قرأتُ منذ سنوات طويلة قصة منشورة في مجلة العربي، لمؤلف يعيش في يوغسلافيا، تحكي عن والي في منطقة البوسنة والهرسك، مُعين من قبل السلطان العثماني، أيام احتلاله لهذه المنطقة. ثم جاء السلطان العثماني لزيارة البلاد، وتفقد الأعمال هناك، فراعه الفساد العجيب الذي أحدثه هذا الوالي، كان يسرق، ويعين أقاربه وأصدفائه في المناصب المهمة، ويحصل على إتاوات من التجار. غضب السلطان على هذا الوالي فكون لجنة من الحكماء، وقال لهم: - اختاروا لي موتة أقتله بها لم يسمع عنها أحد من قبل. وانتهت اللجنة إلى ربطه عاريا في منطقة مستنقعات، ودهن جسمه بالعسل، فيمص البعوض دمه إلى أن يموت. فرح السلطان العثماني بهذا الفكرة وأمر بتنفيذها. وبالفعل ربطوا هذا الوالي في عمود من الخشب، وعينوا لها أحد الحراس، يتابعه إلى أن يموت. رق الحارس له، فقد كان البعوض يغطي جسده كله، فاقترب منه، وهش البعوض الذي يحط على وجهه. فقال الرجل للحارس: - دعه، لا تهشه، فقد شبع ولن يفعل شيئا، فإن هششته، سيأتي غيره ليبدأ مص دمي من جديد. وصلت هذه الحكاية إلى السلطان العثماني الذي كان يستعد للسفر، عائدا إلى بلده، فطلب مقابلة الحارس وسأله: - هو قال لك لا تهش البعوض؟ فأكد الحارس هذا القول، فأمر السلطان العثماني، بأن يفكوا قيود الرجل، وأن يعيدونه واليا على البلاد كما كان. فدهش أعضاء لجنة الحكماء، وقال كبيرهم: - لقد كنت تريد قتله، فما الذي حدث؟ قال السلطان: - لقد أعطاني الوالي الحل، فقد نهب البلاد حتى اكتفى وشبع، سأقتله، وآتي بوالي جديد، سيسرق هو وأسرته، وأقاربه وأقارب زوجته. للأسف ضاعت مجلة العربي المنشور بها القصة، بحثتُ عنها في النسخ الموجودة عندي دون طائل، فقد كنتُ أتمنى أن أكتب عن هذا المؤلف الذي من شدة إعجابي بقصته ظللت أحكيها لمعارفي في كل مناسبة يتحدثون فيها عن فساد حسني مبارك. كنت أقول: - ليس هناك حل، فقد فعل السادات هذا هو وأقاربه وفعلت زوجته هذا هي وأقاربها، وعندما سيتعين رئيس جديد سيفعل مثلما فعل السادات ومبارك ما دمنا نؤله حكامنا. منذ فجر التاريخ والشعب المصري يتعامل مع حاكمه وكأنه إله، حتى ينسى الحاكم أنه بشر، ويتعود على أن يشمخ بأنفه ويتعالى. أحب الشعب المصري كل حكامه، وصنعوا منهم وهماً، فكلهم كانوا في منتهى الجمال والشياكة، والعقل والخبرة، فما إن نرى عبد الناصر، حتى نصيح ونهلل له، وقد رفعت الجماهير السورية عربته في دمشق في أول زيارة لها، وعندما اختلى عبد الناصر بمحمد حسنين هيكل، سأله: - ما رأيك فيما حدث؟ فقال له: أرجو أن تتذكر أنك بشر. وجاء السادات، فرأيناه جميلا، وأصبح أشيك رجل في العالم، وارتدي أنواعًا كثيرة من الملابس، ومثل دور كبير العائلة، وعشنا معه حكايات ألف ليلة وليلة. وكتب زكريا الحجاوي من منفاه الاختياري في دولة قطر إلى صديقه محمود السعدني (ما معناه): لو قدر لي وحكمت مصر، سيكتبون عن بطولات جدي، وعن دور أمي في الحركة الوطنية، وتضحيات والدي من أجل تحرير مصر. وورث حسني مبارك هذا الحب والإعجاب من الشعب المصري، لكنه أوغل في الفساد، ولم يكتف بسرقة مصر كلها هو وأسرته وأصدقاؤه، بل دعا الآخرين من خارج مصر لسرقتها، فانقلب الشعب عليه وكرهه. والذي يحدث في مصر حدث أكثر منه في بلاد عربية كثيرة، فالحكام العرب اعتادوا على أن يكونوا أسيادا، وشعوبهم عبيد لديهم. فتحكي مليكة - ابنة الجنرال أوفقير - عما يحدث في القصور الملكية في المغرب، أشياء لا تخضع لمنطق ولا عقل يتماشى مع التقدم العلمي والحضاري الذي يعيشه العالم، فالملك الحسن ليس بشرا، وإنما هو شيء مقدس، فممنوع أن تخفي عورتها أمامه، وعندما يلقي بقطعة القطن التي مسح بها أذنه، تتسابق نساء القصر على الفوز بها لتتبارك بقدسيتها. وعندما نقلت الفضائيات خطبة بشار الأسد، تذكرت ما كان يحدث مع جمال عبد الناصر، عندما كان يهل بطلعته في مجلس الأمة، فيقفون ويصفقون له طويلا، ويقطعون خطبته لمدحه من وقت لآخر، وهذا ما يحدث مع القذافي الذي يدعي بأنه لا يشغل منصبا. يستولى على أموال البترول، وينفقه كما يشاء هو وأبناؤه، والبلاد وكأنها في العصور الوسطى، لا بنية تحتية، ولا مشروعات. ولا مشروع حضاري يتماشي مع دخل البلاد من البترول. وقد كان الملك عبد الله - ملك السعودية - قلقاً من الثورات التي توالت في تونس ثم مصر واليمن وليبيا وسوريا، ويقولون إنه قد أرسل إلى حسني مبارك - قبل تنحيه - بعدم الاستجابة للثوار، وإنه على استعداد لمعاونته بأي مبالغ يطلبها، مقابل مقاومة الثورة وعدم الاستجابة لمطالبهم. لكن حسني مبارك لم يستطع احتمال الثورة، وخاف من مصير شاوشيسكي - حاكم رومانيا - الذي أعدمه الشعب هو وزوجته؛ واسرع بالتنحي. بعد نجاح ثورة مصر؛ بادر الملك عبد الله - ملك السعودية - بإصلاحات لولا هذه الثورات ما فكر فيها، وأعلن المفتي - عنده - بأن الثورات حرام، وأن الدين الإسلامي يعاقب الثائرين. وقد كشف ضابط ليبيي منشق برتبة عميد للسلطات التونسية عن مخطط تخريبي تقوده ليلى الطرابلسي زوجة الرئيس التونسي المخلوع بتواطؤ مع معمر القذافي بهدف بث الفوضى في تونس والسعي لإجهاض الثورة التونسية عبر إرسال نحو 30 ألف عنصر من المرتزقة مدججين بالسلاح قبل أيام من اندلاع الثورة في ليبيا. وكشف الضابط أن معمر القذافي كان يكن حقداً لا يوصف لمدينة سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية، وبأنه خطط فعلياً لقصفها بل ومحوها من الخريطة عبر استخدام أسلحة الدمار الشامل. وأوضح العميد أن القذافي نشر فعلياً الآلاف من عناصره على الحدود مع تونس مع بدء الثورة في ليبيا بهدف بث البلبلة في مخيمات اللاجئين التي كانت تؤم مئات الآلاف من الفارين من بطش النظام من جنسيات مختلفة، لا سيما من ليبيا ومصر وبنجلادش. البلاد العربية تعيش ما كانت تعيشه أوروبا منذ ما يزيد علي الثلاثمائة عاما. فقد خطب الملك تشارلز الأول ملك انجلترا في مجلس العموم البريطاني في أواخر عام 1648، عندما انقلب أعضاء المجلس عليه، فقال: - لقد أسأتم فهم مهمتكم حين حاولتم أن تمنحوا أنفسكم حقوقاً ليست لكم ولا يعقل أن تنالوها يوما من الأيام، إن مجلسكم هذا إشعاع من النور الذي أنا مبعثه، وسلطتكم تلك استمدادا من السلطة التي أنا مصدرها، فمن التجني محاولة تأليب الفرع على الأصل أو التفريق بين الشيء وظله، ولقد سلكتم معي منذ البداية مسلكاً لا يرضاه ملك يستمد سلطانه من الله؛ لا منكم. فجئت أنذركم بالحسني قبل أن آخذكم بالعنف. ولا قول لكم إن هذا البرلمان والبرلمانات التي قد تعقبه هي من صنع يدي، ففي يدي بقاؤها وفي يدي خلعها، وهي تعيش أو تزول وفقاً لما يبدو لي من نتائج عملها. وهذا ما يحسه كل الملوك والرؤساء العرب، فإشعاع نور كل البرلمانات العربية يستمد من نور حكامها، ويستطيعون حلها في أي وقت. ولا يقرون إلا ما يسمح به ملك البلاد أو رئيسها. وهذا ما أدى إلي العنف في مقاومة الثورات العربية، تعود الحاكم العربي على أن ينحني الكل له، ممنوع على من يقابل حسني مبارك أن يبلغه خبرا سيئا حتى لا يكدره ويسبب له تعبا؛ حفاظا على حياته، فكيف يقبل أن يثور الشباب عليه، وهو أبوهم وكبير عائلتهم، وهذا ما أحسه علي عبد الله صالح، وما أحسه معمر القذافي وبشار الأسد، سنوات طويلة والكل يخضع لهم ويقدسهم، فيكف يتقبلون الثورات، ويرضون بترك الحكم؟! لكن الإحساس بالتكبر والعنجهية أدي إلى أن أعدمت ثورة كرومويل الملك تشارلز الأول في 30 يناير 1649 . فهل يلقى الحكام أالعرب نفس المصير؟!