ويستطيع أي إنسان – مهما كانت قدراته؛ إن يحكم مصر بنجاح. فالشعب المصري طيب، ويقدس حكامه، وهذه عادة متوارثة من أيام أجدادنا الفراعنة. فقد أحب الشعب المصري كل حكامه حتى القساة والظلمة منهم. أعجب الشعب المصري بفاروق الملك، أعجبوا بشبابه ووسامته، وكان مضرب الأمثال في الأحياء الشعبية، عندما يرون شابا وسيما يقولون زي القمر مثل الملك فاروق. وكانوا يبررون أخطاءه، فهو ابن ملوك ومن حقه أن يسهر ويعربد ويلعب القمار ويرافق النساء. وأحب الشعب المصري محمد نجيب، أعجبوا بطيبته وتواضعه، وعندما عزله جمال عبدالناصر وحدد إقامته في قصر زينب الوكيل بالمرج، قال الشعب إن محمد نجيب هو الذي اختار جمال عبدالناصر لخلافته بعد اشتداد المرض عليه، ومازلت أذكر صديقي المسيحي الذ كان يكبرني بسنوات قليلة، وكان يعمل عند خالي، وهو يحكي لي هذه الحادثة، وهو يمثل، إذ يضع يده ناحية شمال صدره، ويتخيل محمد نجيب وهو يقولها: - فيه جمال عبدالناصر. وكذلك فعلوا مع جمال عبدالناصر، أعجبوا بطوله وقسمات وجهه، ورجولته. وعندما عُين محمد أنور السادات نائبا لجمال عبدالناصر، اعترض صديق لي على هذا لأن السادات يرتدي بذلة بصفين، وقال لي: - تخيل لو تولى الحكم، كيف يحكمنا رئيس يرتدي بذلة بصفين؟! وتولى السادات الحكم، وظهر بعد سنوات قليلة من حكمه في أزياء عديدة، مرة بملابس ريفية غالية الثمن، ومرة بملابس عسكرية أنيقة تشبه ملابس هتلر أيام الحرب العالمية الثانية، ومرات بالبدل الحديثة، وكنت أتذكر صديقي هذا الذي سافر إلى السعودية، تمنيت أن أقابله لاسأله عن رأيه في ملابس رئيسنا الجديد. وسألت عن عنوانه في السعودية، لكي أرسل إليه رسالة لأخبره بأنهم اختاروا السادات – الذي لم تكن تعجبك بدلته أم صفين - من أشيك ثلاثة أو خمسة رجال في العالم. سبحان مغير الأحوال. لماذا يرفض الأمير كمال الدين حسين الحكم؟ لقد حكم والده السلطان حسين كامل ثلاث سنوات، ورأى بنفسه القصور العديدة في القاهرة والإسكندرية وباقي مدن مصر التي عاش فيها والده، ورأي الخضوع الذي يبديه لوالده كل من تعامل معه من المصريين. فما الذي جعله يرفض كل هذا العز؟! قد تكون الفترة التي حكم فيها والده هي السبب، إذ حكم فور بدء الحرب العالمية الأولى. فكانت الحروب حول مدن مصر وقريبة جدا من القاهرة والإسكندرية. كما أن والده تعرض لأكثر من محاولة اغتيال لقبوله الحكم تحت رغبة الإنجليز. مرة في 8 أبريل/نيسان 1915 عندما أطلق شاب اسمه محمد خليل النار عليه في شارع عابدين، لكن الطلقة أصابت إطار العربة التي كان السلطان يركبها. وفي الجمعة 9 يوليو/تموز 1915 بينما كان السلطان ذاهبا لصلاة الجمعة في مسجد أبي العباس المرسي بالإسكندرية؛ رمى محمد نجيب الهلباوي قنبلة على موكبه أمام المنزل رقم 99 بشارع رأس التين بالإسكندرية (أمام ضريح سيدي يوسف الجعراني)، لكن القنبلة سقطت تحت أقدام الخيل ولم تنفجر. أم أن الحالة الإقتصادية في البلاد جعلت الحكم صعبا، فقد كثرت في وقت حكم والده جرائم تزييف النقود الفضية والورقية من الأجانب والمواطنين، وضبطت آلات التزييف في عدد من القرى والمدن. وكذلك خطف النقود والملابس والمواد الغذائية من المارة والمحلات العامة، وكثرت السرقات واشترك في السرقات بعض المتعلمين لأول مرة في تاريخ البلاد. فمنهم المحامي وأرباب الشهادات من المتعطلين وبعض الموظفين. أم أن الأمر متعلق بوالده، فقد رأى الأمير الشاب والده وهو يعاني من مشاكل الحكم، فآثر الابتعاد عنه. فقد نشرت الصحف في عام 1917: إن الانجليز جاءوا للسلطان حسين كامل، سلطان البلاد بأحد أطباء الأمراض العقلية، ليكشف عليه ويختبره، ولكن السلطان نهره وطرده من حضرته. ونشرت الصحف الأجنبية أيضا: إن السلطان حسين كامل، سلطان مصر، عصبي المزاج، سريع الانفعال، مصاب بالأرق، لا ينام من ليله، إلا ساعة أو بعض ساعة. لا أدري لماذا لم يهتم أساتذة التاريخ الحديث في مصر بشخصية الأمير كمال الدين حسين الذي رفض حكم مصر، تلك الشخصية الفريدة التي تستحق البحث والتنقيب، ولماذا لم يكتبوا عنه، ويوضحوا لنا أسباب هذا الرفض، وهل كان محقا في هذا، أم أن الأمر يتعلق بشخصيته هو. فربما ورث القلق والأرق من والده السلطان حسين كامل، فخاف المسئولية.