لتوفيق الحكيم عبارة رشيقة يقول في: " أمة أتت في فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى أو معجزات ، لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش إلى الأبد " . هذه العبارة قفزت إلى ذهني مباشرة حينما علمت أن مصر تتأهب لإعلان عصيانها المدني وإضرابها العام يوم السبت الموافق الحادي عشر من فبراير ، أي في ذكرى تنحي مبارك عن حكم البلاد من العام الماضي ، وإن صح التوصيف تخليه عن مسئولية منصب رئيس الجمهورية ، وفي الأخيرة تهمة أخرى تضاف إلى مجمل الاتهامات الموجهة إليه وهذا التخلي يعد خيانة للواجب الوظيفي ، ونحن نستثني هذا الاتهام لأن المخلوع مبارك ليس بحاجة إلى مثالب أخرى تضاف إلى مثالبه ونقائصه . هذا العصيان الذي جاء بدون شق عصا الطاعة لأن الشعب منذ الخامس والعشرين من يناير لم يعرف أمر السمع والطاعة في المنشط والمكره سوى مرتين ، الأولى حينما سيق الشعب نحو صناديق الاستفتاء على تعديل بعض مواد الدستور الذي كان أولاً منذ شهور بعيدة مضت وأصبح اليوم الدستور تائهاً بين الانتخابات الرئاسية ، وبين هوس الميدان المحموم نحو الاعتصامات وحالات الكر والفر التي لم يجد لها مجلس المرجعية الدينية مخرجاً للقضاء عليها . والمرة الثانية حينما استعدت التيارات الدينية لمعركة الصناديق في انتخابات مجلس الشعب ، والتي ذهب المواطنون إليها وهم يمنحون هذه التيارات التي باتت حبيسة المشاركة في المشهد السياسي طوال عقود ثلاثة ، فأعطوهم أصواتهم لاعتبارات متباينة لا تخفى عن الرائي والناظر لهذا المشهد السياسي ، فمنهم من كان يتشفى في سقوط الحزب الوطني المنحل وكأنه يريد إعطاءه درساً أخيراً في إرادة الشعب غير المزيفة ، ومنهم من جند نفسه لحرب الليبراليين الذين هم من وجهة نظرهم خارجين مارقين على تعاليم الشريعة الإسلامية ، ويكفيهم في ذلك أن لفظة ليبرالية منحوتة من كلمة أجنبية أتت إليهم من بلاد الشرك والضلال . ومنهم من استطاع أن يقنع نفسه بأنه في جهاد ضد أقباط مصر ، وما الانتخابات سوى معركة تظهر قوته أمام ضعف التواجد القبطي في الحراك السياسي في مصر ، بخلاف الحشود الموجهة أيديولوجياً لمصلحة التيارات الدينية نفسها. ولا يستطيع جاحد أو منكر الاعتراف بقدرة التيارات الدينية على الاستفادة من المقدرات التاريخية التي ورثوها عبر سنوات كفاحهم ضد الأنظمة الحاكمة ، فاستفادوا جد استفادة من عهود القمع والمعاناة والاضطهاد التي مكثوا من خلالها في ظل الأحداث السياسية اللهم سوى بعض العمليات المسلحة في تسعينيات القرن الماضي . كما أنهم تمكنوا في في زمن قصير وسط زمرة الاستعداد للانتخابات الإفادة من الروابط التقليدية للأسرة المصرية الغائبة عن المشهد السياسي منذ عقود ، وهذه الروابط هي التي مكنتهم من القدرة على تحشيد وتجييش النفوس والمشاعر وأغيراً الأصوات في معركة انتخابية بمقاييس ما يحدث في بر مصر الآن من فوضى أظن أنها معركة خاسرة كشفت عن مدى عجز تلك التيارات في احتواء أزمة الميدان وبلطجة المشجعين و مؤامرات الفلول . ورغم أن هذا فان دعاوى العصيان المدني باء بالفشل نتيجة مواجهة طيبة القصد ومثمرة التوجه من بعض رجال المؤسسة الدينية الرسمية كشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب ومفتي الديار المصرية الدكتور المستنير علي جمعة ، وكذلك جهود بعض المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية الذين لم يتأهبوا بعد لتسلم البلاد ولم يحسموا موقفهم السياسي بعد تجاه المجلس الأعلى للقوات المسلحة . وكذلك بعض الجهود الذاتية التي قام بها بعض رجال الدين كالشيخ محمد حسان وغيره في توجيه انتباه المصريين (المسلمين فقط ) بأننا نركب سفينة واحدة إذا غرقت غرقنا جميعاً على حد وصفه ؛ إلا أن التيارات الدينية الضاربة انتشاراً في طول وعرض مصر اكتفت بالإعلان عن عدم مشاركتها في هذا العصيان المدني والإضراب العام عن العمل ، مجرد الإعلان بعدم المشاركة ، رغم أن قوى سياسية كثيرة في مصر وصفت عدم مشاركة هذه التيارات في العصيان بأن هذا دليل على ضعف الهوية الوطنية ، وأنهم بذلك يعمدون إلى تفكيك القوى والتيارات السياسية ، معلنين بذلك إلى ولائهم الضيق لجماعة معينة دون غيرها ، وغير ذلك من الاتهامات الكثيرة التي وجهت إلى هذه التيارات ... والغريب أن هذه التيارات كان ينبغي عليها أن تعترف أولاً بفضل الديموقراطية التي سنحت لهم في الوصول إلى اعتلاء المشهد السياسي ، إلا أن الثقافة الدينية لديهم لا تسمح بالتحول الديموقراطي المغاير ، فكان من الأحرى أن يرصدون حركة هذا العصيان وإقامة منتديات حوارية مثل التي يقيمونها لتعرف وجهة نظر الداعين لهذا العصيان ، لكن لأن هذا الإضراب لم يدخل في أجنداتهم السياسية لم يهتموا بهذا . ناهيك على أن التيارات الدينية وجدت في دحض هذا العصيان المدني فرصة طيبة في اندماج الأيديولوجيات الدينية في منظومة السلطة ، بخلاف المواطن ذي الهوية المصرية الذي قرر عدم انصياعه لهذا العصيان من باب أن بلاده تأمل فيه خيراً ، وأن أيامنا تلك هي مفرق طرق نأمل الوصول من خلالها إلى بر الأمان ، وهو في ذلك غير طامح لمقعد برلماني أو لمجلس استشاري يضمن عضويته . بيد أن معظم التيارات الدينية التي نجحت في دحض فكرة العصيان المدني علقت هذا العصيان على شماعة التوجهات العلمانية الغربية ، والدعاوى الليبرالية الداخلية والتي تقودها بعض الحركات الشبابية ومجموعة من الائتلافات الثورية التي صنعت الثورة ولم تقفز عليها مثلما صنعت بعض هذه التيارات الدينية . ومشكلة التيارات السلفية أنها قليلة الثقة بالإنسان ، مفترضة بأن الإنسان بالضرورة يتجه إلى الأسوأ ، حتى ولو كان تغييراً ، وهذا ما يفسر تأخر القوى السياسية ذات الصبغة الدينية في الانخراط الثوري المباشر في بدايات ثورة الخامس والعشرين من يناير ، وكثيراً ما أسمع حتى لحظة الكتابة من بعض رجال الأزهر الذين تربطني بهم صداقات عميقة أن ما حدث في مصر من ثورة هو خروج على الحاكم . إذن لابد وأن نقر حقيقة واقعية ونحن نرصد حالة العصيان المدني التي شهدتها مصر في الحادي عشر من فبراير الجاري ، وهي أن عدم استجابة التيارات الدينية لمثل هذه الدعوة ترجع إلى سببين ، الأول هو أن المشاهد السياسية تكاد تكون شبه مستقرة في صالح التيارات الإسلامية من إخوان وسلفية وتيارات دينية مشتقة من عباءتهما ، والثاني هو طبيعة السلفية ذاتها ، حيث إنها فلسفة سياسية انقيادية محافظة تتمسك بالانقياد والانصياع والطاعة للواقع التاريخي وتنفر بطبيعتها من الخروج والثورة ؛ وهذا النجاح الملموس والملحوظ الذي حققته التيارات الدينية الصاعدة في قمع حالة العصيان المدني في مهدها كان نتيجة طبيعية لمحاولتها التاريخية في الاحتفاظ بالثبات والحركة سوياً ، إلا أنها اكتفت في هذه المرحلة بتعليق الحديث عن جدوى العصيان ومجرد البوح بعدم المشاركة فيه ، أي أنها طبقت بامتيار نظرية الانتقاء الإرادي ، وهي انتقاء حالة الريادة السياسية التي حققتها منذ اعتلاء معركة الصناديق الزجاجية ، ومن ثم فإن أية محاولة أخرى غير محسوبة قد تفقدهم هذا الرصيد الكبير الذي تم تحقيقه . وهنا يمكننا أن نسجل جديداً في رصد المشهد السياسي لدى التيارات السلفية في مصر ، فإن إعلانها رفض العصيان المدني يعد خروجاً على حركة التقوقع في ماضٍ يستحيل إعادته ، أي أن السلفية أخيراً عبرت عن نفسها ودحضت الفكرة السائدة عنها بأنها حركة غير تجديدية أو تحديثية ، بل استطاعوا أن يؤكدوا بأنهم يمثلون حواراً مستمراً بين النص الديني والحياة الواقعية ، غير متخلين في ذلك عن رفضهم المطلق لاستيراد نماذج من الفكر والسلوك من حضارة ومدنية أخرى . وسيفشل العصيان المدني في مصر لا محالة ، وأسباب فشله المبدئية ترجع إلى إلصاق كلمة المدني بالعصيان ، وهي كلمة تستغلها التيارات الدينية للهجوم على فكرة المدنية ذاتها التي أصبحت وجعاً بجسد وعقل مصر ، بل إن تعطيل العمل بسبب الإضراب وما سيليه من أزمة اقتصادية على المستوى الفردي لأصحاب المتاجر سيجعل أقطاب التيارات الدينية يؤكدون على مقولة الإمام المرادي " اجعل أكثر أحوالك في اليقظة صمتاً ، وأكثر صمتك في الأمور عبرة ، فإن في كثرة صمتك راحة لقلبك " ، وأن التزامهم بهذه المقولة بالصمت تجاه هذا العصيان لفشله المتوقع لهو استشراف عن قرب بالمشهد السياسي والاقتصادي القادم . وسيفشل أيضاً هذا العصيان لأن الشعب لا يريد جراحاً جديدة تمتد لجسده الذي صار مستباحاً بفعل الانفلات الأمني والذي صاحبة التصاعد التخريبي للبلطجية ، بالإضافة إلى أن الداعين لهذا العصيان لم يتمنكوا من تعبئة الجماهير تجاهه ، كما كانوا يفعلون وقت الثورة ، لأن التيارات الدينية نجحت بالفعل أن تقتنص حق الحصول على صك تحشيد وتعبئة المواطنين نحو قضية ما ، وهو ما سنشاهده عما قريب ونحن نتأهب لاختيار مرشح رئاسي جديد لمصر ، حيث إن توجيه التيارات الدينية الاهتمام نحو مرشح بعينه كفيل بصورة قد تكون استثنائية وليست قاعدة بأن يضمن اعتلاءه سدة الحكم. رغم أن المشهد السياسي المنصرم منذ أسابيع كشف عن وجود حالة من انعدام الثقة التي منحها المواطن البسيط إلى الأحزاب الدينية وقت الانتخابات ، لاسيما بعد المشاهد الدموية التي حدثت بمصر المحروسة ، وكذلك تأخر تحقيق مطالب الناخبين أدى إلى عزوفهم عن إيمانهم بقدرة النواب في تحقيقها بالصورة التي كانوا يأملونها ، وهم معذورون في ذلك عذر النواب أنفسهم ، لأن مجلس الوطن محاصر بالفعل بين مطالب الثوار بالميدان ، ومطامح الناخبين ، والحوادث التي تضرب أمن مصر واستقرارها ؛ لكن المشكلة قد تكمن في المواطن المصري نفسه الذي قد يعاني بصورة مؤقتة من فقدان الذاكرة التدريجي ، فسينسى مطالبه ويؤجل تحقيق مطامحه الشخصية والاجتماعية متعلقاً بأمل مفاده أن المرشح الافتراضي ذا المرجعية الدينية سينجح في تحقيق ما فشل فيه النواب . وأظن أن التيارات الدينية وقتها ستنجح في استخدام النص الديني لمسوغ وحيد لاستمراها ، لأنه هو الذي يمنح وجودها الشرعية والحضور. لكن الأمر الذي يسترعي الانتباه بحزم وجدية أن ثقافة الاتهام لاتزال مسيطرة على فكر بعض التيارات الدينية لاسيما تلك التيارات الجديدة والمناوئة لجماعة الإخوان المسلمين التي تسعى أن تكرس لنفسها مقعداً ومكاناً ومقاماً بالمشهد السياسي رغم حداثتها ، فوجدنا التيارات الدينية تقيم علاقة افتراضية دون سند أو دليل أو نص إعمالاً بفقه النص بين العصيان المدني والمنادين به ، وبين منظمات المجتمع المدني الممولة من جهات أجنبية خارجية ، فكانت النتيجة حتمية لا محالة ؛ فشل العصيان من ناحية ، وإظهار أصحاب دعوته على أنهم عملاء وخائنين من ناحية أخرى ؛ وربما لم تكتف بعض التيارات والقوى الدينية في تشويه معالم العصيان المدني الذي ولد مشوهاً في مهده بالفعل ، بل سرعان ما استطاعت أن تشق الماء شقاً وذلك عن طريف تحويل أنظار المواطنين من حالة العصيان المدني التي تسير بخطى وئيدة إلى الاهتمام بقضايا سياسية واجتماعية أكثر سخونة والتصاقاً بالمشاعر الذاتية ، كضحايا مذبحة بورسعيد ، أو الحديث عن تكوين رؤية توافقية حول رئيس للبلاد ، أو عن تشكيل لجان شعبية لحماية المنشئات الحيوية في ظل الترهل الأمني وانفلاته وتصاعد المد التخريبي في البلاد . هذا وكان من الغريب ونحن نرصد المشهد السياسي الذي كان من أبرز ملامحه الأيام المنصرمة حالة العصيان المدني ، إلا أننا لم نجد تصريحاً أو فتوى فقهية جازمة بشأن هذا الإضراب من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نسختها المصرية بوصفها إحدى التيارات الدينية المعاصرة والتي باشرت عملها من خلال طريقين ؛ الأول عبر الطاقة الإليكترونية المستباحة المسماة بالفيس بوك حيث شيد بعض المنتمين للجماعات السلفية الضاربة بطول وعرض جسد مصر صفحة إليكترونية تعلن عن وجود هيئة مصرية تتزعم مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والثاني من خلال البدء التنفيذي لعمل الجماعة وذلك حينما قام مجموعة من الشباب بالمرور على محلات الحلاقة للتنبيه عليهم بمنع خلاقة الذقون للمسلمين طبعاً أما الأقباط فينتظرهم مصيراً آخر غير ذلك على أيدي هؤلاء ، وكذلك الترويج غير الآمن لضرورة ارتداء المرأة للنقاب لاسيما في صعيد مصر . لكن ، لكل هذه الأسباب مجتمعة يمكننا إلزام العقل بأن التيارات الدينية وإن كانت قد فشلت في التواصل مع مدبري العصيان المدني سواء بالرأي أو بالمواجهة، إلا أنها نجحت بفعالية في إفشاله ، بل وتشويه معالمه ومقاصده .