أشعلوا كل «لمبات» الإنذار، وقرعوا كل أجراس الخطر.. ففي شوارع مصر وحواريها، وفي مدنها وقراها، وفي قصورها وعششها.. غول يشرب دم الوطن وينهش قلبه، والكارثة أن أغلب أجهزة الدولة مشغولة عن التصدي له، وتفرغت للإرهاب. قبل أيام تفاخر قيادات وزارة الداخلية بأنهم ضبطوا 18 طن حشيش قبل تهريبها الي داخل البلاد، وإذا تجاوزنا الفخر والتفاخر ودققنا النظر في الواقعة كلها لاكتشفنا هول واقعنا. فعندما يطمع مهرب في إدخال 18 طن حشيش مرة واحدة الي مصر فمعني هذا أن هذا المهرب وآخرين غيره لديهم إحساس لدرجة اليقين بأن أبواب البلاد سداح مداح، وإلا لما فكر في إدخال هذه الكمية التي تسد عين الشمس، عبر عملية تهريب واحدة! وقبل أيام أيضا تم القبض علي رائد شرطة وهو يبيع الهيروين في وضح النهار، بقلب القاهرة ومعني هذا أن تجارة الممنوعات غزت طبقات اجتماعية ووظيفة لم يكن أحد يتخيل أن يمتهن أهلها الاتجار في المخدرات. ومادام الحال قد وصل لهذه الدرجة من التجبر في دنيا التهريب والتمدد في عالم الاتجار بالمخدرات، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو إلي أي مدي بلغ تعاطي المخدرات؟ إجابة هذا السؤال كانت بداية رحلة بحث طويلة خضتها في عالم تعاطي المخدرات،التقيت خلال تجار الكيف، ورأيت بعيني عمليات بيع وشراء للمخدرات تتم نهارا جهارا.. وسمعت حكايات أغرب من الخيال عن تجارة المخدرات وعن مشتري تلك السموم. وفي مراكز علاج الإدمان وجدت حكايات أكثر غرابة وسمعت عن أسماء لمسئولين كبار وفنانين ولاعبي كرة مشاهير وأبناء رؤساء سابقين أدمنوا المخدرات، ولما بحثت عن أعداد المدمنين في مصر وأرقام الذين يتعاطون المخدرات بأنواعها وجدت نفسي أمام كارثة لا يكاد يصدقها عقل. كل من يقرأ عن أحوال مصر طوال أيام حرب أكتوبر 1973، لابد أن تستوقفه ظاهرة عجيبة رصدتها كل أقسام الشرطة، فعلي مدي 18 يوما كاملة هي أيام الحرب، لم تسجل أقسام الشرطة في كل ربوع مصر حادث قتل واحدة ولا حادثة سرقة واحدة ولا حتي مشاجرة عابرة بين شخصين، وبدا الأمر وكأن الشياطين فرت خارج البلاد مع أول رصاصة أطلقها الجيش المصري باتجاه العدو! فلما وضعت الحرب أوزارها، عادت الجريمة لتظهر من جديد وكأن شيئا لم يحدث! هذه الحالة العجيبة فسرها علماء الاجتماع بقولهم إن المصريين جميعا طوال أيام الحرب خضعوا لقاعدة «الكل في واحد»، فالكل تحول الي جندي في ميدان القتال.. العامل في مصر والموظف في مؤسسته والزارع في حقله، والطالب في مدرسته، وحتي ربات البيوت.. الكل تحول الي جندي وراح يقدم أقصي يستطيعه لخدمة وطنه ولمساندة جيشه الذي يخوض حرب تحرير الأرض من عدو غاضب معتد. حتي الأطفال الصغار كانوا يقضون جانبا كبيرا من يومهم وهم يجوبون الشوارع القريبة من منازلهم، هاتفين بحناجرهم الغضة «رايحين نحارب إسرائيل». والآن، مصر تحارب الإرهاب، وتخوض معركة مصيرية مع عدو في غدر الصهاينة، ولؤم الذئاب، ومع ذلك، لا الجرائم توقفت ولا المجرمون أقلعوا عن جرائمهم.. علي العكس شمر تجار المخدرات عن سواعدهم، وانتهزوا انشغال الشرطة بالحرب علي الإرهاب وراحوا يغرقون البلاد بالمخدرات من كل صنف ولون ويبيعون سمومهم «علي عينك يا تاجر» كما يقولون. في العقود السابقة كان تجار المخدرات يستخفون من الناس، ويحرصون علي ممارسة عملهم الحرام، في الخفاء والآن معني هذا الزمن، ودخلنا عصر البيع العلني للمخدرات وصار لكل منطقة تاجرها المعروف للكافة يبيع المخدرات وانتشرت «دواليب المخدرات» وهي أشبه ما تكون بالسوبرماركت الذي يوجد داخله كل أنواع المخدرات! وعندما بدأت جولتي الخطيرة في المناطق التي تعد أوكارا وأكثر مناطق القاهرة احتضانا لدواليب المخدرات وجدتها في السيدة زينب ومصر القديمة والقلعة والبساتين والمقطم ومدينة السلام بل وفي بلبيس بالشرقية توجد دواليب للمخدرات ونفس الأمر في الساحل الشمالي! وهناك مناطق يجلس فيها تجار المخدرات علي قارعة الطريق لبيع سمومهم وعندما وصلت الي منطقة فيصل بالجيزة شاهدت ثلاثة شبان بقلب شارع جانبي وسط منطقة البلوكات يبيعون المخدرات، وعندما أتعبهم الوقوف توجهوا الي مقهي قريب ليواصلوا بيع بضاعتهم القاتلة، وقفت في مكان خفي أراقب ما يحدث في توجس فإذا بهم بعد أن تراجع أعداد المشترين يبادرون بعرض بضاعتهم علي المارة مرددين «قرب ياللي عاوز.. عندنا الأحمر «يقصد الترامادول» والأبيض «يقصد الأقراص المخدرة من عائلة الترامادول» وعندنا البني «يقصدون الحشيش» والأخضر «يقصدون البانجو»، والكارثة أن أحدا لا يعترضهم! عندما دخلت منطقة «المسرة» بالقاهرة وجدت رجلا في الستين من عمره يجلس في مكان غريب لبيع المخدرات حيث اختار إحدي بائعات الطعمية وجلس بالقرب منها ليبيع الحشيش، المثير أن زبائنه يتوافدون عليه في الصباح بعد أن يتناولوا إفطارهم «فول وطعمية» وقبل أن يتوجهوا الي أعمالهم وكأنهم يتزودون بالحشيش كزادهم من الفول ومن خلال حديثي مع رواد بعض المقاهي أخبرني بعضهم أن هناك فريقا ثالثا من التجار بلغت بهم الشهرة لدرجة أنه كل منهم لم يعد بحاجة للخروج الي الشارع أو الجلوس علي المقاهي، وإنما يجلسون في بيوتهم معززين مكرمين ويأتي إليهم المدمنون لشراء ما يلزمهم من مخدرات! وتتم عملية البيع والشراء في ثوان قليلة. وفريق رابع جند أتباعا من الموزعين لتوصيل المخدرات «ديلڤري» الي المنازل.. بعض هؤلاء الموزعين يبيعون المخدرات في المصالح الحكومية وفي الجامعات وفي مواقف الميكروباصات وفي القطارات وبعضهم يبيعون المخدرات أمام المدارس الثانوية والإعدادية والابتدائية،.. أي والله.. الابتدائية فأمام مدارس ابتدائية وإعدادية في القليوبية والجيزة والشرقية والإسماعيلية يتم بيع البانجو والترامادول بأسعار في متناول التلاميذ، ولا نتجاوز إذا قلنا إن شبكة الاتجار في المخدرات يعمل بها جيش جرار فحسب الأرقام الرسمية للإدارة العامة لمكافحة المخدرات بوزارة الداخلية فإن عددا ممن تم القبض عليه في قضايا المخدرات خلال الشهور الأحد عشر الأخيرة بلغ 42 ألفا و688 متهما، ويؤكد هشام عباس رئيس الجمعية المصرية لمكافحة الإدمان أن أكثر من 80٪ ممن يتم القبض عليهم تكون تهمتهم هي الاتجار في المخدرات وبالتالي نكون أمام 34 ألفا و150 متهما بالاتجار بالمخدرات تم القبض عليهم خلال 330 يوما فقط. ويواصل رئيس الجمعية المصرية لمكافحة الإدمان: القاعدة العالمية تقول إن عدد من يتم القبض عليهم في جرائم المخدرات لا يزيد في أحسن الأحوال علي 10٪ فقط مما يشهده الواقع، ولو طبقنا هذه القاعدة علي عدد المتهمين بالاتجار بالمخدرات الذين ألقت الشرطة القبض عليهم خلال الشهور الأخيرة فمعني هذا أن عدد العاملين بتجارة المخدرات في مصر 341500. ويؤكد هشام عباس رئيس الجمعية المصرية لمكافحة الإدمان أن العدد المخيف لتجار المخدرات في مصر يبيع سنويا كميات مرعبة من السموم القاتلة، ويقول: إحصائيات وزارة الداخلية كشفت أن ما تم ضبطه من مواد مخدرة خلال العام الجاري بلغ 344 طن بانجو و39 طن حشيش و80 كيلو أفيون و5.3 كيلو كوكايين و5.8 كيلو هيروين و40 كيلو قات و1218 سنتيمتر ماكستون فورت، ولو طبقنا القاعدة العالمية التي تقول إن المضبوطات دائما وأبدا لا تتجاوز 10٪ مما هو متداول فمعني هذا أن المصريين استهلكوا هذا العام حوالي 3500 طن بانجو و400 طن حشيش و53 كيلو كوكايين و58 كيلو هيروين و400 كيلو قات و12180 سنتيمتر ماكستون فورت ولو أضفنا الي هذه المواد المخدرة الترامادول وأشقاءه من الحبوب المخدرات سنجد المصريين يستهلكون أكثر من 13 مليون شريط ترامادول وحبوب مخدرة وهذه الكميات جميعا سواء الحبوب المخدرة أو المواد المخدرة يزيد ثمنها علي 12 مليار دولار. ويضيف: بيع هذه الكميات الرهيبة من المخدرات في مصرسنويا تسبب في سقوط أكثر من 7 ملايين و224 ألف مصري في بئر الإدمان منهم 74 ألف طفل أعمارهم أقل من 15 سنة وحوالي مليون و600 ألف أعمارهم ما بين 15 الي 20 سنة وأكثر من مليون و700 ألف أعمارهم ما بين 20 الي 35 سنة وحوالي 2 مليون و800 ألف أعمارهم بين 35 الي 45 سنة وحوالي 900 ألف أعمارهم ما بين 45 الي 60 سنة وحوالي 150 ألف أعمارهم فوق الستين، وهذه هي أعداد المدمنين أما متعاطو المخدرات فهم أكبر من ذلك بكثير. وحسب الدكتور صيدلي علي عبدالله مدير المركز المصري للدرسات الدوائية ومكافحة الإدمان فإن عدد متعاطي المواد المخدرة بخلاف الترامادول يبلغ حوالي 15٪ من عدد سكان مصر أي حوالي 13 مليون مصر، أما متعاطو الترامادول وحدهم فعددهم يقترب من 20٪ من عدد سكان مصر أي 18 مليون مصري وبالتالي فإن عدد متعاطي الترامادول وغيره من المواد المخدرة يبلغ 21 مليون مصري.