أظهرت الأحاديث المختلفة في برامج رمضان علي مختلف القنوات لعدد غير قليل من النخب بكافة أطيافها أو الراغبين للظهور أمام الكاميرات من كافة الاتجاهات.. حالة من الخوف علي مصير الوطن أو انهم يبدون قلقهم البالغ من الأوضاع السائدة وهذا أيضا واضح من المقالات والأعمدة المكتوبة في مختلف الصحف السيارة الحكومية أو الخاصة . ولعل تلك الحالة من القلق علي الوطن لا تعبر عن قلق حقيقي تجاه الوطن أو الشعب ولكنها تعبر بصورة غير معلنة عن تخوف شخصي علي المستقبل الخاص بذوات المتحدثين وعدم قابليتهم لتفهم فكرة تغير أحوال الوطن من وضع إلي وضع.. وهي هواجس ذاتية مرتعشة من جراء انطلاق المارد الشعبي وخروجه مما كان فيه من احتباس ومنع.. ولعل تلك النخب والتي تظن أنها نخب قد استطالت وتمددت مع القمع والإقصاء وتعايشت وتعيشت مع القهر والطغيان .. زعمت دائما أنها تقدم البرامج الإصلاحية للنظام البائد ولكنه لم يستجب.. تحدثت بهذا الآن وعبرت عنه بصورة مخففة قبل الانهيار.. ولكنها لم تمسك بالنيران أبداً فقد عاشت علي نمط أغنية أم كلثوم «أوريه الملام بالعين وقلبي علي الرضا باقي».. لم تأخذ كثيرا من الكعكة ولكنها أخذت ما يجعلها تعيش بأريحية وتطلق آراءها الحكيمة وتبدو في مظهر المعارضة الأمينة .. تحظي بالاحترام من جميع الأطراف.. القامعين والمقمومين.. دور غريب تعيش عليه رموز النخب من كافة الاتجاهات فهي تعرف ذلك الدور جيدا وندرك أهميته لجميع الأطراف يجمعها حب الظهور والأضواء والتعايش السلمي الرخو الآمن والاستفادة العاقلة والمعقولة والتألم بحساب والتعبير السريع المحدود عن الانزعاج لأوضاع مأسوية وفي النهاية تأوي لفراشها كل يوم لتصحو علي شاشة جديدة وقد جهزت عبوتها المتجددة دائما لتبقي طافية علي السطح.. كل هؤلاء يعيشون وسيظلو علي قلبنا كما يقولون في الأمثال الشعبية.. ولكن خطورة ما يبثونه ويتقولونه هو إحباط همة وعزيمة الناس التي خرجت وثارت والناس التي تراقب هؤلاء الذين خرجوا وثاروا وقلوبهم متلهفة معهم وعليهم.. إن هذه الأحاديث تعطي صورة باطلة عن الحقيقة.. فالثورة فاصل استثنائي بالتاريخ يحمل انفعالات وتحركات إيجابية وسلبية خارجة عن الناموس الطبيعي.. تحمل آمالاً ومخاوف تحمل ديمقراطية ومشاركة وقد تحمل استبداداً جماعياً أو مستبدا جديد.. تحمل قيما للمشاركة والإنسانية والتسامح والقصاص.. تحمل كل هذا.. ربيع الثورات العربية الذي انطلق ولن يتوقف كانت مصر في طليعته.. استطاعت مصر الشعبية إسقاط ذلك الطاغية المتحجر ونظامه الفاسد القمعي.. ولكن ماذا بعد!!.. هل كانت مصر يوماً دولة عشائرية أو قبلية؟!.. لقد نجح النظام القمعي المستمر ستين عاماً أن يعيد مصر إلي بدايات لم تكن بها.. أعاد القبلية.. والقبلية في مصر ليست كليبيا ولا الجزيرة العربية ولا سوريا.. ولكنها قبلية تم تخليقها بالقهر والممارسات التهميشية فأصبحت بالانتماء للقرية أو العائلة أو الطبقة الاجتماعية أو الطائفة الدينية أو الوظيفية وأصبحت هي الملاذ الأقرب للاطمئنان والاحتماء والاحتواء في مواجهة الإعصار والفتك الأمني أو البطالة والإفقار.. فكانت العودة للكبير والواسطة والحماية وهذا موجود في كل ما سبق ذكره.. فكان القهر ميلاداً وتوطئه للقبلية وكل أشكال الاجتماع المتخلفة وخسفاً للدولة والقانون والدستور.. فالمعاهدات أوراق والدساتير كتب والانتخابات معارك وحياتنا هي الجحيم والهجرة هي الحل الأمثل.. وهكذا أصبح الولاء للعائلة والأصول القروية والطبقة الاجتماعية والوظيفية والدينية هو الملاذ الآمن بديلاً عن الولاء للوطن ومؤسساته وأصبحت التنظيمات الموجودة مفتعلة غير قادرة علي قضاء الحاجة.. هذا ما حدث في مصر.. ولكن العالم أو الغرب وهو ينظر بقلق لكل ما هو قادم في تونس ومصر وليبيا.. هو بالفعل قد شارك في استمرار تلك الأنظمة القمعية طبقا لمصالحه دون أدني التفات إي ابعاد أخلاقية أو إنسانية. وهو يعيد الكرة اليوم.. فهل فعل الغرب عكس ذلك عندما هبت الثورة الفرنسية.. ألم يتكون الحلف الدولي الأول في 1973 من النمسا وروسيا وانجلترا وأسبانيا وهولندا.. وأخيراً وصولاً لمعاهدة فيينا في 1815.. ألم تفزع محاكمة لويس السادس عشر ملوك أوروبا فضلا عن الأطماع الاستعمارية.. هذا علي صعيد المراحل الأولي لتشكل الديمقراطيات والمدنيات الحديثة.. وكذا في الموجات الأخيرة وبعد استقرار قيم الحرية وحقوق الإنسان.. ماذا استطاع أن يقدم الغرب في مواجهة ديكتاتوريات العرب أو الدول الأفريقية أو أمريكا اللاتينية.. لقد شقت الشعوب طريقها نفسها بنفسها.. هذا ما حدث في البرتغال أو أمريكا اللاتينية.. لقد شقت الشعوب طريقها نفسها بنفسها.. هذا ما حدث في البرتغال وأسبانيا وبولندا والأرجنتين والبرازيل أو في نيجيريا وساحل العاج أو في رومانيا والمجر.. إلخ.. ربما تكون قدمت مساعدات مالية أو لوجيستية ولم يكن هناك الشبح «القاعدة» الذي أطلقه الغرب نفسه ولم يكن هناك ما تحدث عنه هنجتون من أن هناك قيما في الثقافة العربية والإسلامية تمنع قيام الثورات وتتعايش مع الديكتاتوريات.. هذا الشبح استغله قامعو الشعوب العربية والإسلامية أفضل استغلال لمزيد من القمع واستجلاب المساعدات من الخارج.. فكان ربيع الثورات العربية إسقاطاً لكل المقولات المبررة لاستمرار الطغيان سواء كانت أسباباً اقتصادية أو اجتماعية أو لأسباب القيم الثقافية والدينية.. كل هذا سقط أمام هدير الجماهير التي بدأت زحفها ولن يتوقف.. لتثبت أن الحرية قيمة إنسانية لكل البشر في كل مكان.. ولعل المخاوف الناجمة عن حال كون تيار الدين السياسي لا يملك مشروعاً ديمقراطيا وقد خرج لتوه من أجواء القمع والكمون وبغض النظر عن المقولات التقدمية التي يطلقها رؤوسه هنا أو هناك بخلاف ما يتحرك ويتشكل به وعي القاعدة العريضة منه.. وكذا من حال كون أصحاب التيار الليبرالي وفي القلب منه الوفد وهم يمتلكون مشروعاً ديمقراطيا حوصر وشوهت صورته من قبل أدوات قمع النظام البائد والفاشية الدينية فضلاً عن إغراق الجماهير في أتون الصراع الحياتي اليومي ومرجل الفقر والتهميش مما أدي إلي تجهيل وغرب المشروع الديمقراطي.. أضف إلي هذا تلك المماحكات المستمرة بين أطراف المشروعين في وقت تئن فيه الجماهير طبقا لاحتياجاتها وحقوقها ومطالبها الفئوية والمعيشية.. إلا أننا لا نستطيع أن ننظر بقلق للأمام ولكننا نستطيع أن ننظر بأمل.. فهذه الجماهير التي خرجت بحثا عن حريتها وكرامتها ومشروعها الإنساني وتملك قرارها وثروات وطنها وإعادة الاقتسام لن تعود ولن تقبل بقيام أي شكل من أشكال الاستبداد الفردي أو الجماعي المموه بالدين أو بأي مظلة أخري. (استقلالية القرار الوطني - استعادة الأرض العربية).. فضلاً عن التجربة وحصادها هو الذي سوف يثمر خبرة تراكمية وواقعية في مواجهة القادمين. ومن المؤكد أن هؤلاء الذين كانوا يحلمون بمشروع التوريث وقد أتوا من قصورهم المخملية لينفذوا نزواتهم الذاتية ليحتلوا الوطن لعقدين جديدين من الزمان لهم أشد قسوة من أية نتائج سوف تتحقق علي طريق خلق دولة القانون والدستور والتداول والمواطنة.. ولا أظن أن كل هؤلاء الحالمين بتنفيذ مشاريعهم الدينية أو الدنيوية بقادرين علي قيادة الناس قصراً أو حصراً وقد ملكت تلك الجماهير إرادتها لترفض ما تشاء وتستجيب لما تراه ملبيا لطموحاتها ومعززاً لكرامتها ووجودها.. نجحت ثورة 19 في إسقاط الاستعمار نسبيا ووضعت خطانا علي طريق الدولة الحديثة المدنية دولة الدستور والديمقراطية.. جاءت 52 لتستكمل إنجاز بتر الاستعمار قهراً واستعلاءً علي انجازات من سبقوها وعادت بنا القهقري علي حساب حرية المواطن وإرادته.. واليوم ثورة 25 يناير تستكمل خطي ثورة 19 لإنجاز استقلال الوطن والمواطن وتحريره خارجيا وداخليا تلك أهداف يعلمها الناس خرجوا لها ولن يحيدوا عنها.. عضو الهيئة العليا للوفد