذنا، بدءاً ب «مصادر الشعر الجاهلي»، و «الاتجاهات الأدبية الحديثة في فلسطينوالأردن»، «القيان والغناء في العصر الجاهلي»، «الشعر الحديث في فلسطينوالأردن»، «يقظة العرب» (شارك في ترجمته من الإنكليزية)، «نحن والآخر... صراع وحوار»، «نحن والعصر: مفاهيم ومصطلحات إسلامية»، «نشأة الشعر الجاهلي وتطوّره»، وصولاً إلى «همسٌ وبوح» (شعر) وغيرها من المؤلفات في النقد والأدب واللغة والتاريخ والدراسات الإسلامية. الأستاذ المولود في مدينة العقبة جنوبالأردن عام 1922 لأب أردني (من أصول سورية) وأم لبنانية، كانوا يقولون إنه هو «رجل الأوائل»، لقب أطلقه زميله الأستاذ الدكتور محمود السمرة، فقد كان الراحل (الأسد) أول عميد لكلية التربية والآداب في الجامعة الليبية في بنغازي في الخمسينات، وأول رئيس للجامعة الأردنية عند تأسيسها في عام 1962، وأول وزير للتعليم العالي عند استحداثها للمرة الأولى في الأردن 1985، ثمَّ عاد فشغل المنصب الوزاري في 1989، وكان الأسد أول رئيس ل «مؤسسة آل البيت». لعلّ هذه «الأوائل» من الدخول في السلك الوزاري والديبلوماسي والإدارات التعليمية والأكاديمية، كانت من بين عوامل حرمت الثقافة العربية من المزيد من الإنجازات التي كان سيقدّمها هذا الرجل، فالمسؤوليات الإدارية سلبته قدراً من طاقته البحثية وجهوده النقدية والفكرية عموماً. وكان يحلو لي دائماً المقارنة بينه وبين الراحل الكبير إحسان عباس، وهما من الجيل نفسه، ودرسا على الأساتذة أنفسهم في الكلية العربية (القدس)، إسحاق موسى الحسيني، أحمد سامح الخالدي، ونيقولا زيادة، لكن ما ميّز إحسان عباس هو إخلاصه لبحثه ودراساته، وابتعاده من المناصب والمسؤوليات الإدارية، والسلطة عموماً، ما حفظ له هذه الصورة التي نعرفها، من دون أن يعني هذا الرأي انتقاصاً من قامة «الأسد» وجهوده، ولا يعني أننا نضعه في مصافّ السلطويين من المثقفين الكبار. ليس الأسد مجرد باحث وناقد، بل إنه مفكّر يجمع الفكر والأدب، فقد كانت له اجتهاداته على صعيد الفكر الأدبي، سواء في تركيز اهتمامه على المفاهيم والمصطلحات، ومدى أهميتها، أو حتى على مستوى اهتمامه بالعلاقة بين الفكر واللغة، فضلاً عن ترديد مقولات مهمّة عن العروبة والإسلام، فهو يمتلك مقولاته ذات الخصوصية في هذه المجالات كلها. فعلى صعيد المصطلح، يعتبر الأسد المفكر أنه «من أهم أدوات الغزو الفكري، وكثيراً ما يستعمل لتغريب الفكر، والمصطلح ليس مجرد تركيب حروف، إنما هو مفهوم ومضمون ومصطلح، فإذا كانت اللغة أداة التفكير، فإن المفاهيم والمعلومات هي مادته». وبخصوص اللغة، وعلاقة الكاتب باللفظ والمعنى، نجد في كتابه «نحن والعصر» قوله: «يحسن بالكاتب أن يبدأ بفحص ألفاظه ومصطلحاته، وتحديد معانيها وتوضيحها، والتأكد من تأديتها المعنى الذي يريده، وقدرتها على الوصول إلى السامع أو القارئ، ومخاطبة مراكز الفهم لديه. وشأن الكاتب في ذلك شأن صاحب الحرفة أو المهنة الذي يبدأ بتحديد أدواته وآلاته، وفحصها والتثبت من قدرتها على تأدية العمل المطلوب منها، فإذا لم يفعل الكاتب مثل ذلك، تداخلت معاني الألفاظ، وغامت دلالاتها، وعجز المتلقّي عن تحديد المقصود، ويصبح من الممكن استعمال اللفظ الواحد للدلالة على معان متعددة قد تختلف، بل قد تتناقض، وكذلك يصبح من الممكن استخدام النص في الفهم ثم التطبيق استخداماً يختلف باختلاف أصحاب المصلحة فيها». ومثله مثل كثير ممن بدأوا حياتهم شعراء، أتذكّر إحسان عبّاس أيضاً، ثم تركوه إلى حياة البحث والدراسة، عاش الأسد مثل هذه الثنائية والتناقض، يقول في أحد لقاءاته إنه «يعيش شخصين متناقضين في حياته الأدبية: عقلية صارمة حين يتعلق الأمر بالجهد الأكاديمي العلمي، وأخرى وجدانية صوفية شعرية، حين يتعلق الأمر بغير ذلك، ومنه الشعر بطبيعة الحال». والأمر نفسه قاله لي عبّاس في أحد لقاءاتنا، حين صرّح بأنه وجد من الأفضل توجيه طاقته الأساسية إلى البحث والدراسة، لأنه - ربما - لن يقدم جديداً في مجال الشعر. إننا حيال خسارة لواحد من أبرز شخصيات ذلك الجيل من الكبار، فقد جسّد الأسد في مراحل حياته وعمله حضوراً لباحث جاد ذي معرفة عميقة بالتراث الفكري والأدبي، وبتراث الأمم والحضارات، كما تعلّم المنهج العلمي، والأسلوب الموضوعي في البحث، واستطاع أن يحجز لنفسه مكانة مميزة في المعترك العربي النقدي والفكري.