ستكون الخيمة مزعجة في الليلة الأولى.. ثم في السنة الأولى.. بعد ذلك ستصير ودودة كواحد من العائلة.. لكن حذار أن تقع في حبها.. لا تبتهج إن رأيتهم يقيمون مركزاً «صحياً» أو مدرسة ابتدائية.. هذا خبر غير سار أبداً.. وإياك أن تتورط بمطالبات غبية كبناء بيوت بسيطة بدل الخيام.. ذلك معناه أنك بدأت تتعايش.. وهنا مقتل اللاجئ.. وهنا أيضاً مقبرته.. ولا تدرب أولادك على الصبر.. الصبر حيلة العاجز.. سيبيعك الناس لبعضهم.. تلك هواية السياسيين.. وسيجيئك المتضامنون من كل البلاد.. ستصير أنت شعارهم الانتخابي.. ويتقربون بك إلى الله.. وستزداد همة الناس في تفقدك في رمضان، وفي الأعياد، والمناسبات الدينية.. والبعض سيصور أطفالك منهكين وجائعين.. لتكون موضوعاً لصورة تفوز بجائزة دولية.. لا تلتقط الصور التذكارية مع سفراء النوايا الحسنة.. ولا تشكو لهم حرارة الطقس أو الحصى في الخبز.. وحاذر أن تطالب بخيمة أفضل.. فليس ثمة خيمة أفضل من خيمة. وأخيراً... لا تنادي يا عرب تلك هى رسالة لاجئ فلسطيني إلى أخيه السوري اللاجئ الجديد، يقول له فيها ماذا يعني أن تكون لاجئاً؟.. أن تكون لاجئاً يعنى أن تمشى تراباً لم تطأه أقدام أجدادك، أو تتنفس هواءً غريباً على صدرك، أن يرفرف فوق بيتك علم لا تشبه ألوانه لون علمك، وأن تنتمى لجغرافيا غير كل جغرافياتك، وختاماً أن تحمل هوية غير هويتك. يهرب كل يوم ملايين الناس من النزاعات في سوريا والعراق وليبيا واليمن، محققين أعلى مستوى من النزوح منذ الحرب العالمية الثانية، وكأن العالم قد أصابه الجنون، أما اليوم وقد أصبحت سوريا هماً عربياً يساوى هم فلسطين، فما زال الشارع السوري يئن بين القذيفة والقصيدة, وكلما سقط جدار ولدت شطرة شعر. يقول الراحل نزار قباني: «ليس هناك خيارات كثيرة أمام الشاعر، فهو إما أن يكون مع الناس وإما أن يكون ضدهم، ولا قيمة لشعر يقف في الوسط وينضم إلى مجموعة الحياد». لذلك سيظل الشاعر الأكثر هماً فى وطنه، وها هو الشاعر خلف علي الخلف الشاعر السورى يصبَّ جام غضبه وسخطه على العالم.. ويقول فى قصيدة «قبرٌ لأطفال المجزرة»: «هؤلاء الأطفال الذين قتلوا اليوم.. ادفنوهم جميعاً بقبرٍ واحدٍ.. سيتعرفون على بعض سريعاً.. يصبحون أصدقاء.. ويلعبون معاً.. ادفنوا معهم ألعابهم.. الأطفال يتمسكون بألعابهم حتى وهم نيام.. وموتُ الأطفال - حتى لو كانوا مقتولين - مجرد نومٍ طويل.. الأطفالُ المقتولون لا يكبرون.. لذلك هم بحاجة دائمة لألعابهم.. التي أطلقوا عليها أسماء وألقاباً.. ويخاطبونها طوال الوقت بأحاديث حميمية.. من ليس لديه لعبة.. اشتروا له واحدة.. لا تستخفوا بالأمر.. فإقامتهم ستطول إلى الأبد.. سيملّون من البكاء.. وهم ينادون أمهاتهم.. الأمهاتُ اللواتي يسمعن صراخ أطفالهن.. لن يستطعن الذهاب لهم.. ولا تهدئتهم.. ولا التحايل عليهم بأكاذيب مكشوفة.. ليكفوا عن البكاء». أما الشاعر الدكتور محمد سعيد العتيق فكتب مجموعة من قصائده الشعرية التي تناولت الأزمة التي تمر بها سوريا، فيقول في قصيدته «طفل الرصيف»: وعلى رصيف الموت تغتال.. الطفولة والبراءة والعفاف الشمس تنكر ظلها.. والنهر يفتقد الضفاف ورد جميل حالم مثل القمر.. تلهو به كف القدر يا حيرة الطفل الحزين.. والياسمين وفي نصه «عمى القلوب» يقول: ظلام الجهل من وأد الصهيلا.. وشوه فارساً جيلاً فجيلا وأمعن في رياض الروح قتلا يبدل فرحنا حزناً طويلا تسرب في غضون الريح لصا فسبي الطهر سماه النبيلا وعن أهم الأعمال الإبداعية التى جسدت اللجوء وأرخت له كانت رواية «عائد إلى حيفا» التى تُعد من أهم وأبرز روايات الأدب الفلسطينى وقد حققت نجاحاً كبيراً وترجمت إلى كثير من اللغات كما تحولت إلى عمل سينمائى أكثر من مرة، والرواية تجسد حب كنفاني للعودة إلى بلده، فهي تدور بمعظمها في الطريق إلى حيفا عندما يقرر سعيد وزوجته الذهاب إلى هناك، وتفقد بيتهما الذي تركاه وفيه طفل رضيع أثناء معركة حيفا عام 1948.. فتعطي الرواية حيزاً كبيراً للمفهوم الذهبي للوطنية والمواطنة وتبين من خلال التداعي قسوة الظروف التي أدت إلى مأساة عائلة سعيد وتطرح مفهوماً مختلفاً عما كان سائداً لمعنى الوطن. يقول كنفانى فى روايته: «أتعرفين؟.. طوال عشرين سنة كنت أتصور أن بوابة مندلبوم ستُفتح. ذات يوم.. ولكن أبداً لم أتصور أنها ستُفتح من الناحية الاخرى. لم يكن ذلك يخطر لي على بال، ولذلك حين فتحوها هم بدا لي الأمر مرعباً وسخيفاً وإلى حدٍ كبير مهيناً تماماً.. قد أكون مجنوناً لو قلت لك إن كل الأبواب يجب ألّا تفتح إلا من جهة واحدة، وأنها إذا فُتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزال، ولكن تلك هي الحقيقة، أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟.. الوطن هو ألا يحدث ذلك كله.. إن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها كائن من كان، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكل حقه في الوجود على حسابهم، وهي التي تبرر له أخطاءه وجرائمه». وغسان كنفانى ولد عام 1936 فى عكا صحفى وروائى فلسطينى تم اغتياله على يد جهاز المخابرات الإسرائيلية في 8 يوليو 1972 عندما كان عمره 36 عاماً بتفجير سيارته في منطقة الحازمية قرب بيروت، أجبر فى عام 1948 وعائلته على النزوح فعاش في سوريا كلاجئ فلسطيني ثم في لبنان حيث حصل على الجنسية اللبنانية، وكذلك رواية «ذكريات القبيلة الضائعة» للروائي الفلسطيني محمد الأسعد التى يقول عنها القاص العراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي: «بين طيات هذا الزمن وذاك معاناة لا تصفها الألسنة أو الأقلام.. وألم لا تعرف مداه إلا إذا نظرت إلى وجوه أصحابه.. وقليل من الذكريات إن مرت على ذاكرة الإنسان فهي قاسية تعتصر لها القلوب ألماً.. هكذا تبدأ الحكاية.. حكاية الموتى الذين ابتسموا عندما رحلوا هناك.. حكاية الزمن الذي تبعثر على جراحات الثكالى بعد أن جفت الدموع وأصبح الوطن شظية يمكن أن تقتل كل العابرين في المكان الخطأ.. في الزمن الخطأ.. حكاية الغربة اللئيمة التي يمكن أن تشكل في داخلك ذاك الحنين المفقود.. فالوطن في غربة.. والغربة في الوطن.. لا سبيل إلى إدراك الموت إلا إذا جلست وحيداً تفكر في تلك الخطى المسرعة باتجاه الموت بلا ثمن». ويضيف الربيعى: «ذكريات القبيلة الضائعة» للروائي الفلسطيني محمد الأسعد عمل يجسد فيه اللاجئ تشرده في المنافي وذكريات تحمل الأحداث والتأملات السوداء عن وطن يحمل صورة متكاملة عن الغربة والنفي.. إننا أمام عالم روائي يكشف لنا صورة الزيف العربي لما يعانيه اللاجئ. الوطن نافذة حب, وحكاية خبز أمي الساخن, ووجه أبي الصبوح, وحقولنا وكرومنا وبحارنا الصاخبة وجبالنا الشامخة.. لماذا أراد الأسعد أن يعيد كتابة تأريخ الوطن بهذا الشكل. ثم يتساءل الربيعى قائلاً: أهي مجرد إرضاء نزوة, أم ليحمّل القارئ المتعة غير المتعبة.. الرواية تعطي للتأريخ من دروس وبصورة مباشرة رغم ما فيها من موضوعية علمية.. أنه ينظم الاكتشافات الفكرية الكبيرة عبر المراحل الزمنية. إنهم قبيلة ضائعة بكل معنى الكلمة سقطت من السجلات الرسمية والذاكرة معاً, فقضية اللاجئين الفلسطينيين هي ليست قضية أرض بقدر ما هي قضية إنسان.. والإنسان ذاكرة.. والذاكرة مجمل تأريخه.. إن تأريخ – الأسعد – يشير إلى جديته ورغبته في دفع الرواية العربية إلى اعلى مستوى ممكن ومساو لمن مهدوا الطريق في أنحاء العالم.. ما أصعب أن يقول الإنسان ما يفكر فيه في كل العصور. وثيقة السفر هي لعنة يحملها اللاجئ وتجلب له معها سوء المعاملة والإهانة والاحتقار وغير معترف بها.. إنها وثيقة مشكوك في هوية حاملها في أي مكان يحل فيه.. أنت شخص بلا جنسية – أي بلا وطن – هذه هي المعضلة التي يعانيها اللاجئ.. العالم العربي يسمونك «وطناً» ولكني اسميك «منفى» فكل شيء في حياتنا اليومية يحدث كقدر.. كجبر.. يفرض علينا التسكع في الشوارع كمن حلت بهم اللعنة، علينا أن ندرك أن الطريقة التي فكر بها الكاتب هو ما جعله يتحمل عبء الحياة الشاقة التي واجهته فقدم لنا نموذجاً حقيقياً للمثال الأخلاقي في الفكر والفن.. حيث لا يمكن الفصل لحظة واحدة بين المفكر والفنان وفكره أو فنه. لقد اغتيلت البسمة على شفاهنا, وفرحتنا مصلوبة بكل الشوارع على جدران الحقد.. من كان بعيداً عن الوطن يعيش على أمل العودة.. الغربة وطن آخر مع فارق الحنين.. فالإنسان المحكوم عليه بالموت قدرياً لا يستطيع أن يتجدد من البداية مرة أخرى ولكن في هذا العالم العدائي المشحون بفكرة الموت.. لا يفقد أصالته عبر غربته.. أنه مثل النهر يستمد من غربته, من مجراه قوة الطوفان.. انه يقهر الحياة ذات الامتداد الزمني.. يا لها من رحلة شاقة مضنية انطلق منها – الأسعد – في منعطفاتها وأمضى عمراً طويلاً في مشواره المجهول وتناول مرارة الغربة والنفي.. وأين نحن في تزاحم هذا الكون الجنوني. أخيراً.. كانت القضية حقاً تثير عمق الأسى فقد قدم البعض بإخلاص كلماتهم والبعض دماءهم وهكذا تتطور الحياة في وطننا وفي العالم أجمع.