ظاهرة البناء العشوائي التي يعيش أصحابها في ظروف تفتقر إلي الخدمات والمرافق فتصبح مكانا آمنا للأمراض إضافة إلي استغلال الرقعة الزراعية وتحويلها إلي مناطق سكنية تزيد من تأثيرها في المساحة يوما بعد آخر. والبناء العشوائي ظاهرة تنفرد بها مصر عن غيرها من الدول، فقد كشف تقرير لصندوق الأممالمتحدة للسكان أن أكثر من 51 مليون نسمة يعيشون في عشوائيات في مصر، مشيرًا إلي أن القاهرة وحدها تحتوي علي 76 منطقة عشوائية، وأن هناك 1221 منطقة عشوائية في مصر تأوي 51 مليون شخص. وفي تقرير آخر للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان كشف عن ارتفاع نسبة العشوائيات في مصر بصورة كبيرة، موضحًا أن هؤلاء السكان يعيشون في بيئة غير صحية، حيث تنشأ المخاطر الصحية من سوء الصرف الصحي، وعدم وجود مياه نقية، والاكتظاظ وسوء التهوية في بيئتي المعيشة والعمل، وتلوث الهواء والتلوث الصناعي، والغذاء غير الكافي حيث تقام هذه العشوائيات من الصفيح أو الزنك أو الخشب أو الكرتون في شكل أكواخ متفرقة، وذات أزقة ضيقة يصعب تحريك المركبات داخلها. د. جليلة القاضي مدير الأبحاث بالمعهد الفرنسي للبحوث من أجل التنمية أوضحت أن المناطق العشوائية تنقسم إلي نوعين، أولهما نشأت علي أراض صحراوية وتملكها الدولة وتمثل 4% من جملة المناطق في مصر مثل منطقة "منشأة ناصر" و"عزبة الهجانة"، أما النوع الثاني فنشأ علي أرض زراعية وتمثل الغالبية العظمي. وأكدت في كتاب لها حمل عنوان "التحضر العشوائي" أنه لا يوجد تجانس بين سكان هذه المناطق، فدائمًا القاطنون علي أطرافها لهم ميزة أكبر ممن يسكنون بداخلها، ويلاحظ أن هذه المناطق بنيت من مواد صلبة بها هياكل خرسانية وتحاكي الإسكان العادي ولكن مع اختلاف مواصفاتها من حيث ضيق المساحات والإضاءات ورداءة التهوية ونشأت هذه المناطق نتيجة لطرد سكان يقطنون بمنطقة سكنية عادية بعد أن أصبحوا بلا مأوي، في حالات مثل حدوث زلزال أو سقوط منازلهم، وهي مساكن غير مهمشة ولا سكانها حيث يتقاضون دخولا ثابتة عن وظائف يمارسونها، وتكمن مشكلة هذه المناطق في تحويلها من مناطق زراعية لمناطق سكنية. من جانبه يحذر المستشار جمال جلال أبو زيد نائب رئيس مجلس الدولة من خطورة مثل هذه العشوائيات علي الأمن القومي، إضافة إلي تأثيرها السلبي في المنظر الجمالي للدولة، فقد شوهت هذه العشوائيات مدننا الجميلة بعد أن كانت هذه المدن من أفضل وأجمل مدن العالم. وأكد أن ضعف الرقابة وعدم تطبيق القانون وانتشار الفساد دفع الكثير من الناس إلي ارتكاب المخالفات، وهم علي قناعة بأنه سوف يتم التصالح في هذه المخالفات مطالبًا بعدم التهاون وتطبيق القانون علي المخالفين دون استثناء منذ البداية وعدم ترك الأمر حتي يستفحل، إن العشوائيات تمثل قنبلة موقوتة، وبعض سكان هذه المناطق يمثلون خلايا نائمة يمكن أن تهدد أمن الوطن، لكنها فئات قابلة للقيام بالجرائم، كما أنها مناطق موبوءة وبؤر إجرامية. ويشاركه الرأي المستشار عبد الغفار جاد الله رئيس محكمة جنايات القاهرة مشيرًا إلي أننا إن وصلنا لهذا الحد نتيجة الإهمال الجسيم من الحكومة بعدم وجود تخطيط حقيقي لهذه المناطق، مع عدم وجود متابعة من المسئولين وعدم تطبيق مبدأ الثواب والعقاب، مؤكدًا أن العقوبات الواردة في القانون كفيلة لردع المخالفين شريطة تطبيقها، وعدم التهاون فيها. ويحذر من التهاون في تطبيق القانون في هذه الحالة، خاصة مع الزيادة السكانية، حيث يستغل معدومو الضمير أصحاب الحاجة، فيترتب عليها جرائم أخري مثل النصب والاحتيال، وغيرها من الجرائم الأخري. ويحمل د. محمد الدسوقي أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة الحكومة المسئولية عن انتشار العشوائيات التي تركت - الحكومة - الحبل علي الغارب، وتجاهلت تطبيق القانون حتي وصل إلي هذا الحد، فزادت العشوائيات بصورة مرعبة، ترتب عليها الكثير من المخالفات الشرعية والقانونية. ويؤكد أن المسئولية مشتركة مع الشخص صاحب العقار والمقاول المنفذ لأن كلا منهما يعلم أنه يقوم بأمر غير مشروع ويخالف القانون، مشيرًا إلي أن أغلب الرخص الذي ينفذ علي أساسها البناء مزورة، قد يكون صاحب العقار قد دفع رشوة للموظف المسئول لاستخراج هذه الرخصة، وتركيب المرافق، كما يمكن أن تكون الأرض المبني عليها هذا العقار مغتصبة. وقال: يجب أن تكون لنا القدوة في المسلمين الأوائل عند بناء وتخطيط المدن.. مشيرًا إلي أنهم اهتموا بعمارة المدن وتخطيطها علي أسس علمية، فعندما استقر الرسول "بها قام بتحديد الوظائف الأساسية للمكان، ومنها محورية المسجد الجامع، وبساطة وفاعلية المسكن، والسوق، ودور الضيافة، وهذه كلها الأسس المبكرة للمدن الإسلامية التي قامت علي استيعاب تراث السابقين وتقديم الجديد الذي يتلاءم مع روح الدين الإسلامي وقيمه. ويتفق معه د. عبد الوهاب فكري بجامعة الأزهر حول أن الإسلام يرفض العشوائية في البناء.. مشيرًا إلي أن ظهور ما يمكن تسميته بفقه البنيان نتيجة لتطور الدول الإسلامية وتمصير الأمصار المختلفة وتوسع المدن، والذي يهدف إلي تحديد وتنظيم العلاقات بين الناس والسيطرة علي البناء وحل المشاكل التي قد تنجم بين الناس. وأضاف: إن الفقهاء قسموا أحكام البنايات إلي أربعة أقسام رئيسية هي: البناء الواجب: مثل بناء المساجد لتقام فيها الصلوات، وبناء الحصون والأربطة للدفاع عن ديار المسلمين.. وهناك البناء المندوب: كبناء المنابر والتي تندب للأذان وبناء الأسواق، حيث يحتاج الناس للسلع ولكي لا يتكلفوا عناء البحث عنها، فندب الشرع لذلك بناء الأسواق لكي يستقر بها أصحاب السلع، ويسهل للناس شراؤها منهم.. وهناك البناء المباح: مثل بناء المساكن التي تبني بهدف الاستغلال فمن المعروف أن الشريعة جاءت لحفظ المقاصد الخمس: الدين، النفس، المال، العرض، والنسل، واللّه جعل أسبابًا مادية يقوم بها البشر، كي يحققوا تلك المقاصد، ومن هذه الأسباب بناء المساكن والدور ليحفظ فيها الناس أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وتقيم فيها الأسر هذا بالإضافة إلي البناء المحظور: كبناء دور السكر ودور البغاء والبناء علي المقابر وفي أرض الغير. وأشار إلي أن هناك العديد من المباني في الوقت الحالي تخالف هذا الفقه خاصة في المناطق العشوائية، مشيرًا إلي أن الفقهاء في تناولهم لأحكام البناء اعتمدوا علي بعض الآيات في القرآن الكريم وعلي الحديث الشريف وعلي بعض الأعمال العمرانية التي قام بها الرسول صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون وعلي العُرف أخذًا عن حديث عبد الله بن مسعود رضي اللّه عنه: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند اللّه حسن" كما كما أخذوا عن الحديث: "لا ضرر ولا ضرار" وترتب علي مبدأ "لا ضرر ولا ضرار" و"الأخذ بالعرف" في تقرير أحكام البناء، نشوء مبدأ: "حيازة الضرر" الذي صاغ المدينة الإسلامية صياغة شاملة و"حيازة الضرر" تعني أن من سبق في البناء يحوز العديد من المزايا التي يجب علي جاره الذي يأتي بعده أن يحترمها، وأن يأخذها في اعتباره عند بنائه مسكنه، وبذلك يصيغ المنزل الأسبق المنزل اللاحق. فيما يؤكد رمضان بغدادي الباحث في التاريخ الإسلامي أن أغلب البنايات في العصر الحديث والتي شوهت المنظر الجمالي للمدينة تخالف القواعد التي اتفق المعماريون المسلمون الأوائل عليها، خاصة أنها لا تحترم الخصوصية.. مشيرًا إلي أن نظام المدينة في الإسلام يعتمد علي التجانس والتبيان الاجتماعي، حيث كانت المدينة تتشكل من نظام يقوم علي تقسيمها من حيث التخطيط إلي ثلاثة مستويات هي: الأماكن العامة: وهي التي تقع علي جانبي الشارع الرئيسي للمدينة، وتشمل الأسواق المركزية، والمتاجر الكبري المغطاة والمكشوفة، وورش المهنيين والحمامات وما إليها وهناك الأماكن نصف العامة: وهي التي تقع علي جانبي الشوارع المركزية للأحياء والتي تتفرع من الشارع الرئيسي للمدينة، وتتخللها بعض المباني السكنية.. إضافة إلي الأماكن الخاصة: وهي التي تقع علي امتداد الحواري والمسالك المسدودة الضيقة أو المنعطفات والتي تتفرع من الشوارع المركزية للأحياء. ولفت إلي أن تخطيط المدن والعمارة الإسلامية بدأ منذ الهجرة إلي المدينةالمنورة حيث أصبح للمسلمين مدينتهم الأولي، وكانت تقع علي طريق التجارة إلي الشام، وذات تربة خصبة ومياه وفيرة مقارنة بمناطق أخري في الحجاز وعلي هذا كان ليثرب بنية اقتصادية جيدة.