تفجرت مؤخراً في أرجاء الوطن العربي العديد من الاحتجاجات والاعتصامات التي تحولت لثورات شعبية، هدفت إلي تغييرالسلطة السياسية والنظم الحاكمة ، رافضةً الظلم الاجتماعي الذي خيم علي تلك الدول لسنوات مديدة، طالبةً الحرية والخلاص من القمع وتقييد الحريات، وعدم تكافؤ فرص العمل وتضخم ثروات أصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي ؛ شكل أشبه بمسرح اللامعقول ؛ لكن الظاهرة المدهشة التي سيطرت علي المشهد العام هو الخلط الواضح والصريح بين حرية التعبير والفوضي، والتي أدت بدورها إلي العنف وخلقت معها ما يسمي بالعنف المضاد؛ مما حيد الأطراف المعنية عن طبيعة الحق المشروع، والذي ينتفي معه العنف أو الخروج علي السياق العام . (1) لقد خرحت الشعوب المقيدة - منذ عقود صيامها عن الحرية والديمقراطية - المنظمة التي باتت إليها عطشي نتيجة الظلم والذل الذي عاشوه، فخرجت صفوفهم موحدة وقوية للمطالبة بحقوقها المشروعة في الاختيار والحرية، وإسقاط الظلم والسعي نحو حياة أخري، يكون فيها التعبير عن الرأي هو سيد الموقف، لكن لم تخل تلك المحاولات من أحداث عنف وفوضي.. فهل يتحول الحق المشروع لحالة عنف أو تلك أحوال صنعها تعنت الأنظمة؟ نعم .. للشعوب حقوق مشروعة، ومن حقها، ولا يستطيع أحد أن يزايد عليها، لكن النقطة المحورية التي تدعو إلي الوقفة: لماذا يختلط العنف بتلك المطالب؟ فحرية الرأي في أضيق حدودها المعروفة تتمثل في التعبير دون قيد، أو التكبل بأفكار نظام قائم، وعلي الطرف الآخر أن يستمع لذلك الرأي وأن يعطي تلك الحرية، حتي تخرج في سياقها الأمثل المعبر عن ذاتية الإنسان وحقه الذي كفلته له كافة الاديان السماوية وحتي الدساتير الوضعية اهتمت اهتماما فائقا بحقوق الانسان وكرامته ، لكن من خيبة الدول العربية التي تحاول دائما ان تقبع تلك الحريات هو أن تلقي بسياجات فولاذية بينها وشعوبها وترفض أن تستمع إليها، وهم في الوقت ذاته يرفعون رايات الديمقراطية والتحرر .. وهذه النقطة تعتبر جوهر الخلاف الذي ينحدر بالحق المشروع إلي العنف، والحرية إلي فوضي؛ إذ إن سقف المطالب والتعامل متأرجح بينهما؛ بين مطالب علوية خلال التشبث بالسلطة ورفض اطلاق الحريات - من قبل الحكام - ودعوات الشعوب للخروج إلي النور، فضلاً عن عنصر الوقت الذي يطلبه الشعب باعتباره بين غمضة عين وانتباهتها لابد من تلبية مطالب التغيير ؛ والحكام الذين يرفضون سماع تلك الاصوات، الي ان تقض مضاجعهم في قصور الحكم، فما تشهده الجماهيرية العربية الليببية خلال الآونة الراهنة أكبر مثال علي اصطدام الحرية بالعنف وتحريف الديمقراطية إلي اقتتال بين أبناء الشعب الواحد؛ بذلك نصل إلي طريق مسدود كما هي الحال في تونس ومصر؛ حيث شعوب هتفت بمطالبها ورؤساء رفضوا الاستجابة السريعة، مما أدي إلي انهيار أنظمتهم . (2) ومن هنا، فإن الفهم المغلوط لمفهوم التعبير عن الرأي باعتباره حقًا مكتسبًا لا يمنح، يؤدي إلي أفعال وممارسات متشنجة تنال من ذلك المعني أو المفهوم، وتقود إلي أمور آخري بعكس طبيعتها ومعناها، وهذا المثال الواضح نجده بشفافية يتم تطبيقه في كل دول العالم الأوروبي وحتي بعض الدول الأخري التي ركبت قطار الحرية مؤخراً ؛ نتيجة تقدمها وتطبيقها لحقوق الإنسان التي أهمها حقه في التعبير بحرية، وايضاً التظاهر السلمي إذا تطلب الأمر ذلك، فنجد علي سبيل الذكر أن الشرطة وأجهزته الامن في تلك الدول ليست رقيبة ومقيدة للشعب بقدر ما هي منظمة لأعماله، مقدمةً يد العون في كل أموره، وهذا عكس الأمر في وطننا العربي الذي اعتادت شتي أجهزته في وضع رقابة صارمة علي المواطنين ومتابعتهم وملاحقتهم حتي في غرف نومهم . (3) وما يحدث يصنع حالة من العنف من قبل السلطة الحاكمة والعنف المضاد الذي تقع فيه الشعوب نتيجة تلك الممارسات في أجواء يصعب معها إيجاد حلول سريعة للاحتواء، مما يغير كل المفاهيم عن مسارها الصحيح، فنجدها لا ديمقراطية حققت، ولا استقرارًا حفظت، إنما انزلقت بالطرفين في منحدر يخيم ببؤس نتائجه علي الجميع . والسؤال الذي يطرح نفسه وسط هذه التفاعلات هو: إننا كمجتمعات عربية : هل جربنا ممارسة الحقوق الديمقراطية في التعبير عن الأفكار والآراء التي نسعي إليها وتدور في مخيلتنا بالشكل الذي تتحقق معه المضامين والمقاصد الحقيقية التي ترقي بمستوي الوطن والمواطن؟ أم أنها مجرد وسيلة للتعدي والخروج علي الاعراف التقليدية المعهودة التي لا تليق بالمجتمعات المتحضرة عن طريق السب والقذف والتخريب ، دون أن نجني نتيجة سواها؟ من الضروري تحديد الهدف حتي لانحيد عن طلبه ؛ للوصول إلي ما نريده دون خسائر، لاسيما أن الكثير من جوانب الحياة في المجتمعات العربية في شكلها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي تتطلب من الجميع الإدلاء بآراء تساعد علي التقدم ورقي الشعوب . (4) ودائماً ما كانت تختلط هذه المفاهيم بين أفراد المجتمع، فيولد العنف الذي قد يصل إلي التطرف نتيجة الفهم الخاطئ والمغلوط لحرية الرأي، أو أن نقول سوء الفهم والغموض الذي تعتري المتحدث بما يجعله غير مدرك لحق التعبير عن الرأي، وتغييبه لاحترام الرأي الآخر؛ لذا كان من الضروري علي هذه المجتمعات التوجه بشكل سريع ومنظم إلي العودة للسلوك القويم، والقيم الانسانية السامية التي تستطع ضبط حريتنا بما يتناسب مع إمكاناتنا وظروفنا التي نعيشها؛ لتعيننا علي التعبير عن الرأي والموقف، مع البحث عن القدوة التي تكون أمامنا لنتعلم منها ونتحسس خطاها للوصول إلي بر الامان؛ بعيداً عن أطراف العنف أو خيوط الفوضي.