المجتمع لا يعترف بهم لأن ظروفهم الاجتماعية حالت دون التأقلم مع المجتمع بصورة طبيعية إنهم يدفعون ثمن جريمة لم يرتكبوها وإنما ارتكبها أفراد من الأسرة وظلوا هم يدفعون الثمن فمن ارتكب الجريمة عاقبه القانون وأخذ عقابه بالحبس وتركهم بلا عائل ومعهم وصمة عار جريمة عائلهم ليصبحوا هم أيضا محبوسين داخل مجتمع ينظر إليهم علي أنهم مجرمون. ومهما كانت ظروفهم الصعبة فهم لا يستقبلون نظرة شفقة ولا عطف وإن تغلبوا علي هذه الظروف وحققوا مكانة لهم في المجتمع فهم لا يعاملون باحترام لأنهم من أسرة مسجون أيا كانت ظروفه. ففي مشهد قاس ومؤلم تدخل امرأة غرفة كبيرة بخطوات مترددة وبنظرة صارمة من رجل كبير السن يقف في وسط الغرفة، تقوم المرأة بخلع ملابسها كاملة وتتمدد علي سرير يتوسط الحجرة الكبيرة، ويتجمع حولها عشرات الشباب يتفحصون جسدها فقد اعتادت علي أن تعمل كموديل جسدي لطلاب كليات الطب مقابل جنيهات قليلة مثلها مثل جثث التشريح يدرسون جسدها ويتفحصونه بعيون وقلوب جامدة وأخذوا يلمسون كل قطعة في جسمها ويتحدثون بالإنجليزية "وكأنها فأر تجارب" إنها عزيزة عبد العزيز أم لطفلين وزوجة لمسجون في قضية مخدرات مدة عقوبته خمسة عشر عاما.. ولم تجد عملا شريفا تمتهنه بعد أن أغلقت جميع الأبواب في وجهها سوي أن تكون "موديلا" في كلية الطب ولعلها رأت في ذلك حلا أقل قسوة من أن تستغل جسدها بصورة أخري وفي نهاية المشهد تأخذ من كبيرهم عشرين جنيها علي الأكثر وتلملم ملابسها وكرامتها وتنصرف. وأما عواطف أحمد بدوي فتعمل في أحد المستشفيات في نظافة حجر الأطباء والحمامات الخاصة بالأطباء مشكلتها أن زوجها توفي داخل السجن وفي بداية سجنه عملت مربية للأطفال في "حضانة صغيرة" من أجل تربية أربعة أطفال صغار بنتين وولدين وكانت تأخذ معونة من إحدي وحدات التضامن الاجتماعي سبعين جنيها لكنها قررت أن تعلم أولادها جميعا خاصة أن زوجها تم سجنه وابنها الرابع مازال جنينا في أحشائها ولكن بعد أن علموا أنها زوجة سجين وأن أولادهم تربيهم زوجة سجين تم طردها من العمل فلجأت للعمل كخادمة في المنازل تخرج صباحا ولا تأتي إلا مساء واستطاعت من خلال هذا العمل أن تشتري ماكينة خياطة بالتقسيط وتعمل خياطة في المساء وخادمة بالنهار حتي وصلت الابنتان الكبيرتان إلي المرحلة الجامعية والولد المتوسط تعليما متوسطا ومازال الصبي الصغير في المرحلة الابتدائية ولكن أيضا عندما علمت الأسرة التي تعمل عندها بأنها زوجة سجين قررت طردها ولجأت للعمل في رعاية السيدات المسنات داخل بيوتهن واستمرت في العمل علي ماكينة الخياطة في المساء حتي تخرجت بنتاها وفي هذا الوقت قررت الجمعية حرمانها من المعونة وتخرج أبناؤها ولكن واجهوا المشكلة ذاتها في رفض الجميع تشغيلهم لأنهم أبناء لأب توفي في السجن وأرادت أن يكمل ابنها الأصغر تعليمه في كلية الهندسة لأن مجموعه يؤهله لذلك وبعد تكرار طردها من هذه البيوت بعد اكتشاف أن زوجها كان سجينا قررت العمل كعاملة نظافة وزاد من همها إصابة ابنتها الثانية بمرض الذئبة الحمراء وبدأت الأم تشعر بأمراض الكبد والعيون دون أن تجد من يمد لها ولأبنائها يد العون. وهذا الطفل يمر علي المقاهي يوميا من الساعة السابعة صباحا وحتي الثانية عشرة مساء لتلميع الأحذية معرض للضرب والطرد وقد يكون الحبس من شرطة المرافق أو اعتباره أحد أطفال الشوارع وهذا ليس عمله الدائم فمن الممكن أن تتحول مهنته إلي بائع مناديل أو فوط للسيارات بما تحمله هذه المهن من مخاطر. وتؤكد أمه أنه دائما ما يأتي إليها باكيا عليه آثار ضرب دون أن يقول السبب لكنها تعلم السبب من أحد أصحابه أو المعلم الذي يقوم بتسريحه وتسليمه البضاعة هذا خلاف إصابته بالحساسية نتيجة لرائحة الورنيش التي ظل يعمل بها وتوضح الأم أن لديها خمسة أطفال غيره وأبوه "مسجون" بسبب تعاطي الهيروين وتركنا ندفع الثمن وحينما أخذت الأم أخاه الثاني إلي ورشة ميكانيكا عاد إليها وعلامات حمراء كبيرة حول يديده وذراعيه وعلمت أن السبب أنه عندما أخطأ أوثق صاحب الورشة يديه في إحدي الماكينات وقام بضربه بمفتاح سيارة!! دموعها طوال الوقت لا تتقطع وحينما تم سؤالها عن منحة الضمان الاجتماعي أجابت ال مائة جنيه ح يعملوا إيه مع طفل واحد فما بالك بخمسة أفواه وأمهم. وليست وزارة التضامن الاجتماعي وحدها المسئولة عن اسر هؤلاء المسجونين من خلال جمعياتها ال "19" علي مستوي الجمهورية وهي بالطبع لا تكفي أسر المسجونين خاصة أن عدد المسجونين في مصر يصل إلي خمسين ألف سجين وهناك بعض الجمعيات الخيرية التي تتكفل برعاية أبناء وبنات المساجين كجزء من نشاطها ولكن ليس كل أعمالها ففي القاهرة جمعية واحدة علي مستوي المحافظة لرعاية أسر المسجونين ترعي ما بين 1450 إلي 1500 أسرة كل أسرة تأخذ متوسط "90" جنيها وقد تزيد إلي "100"جنيه علي حسب متوسط عدد أفراد الأسرة. وفي تقرير حقوقي عالمي أكد تقصير دور الرعاية اللاحقة بوزارة الداخلية وذلك لزيادة الأعداد عاما بعد الآخر وكذلك زيادة عدد الأسر كذلك تقصيرها في الدور الإعلامي وإذا لجأ إليها الإعلام يتم وضع العراقيل امامه في حين أن الإعلام هو المساعد الأساسي للرعاية اللاحقة وهذا ما أكدته المقدم هالة من الرعاية اللاحقة وهذا ما أكده أيضا مركز النديم للتأهيل النفسي والرعاية اللاحقة هي من تضع أسماء الأسر المستحقة للمعاش الشهري من الجمعيات وترسل هذا الطلب إلي وزارة التضامن ووحداتها التي يتم التأشير عليها كذلك المفروض أن يكون دور الرعاية اللاحقة توجيه الرأي العام حول مشكلة المسجونين وأسرهم والمفرج عنهم لتهيئتهم لسبل حياة شريفة. تتسائل د. آمنة نصير أستاذ الفلسفة بجامعة الأزهر أين دور المجلس القومي للمرأة وتعاونه مع الجمعيات الأهلية لرعاية زوجات المساجين من مشروعات أسر منتجة وإكسابهم مهارات يدوية لأزمة ؟ولماذا لا تدخل المرأة ذات العائل المسجون ضمن مشاريع "المرأة المعيلة"؟ أليست هذه المرأة أولي بالرعاية من المرأة ذات الزوج المريض أو الأرملة صاحبة المعاش؟ وتستطرد: أين العمل بالآية الكريمة "لا تزر وازرة وزرأخري" وتؤكد أن الضمان الاجتماعي لم يكن في العصر الحديث فقط بل هناك أول وثيقة للضمان الاجتماعي في الشريعة الإسلامية كانت في عهد الإمام علي كرم الله وجهه التي تحتوي علي رسالة كتبها الإمام علي إلي واليه في مصر يقول: فيها "الله الله الله في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمني" "المصابين بعاهة" واجعل لهم قسما في بيت مالك وتعهد ذوي الرقة في السن واليتامي ومن لا حيلة له.. وتوضح د. آمنة معني الوثيقة بأنه يقول له اتق الله في ذوي الحاجة من المجتمع لأن الطبقة السفلي موجودة منذ العصر الأول الإسلامي وأسرة المسجون من ذوي الطبقة السفلي وهم من تطبق عليهم عبارة "أهل البؤس" وقبله أقر الرسول صلي الله عليه وسلم مبدأ التضامن الاجتماعي حينما جاءته أرملة جعفر بن أبي طالب تشكو يتم أولادها فقال لها صلي الله عليه وسلم: "اتخافين عليهم العيلة وأنا وليهم في الدنيا والآخرة" وهذا أول قرار يحقق تأمينا من الدولة للأسر التي بلا عائل.