فى صبيحة يوم 13نوفمبر، خرجت المظاهرات من الجامعة، ومن دار العلوم، والأزهر، وبعض المدارس الثانوية في القاهرة وخارجها، تهتف في الشوارع «يسقط هور ابن التور»، وتدعو زعماء الأحزاب إلى توحيد الصفوف، من أجل استعادة الدستور. واستمرت المظاهرات التي وصفها المؤرخون بأنها ثورة الشباب، واعتبروها تقارب في قوتها وأهميتها ثورة 1919، وكانت مظاهرة 14 نوفمبر من أقوى هذه المظاهرات، وقد دفعت قوتها الحكومة إلى اتخاذ قرار بإغلاق الجامعة ظلت تجدده حتى تهدأ ثورة الطلبة، لكن الثورة تواصلت لعدة أيام وسقط فيها عشرات الجرحى والشهداء.
12 ديسمبر 1935 يوم من الأيام المجيدة في تاريخ الحركة الوطنية المصرية وفي تاريخ نضال الشعب المصري، من أجل الديمقراطية، وما أكثر هذه الأيام، في ذلك اليوم رضخ الملك فؤاد لمطالب الأمة، التي عمدتها بدماء شهدائها من قادة الحركة الطلابية المصرية؛ محمد عبد الحكم الجراحى، وعبدالمجيد مرسي، وعلي طه عفيفي، وعبد الحليم عبد المقصود شبكة، ومعهم العامل إسماعيل محمد الخالع، لقد رضخ الملك لمطالب الأمة في عودة دستورها، دون أن يفكر في الحفاظ على ماء وجهه، عاد دستور 1923، الذي كان ثمرة من الثمرات، التي أتت بها ثورة 1919 العظيمة، بدأ انتصار الشعب عندما أوعز الملك لصدقي بالاستقالة فى سبتمبر 1933، وعين عبد الفتاح باشا يحيى مكانه، وكان قد استقال من الوزارة ومن حزب الشعب قبلها بتسعة أشهر، ولم يخرج صدقي من الوزارة فقط، بل انفض عنه حزبه «حزب الشعب»، كما هي عادة أحزاب السلطة دائمًا، وكتبت السيدة روزاليوسف تعليقًا على سقوط الطاغية: «حين سقط صدقي تخلى عنه كل شيئ: تخلى عنه حزبه، وتخلت عنه جريدته، وتخلت عنه الأغلبية التي أوجدها من العدم، وتلك كانت نتيجة طبيعية، فالبناء الذي يقام على السلطان يذهب بذهاب السلطان، وما تأتي به الريح تذهب به الزوابع»، لكن هل انتهى عهد الطغيان بسقوط الطاغية؟
لم يؤد سقوط صدقي إلى انتهاء الانقلاب الدستوري الأخطر والأطول في تاريخ مصر في الحقبة الليبرالية، بل استمرت نفس السياسة المعادية للدستور وللشعب، على يد حكومة حزب «الشعب» برئاسة الرئيس الجديد للحزب وللحكومة، عبد الفتاح يحيى، واستمر دستور 1930، الذي سلب من الشعب حقوقه ساريًا، وكانت لحكومة عبد الفتاح باشا يحيى إبداعاتها المنبئة عن توجهاتها، لقد ابتكر الباشا وسيلة جديدة، يؤكد بها الولاء من طاغية صغير للملك، فقد أقرت الوزارة مبدأ جديدًا غير مسبوق فى النظام الدستوري المصري أن يؤدي الوزراء يمين الولاء للملك.
وفى ظل حكومة عبدالفتاح باشا يحيى، تواصلت الانتهاكات للحريات العامة، واستمرت المعارضة السياسية والشعبية للحكومة الجديدة، تلك الحكومة التي حاولت أن تجمل وجهها بالتحقيق فى فساد عهد صدقي، رغم أن رجلها هم أنفسهم رجال صدقي، حاولت أن تجمل وجهها بالتضحية ببعض رجال الحكومة السابقة، في محاولة لتخفيف حدة المعارضة، لكن في كل الأحوال كان سقوط صدقي خطوة على طريق استعادة الشعب لحريته وحقوقه، فقد كان الملك والإنجليز وصدقي نفسه يخططون لبقاء حكمه وانقلابه عشر سنوات.
وفي خريف 1934 مرض الملك فؤاد، وشعر الإنجليز بأن رحيل فؤاد أصبح قريبًا، وإنهم أمام حكومة ضعيفة لا تملك سندًا شعبيًا، فتدخلوا في شئون البلاد بشكل فج ومهين، للملك ولحكومته، وعندما شعر فؤاد عندما بفشل حكومة عبد الفتاح يحيى فى إزالة الاحتقان، كلف توفيق نسيم باشا بتشكيل الوزارة في محاولة الاقتراب خطوة أخرى نحو الشعب والمعارضة، كما أصدر مرسومًا ملكيًا بإلغاء دستور 30 المرفوض شعبيًا، وحل البرلمان الذي أتت به انتخابات صدقي المزورة، إلا أنه لم يعد العمل بدستور 1923، بل نقل اختصاصات البرلمان إلى شخصه.
وكان فؤاد على يقين أن خطوته ستؤدي لشق صفوف المعارضين، وقد أثمرت المحاولة بالفعل على هذا الصعيد، انفضت الجبهة القومية التي تشكلت من الوفد والأحرار الدستوريين، وشهد الوفد نفسه انقسامًا حادًا، فقد أيدت قيادة الوفد حكومة نسيم تأييدًا ضمنيًا، بينما رفضت بعض الفصائل الأكثر ثباتًا في المعارضة أن تؤيد الحكومة، وكانت صحيفة "روزاليوسف"، وعلى رأسها السيدة روز اليوسف، والكاتب الكبير عباس محمود العقاد، من أشد المعارضين لخط المهادنة من داخل حزب الوفد وصحافته؛ حيث رأوا أن المعارضة ينبغي أن تستمر حتى يعود دستور 23، واتخذ بعض المفكرين الليبراليين نفس الموقف، وكان من أبرزهم الدكتور محمود عزمي.
وفي خريف 1935، وسحب الانقسام تخيم على المعارضة المصرية، والصادم في صفوفها أشد من الصدام بينها وبين السرايا، وبينها وبين حكومة توفيق نسيم باشا، ومصر تستعد للاحتفال بذكرى عيد الجهاد الوطني، الذي يصادف 13 نوفمبر من كل عام، اليوم الذي توجه فيه سعد زغلول، وعبد العزيز فهمي، وعلي شعراوي سنة 1918 إلى دار المعتمد البريطاني، مطالبين بإنهاء الأحكام العرفية، والسماح لهم بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس، ممثلين للشعب المصري صدر تصريح للسير صمويل هور وزير خارجية بريطانيا قال فيه: «لا صحة إطلاقًا إننا نعارض في عودة النظام الدستوري لمصر، بشكل يتفق مع احتياجاتها، فنحن انطلاقًا من تقاليدنا لا نريد أن نقوم بذلك، ولا يمكن أن نقوم به فقط، عندما استشارونا في الأمر، أشرنا بعدم إعادة دستور 23 ولا دستور 30، لأنه قد ظهر أن الأول غير صالح للعمل به، والثاني غير مرغوب فيه».
ففضح التصريح حكومة نسيم، التي لا تستطيع أن تأخذ خطوة تُعد من صميم أعمال السيادة، إلا بعد استئذان الحكومة البريطانية، كما كشف حقيقة موقف بريطانيا المعادي لعودة دستور 23.
كان رد الفعل الشعبي سريعًا وقويًا، فقد نشرت صحف 10 نوفمبر التصريح مهاجمة إياه، وفى يوم 11 نوفمبر جاءت المبادرة من جانب الطلاب، فاجتمعت اللجنة التنفيذية العليا، التي تمثل اتحاد طلاب الجامعة، وأصدرت نداء وطنيًا نشرته صحف 12 نوفمبر، دعت فيه إلى أن يحتفل طلبة الجامعة والأمة بعيد الجهاد؛ احتفالا يليق بجلال هذه الذكرى، وأعلن بيان اللجنة بدء الجهاد من أجل الدستور والاستقلال، وكان الطابع الغالب على الحركة عند بدايتها، الوحدة والبعد عن التحزب، وفي نفس اليوم بدأ تحرك في الوفد للإعداد لموقف يعلنه رئيس الحزب مصطفى النحاس في الاحتفال بعيد الجهاد الوطني.
واستمرت المظاهرات التي وصفها المؤرخون بأنها ثورة الشباب واعتبروها تقارب في قوتها وأهميتها ثورة 1919، وكانت مظاهرة 14 نوفمبر من أقوى هذه المظاهرات، وقد دفعت قوتها الحكومة إلى اتخاذ قرار بإغلاق الجامعة ظلت تجدده حتى تهدأ ثورة الطلبة، لكن الثورة تواصلت لعدة أيام وسقط فيها عشرات الجرحى والشهداء، فى مقدمته محمد عبدالمقصود شبكة ومحمد محمود النقيب من طنطا والعامل اسماعيل محمد الخالع الذى استشهد عند بيت الأمة يوم 13 نوفمبر، واستشهد عبدالمجيد مرسى الطالب بكلية الزراعة فى مظاهرة 14 نوفمبر وعلى طه عفيفى الطالب بدار العلوم يوم 16 نوفمبر.
لكن أشهر هؤلاء الشهداء الذين غيروا تاريخ مصر بدمائهم كان الشهيد محمد عبدالحكم الجراحى شهيد كلية الآداب الذى أصيب بالرصاص فى مظاهرة 14 نوفمبر، واستمر يصارع الموت خمسة أيام، وكانت متابعة الصحافة لإخباره يوما بيوم سببا فى التفاف مشاعر الأمة حول الشاب الذى كان فى العشرين من عمره، عندما علم الطلاب بنبأ وفاة الجراحى قرروا أن يشيع جثمانه فى جنازة شعبية تليق به وبالقضية التى استشهد من أجلها، وتناوبوا على حراسة الجثمان حتى لا تختطفه الحكومة ليدفن فى صمت مثلما حدث مع زميله الشهيد عبدالمجيد مرسى، وخرجت الجنازة من مستشفى قصر العينى يتقدمها مصطفى النحاس وأحمد لطفى السيد رئيس الجامعة ومنصور فهمى عميد كلية الآداب وعشرات من الساسة المصريين من مختلف الاتجاهات وزعماء النقابات المهنية والعمالية، وآلاف الطالبات والطلاب، وتقدم العلم المصرى الأخضر الجنازة، وتوجهت الجنازة إلى مسجد السيدة زينب، حيث صُلى على الجثمان، ومن هناك إلى المدافن، وكان الطريق محفوفا بآلاف المواطنين يهتفون لمصر ولشهيدها، وأصوات النساء ترتفع من الشرفات والشبابيك مودعة جثمان عبدالحكم فى رحلته الأخيرة، مشهد رأيته يتكرر منذ أيام فى جنازة الشهيد جابر صلاح (جيكا) شهيد موقعة محمد محمود الثانية الذى ودعه الآلاف فى جنازة سارت من جامع عمر مكرم إلى مدافن باب الوزير فى القلعة، بعد أن ظل فى حالة موت إكلينيكى لمدة خمسة أيام.