للكلمة(الفرقان)ثلاثة معان فى العربية؛ معجمى عام، وهو التفرقة بين الحق والباطل بأية وسيلة، وهذى هى الدلالة التى أشار إليها الآلوسى فى تفسيره(روح المعانى)فى الآية الأولى من سورة الفرقان: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(1) محتجا بقراءة ابن الزبير: (على عباده) أى: على أنبيائه ورسله. وخاص هو يوم(بدر)، وشاهده قول ربنا فى سورة الأنفال: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(41) وأكثر خصوصية هو تسمية أخرى للقرآن الكريم، وشاهده قول ربنا فى سورة الفرقان: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(1) على رواية حفص عن عاصم بإفراد(عبده)، وهو هنا النبى الخاتم؛ صل اللهم لى عليه، وسلم لى عليه، وعلى آله، وصحبه. وهذا المعنى الثالث هو الأكثر شهرة بيننا نحن المسلمين، وليس بيننا من يجادل فى أن(الفرقان)أحد أسماء القرآن، وهى دلالة مؤكدة بسبقه فى الآية بواحد من أفعال(الوحى)، وهو الفعل(نزّل)؛ ف(التنزيل)أيضا أحد أسماء(القرآن). من هذى النقطة تعالوا نفهم قول ربنا فى سورة الأنبياء: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ(48) نراها مسبوقة هنا أيضا بواحد من أفعال الوحى، وهو الفعل(آتَى)؛ بما ينفى الدلالة العامة معجميا، ومستبعد أيضا دلالتها على يوم بدر؛ فلم يبق إلا دلالتها على(القرآن الكريم)، لكنها هنا من(إيتاء)ربنا إلى النبيين الكريمين(موسى، وهارون)، عليهما السلام. فما دلالة(الفرقان)هنا ؟ ذهبت بتساؤلى هذا إلى المفسرين، فوجدت: فى(روح المعانى)؛ تفسير الآلوسى: المراد بالفرقان التوراة وكذا بالضياء والذكر وفى(الكشاف)؛ تفسير الزمخشرى: آتيناهما{الْفُرْقَانَ}، وهو التوراة، وأتينا به{ضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} والمعنى: أنه فى نفسه ضياء وذكر. وفى(البحر المحيط)؛ تفسير أبى حيان: {الفرقان}؛ التوراة، وهو الضياء، والذكر؛ أى كتابا، هو فرقان، وضياء، وذكر، ويدل على هذا المعنى قراءة كل من(ابن عباس، وعكرمة، والضحاك): ( ضياءً ذكرا) بغير واو العطف قبل ضياء. وفى(التحرير والتنوير)؛ تفسير ابن عاشور: الفُرقَان: ما يُفرّق به بين الحق والباطل من كلام أو فعل، ويجوز أن يراد بالفرقان التوراة. = = = لكن تفسير(الفرقان)بأنه(القرآن)، وأنه أحد أسمائه(أراها)أقوى الدلالات، وأرجحها، وأكثرها خصوصية، وأشدها إقناعا، ومن هنا أتساءل خروجا على ما نقرأه عند المفسرين(تغمدهم الله جميعا بواسع رحمته): هل ربنا أوحى(القرآن)إلى هذين النبيين الكريمين إضافة إلى الوحى إليهما ب(الألواح)؟ أذهب(منفردا)إلى الجواب بالإثبات مستعينا بقول ربنا عن ذين النبيين الكريمين فى سورة الصافات: (وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ(117) وأن هذا الكتاب المستبين هو القرآن. ذلك فى(نظرية)ترى أن ربنا أعطى(كل)رسول(وحيين)؛ أولهما أعطاه فيه كتابا خاصا إلى قومه، والآخر أعطاه فيه أيضا(القرآن الكريم)لا لإبلاغ قومه به، وإنما لإبلاغه هو به، ودليل ذلك أن كل رسول من هؤلاء وردت الآى بأنه يقول إنه من(المسلمين). فهذا نوح فى الآية(72)من سورة يونس يقول: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وهذا إبراهيم فى الآية(163)من سورة الأنعام يقول: (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) وهذا لوط يقال عن بيته فى الآية(36)من سورة الذاريات: (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وهذا يوسف فى الآية(101)من سورة يوسف يقول: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(101) وقد نشرت منذ أيام مقالتى عن قول ربنا للمسيح فى الآية(110)من سورة المائدة: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) ومن هنا يعمق فهمنا لكون النبى الخاتم يأتى يوم القيامة شاهدا على جميع الأنبياء قبله فى قول ربنا فى الآية(41)من سورة النساء: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) وأعتمد فى(نظريتى)على قراءة(عبد الله بن الزبير)فى الآية الأولى من سورة الفرقان قى قول ربنا: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(1) الفرقان هنا حتما هو(القرآن)قولا واحدا، و(عباده)هنا أيضا قولا واحدا فى هذى القراءة هم(رسله)سبحانه، أنزل عليهم جميعا(الفرقان)؛ أى القرآن الكريم، لا ليبلغه كل منهم إلى قومه، وإنما لإبلاغه هو شخصيا برسالة النبى الخاتم، اللهم صل لى عليه، وسلم لى عليه. ومما يقوى هذا الفهم ما يأتى: 1)قول ربنا فى الآية(53)من سورة البقرة: (وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) فالمبدأ النحوى العام: (العطف يفيد المغايرة) و(الكتاب)فى الآية هو(الكتاب المقدس)، أى(التوراة)، (الألواح)، ثم جاء العطف الذى يقتضى مغايرة بأن يكون المعطوف كتابا آخر، هو(الفرقان)، أى(القرآن الكريم). 2)قول ربنا فى الآيتين(92)من سورة الإنبياء، و(52)من سورة المؤمنون: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) فوحدة الأمة تقتضى حتما وحدة الهدف، وهو(التوحيد)، ووحدة الوسيلة، وهى(الكتاب). 3)قول ربنا فى الآية(25)من سورة الحديد: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ) كل رسول معه(بينة)؛ هى كتابه المنزل عليه إلى قومه، وإضافة إلى ذلك أنزل(الكتاب)على كل منهم، وهو(القرآن الكريم). 4)أن(الإسلام)هو(الدين العام)للناس جميعا؛ كقول ربنا فى الآية(19)من سورة آل عمران: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) ينزل الله منه على كل فترة ما يناسب عقليات أهلها 5)خطاب ربنا إلى(المسيح)، عليه السلام؛ بأن رسولا من بعده، اسمه(أحمد)، ثم دعوة قوم(المسيح)إلى(الإسلام)، ونعيه على من يفترى الكذب فى أثناء دعوته إلى دين الله فى الآى(6،7،8)من سورة الصف: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) 6)الآية(136)من سورة النساء صريحة فى أن(القرآن)نزل على النبى الخاتم، ونزل من قبل أيضا؛ إذ يقول ربنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) فحرف العطف(الواو)من خصائصه نحويا عطف الاسم على نفسه فى حالين مختلفين، ويستشهد النحويون فى ذلك بقول الشاعر(على نغم المتقارب): إلى الملك القرم وابن الهمام / وليس الكتيبة في المزدحم بعطف(ابن الهمام)على(الملك). فى ذلك يقول سيبويه: (إذا قلت: مررت بزيد وصاحبك جاز، وإذا قلت: مررت بزيد فصاحبك بالفاء لم يجز، كما جاز بالواو؛ لأن الفاء تقتضي التعقيب، وتأخير الاسم عن المعطوف عليه بخلاف الواو) وعليه فإن الآية تعطف(الكتاب)، وهو(القرآن الكريم)فى(نزولين)مختلفين فى الزمان؛ نزول أخير على قلب النبى الخاتم، ونزول قبله.