قبل أن يعرض هذا المسلسل وهو يواجه الرفض من الشيعة، ومن بعض السنة من خلال موقف الأزهر. رفض الشيعة ليس بسبب تجسيد سِبْطَي الرسول صلى الله عليه وسلم، بل اعتراضا على النص وسرد الأحداث، وهو حكم استباقي لما سيكون عليه العمل الذي لم يعرض بعد. لم ينتظر مراجع الشيعة حتى يتابعوه ثم يحكموا عليه، هم يصادرون عليه بسبب رؤية هم محكومون بها مما جرى خلال هذه الفترة، وبالتالي فما قلته في الحلقة الثانية من هذا المقال هو حرث في البحر، طالما أن كل طرف يتمترس وراء رؤيته ولا يريد أن يحيد عنها أو يراجعها أو يلتقي مع الطرف الآخر في منتصف الطريق. أما الأزهر فأسس رفضه على فتوى قديمة بعدم تجسيد الرسل والأنبياء وآل البيت والعشرة المبشرون بالجنة، لكنه لم يتحدث عن النص. وقد وقفت نقابة الأشراف إلى جانبه. لكن ألم يحن الوقت ليعيد الأزهر النظر في فتواه ويسمح بالتجسيد لآل البيت والعشرة المبشرين بالجنة وفق اشتراطات معينة تحفظ لهم مكانتهم وصورتَهم، لأن فوائد التجسيد أكثر من مخاوف الرفض. فتوى الأزهر تم تجاوزها في فيلم الرسالة عندما تم تجسيد شخصية سيد الشهداء حمزة عم النبي في النسختين العربية والإنجليزية، والفيلم قدم صورة جميلة وواقعية للعالم عن فترة البعثة النبوية وسماحة الإسلام وبمستوى فني راق لا يقدر بثمن، كما قدم حمزة بالشكل اللائق به. وفي مسلسل الحسن والحسين تم تجاوز فتوى الأزهر أيضا من جانب علماء كبار من السنة على رأسهم الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ومعه عدد كبير من العلماء في أكثر من بلد منهم مفتي مصر الأسبق الدكتور نصر فريد واصل، حيث وافقوا على النص، وعلى تجسيد الشخصيتين، كما تواصل صناع المسلسل مع علماء الطائفة الشيعية وخاصة العلامة الراحل محمد حسين فضل الله، والسيد علي الأمين، وهما أكثر انفتاحا عن الآخرين، وقد راعت الشركة المنتجة للعمل أن تنتقي ممثليْن جديديْن يرتقيان لمستوى تجسيد شخصيتين لهما مكانة خاصة لدى المسلمين. الغرب يجسد الشخصيات المقدسة في أعماله الفنية وإذا كانت بعض الأعمال تتجاوز في حق هذه الشخصيات أحيانا، فإن هناك أعمالا أخرى كانت في غاية التوقير لها، لعل منها فيلم آلام المسيح الذي قدم اليوم الأخير في حياة المسيح بمعالجة فنية ودرامية لم تخرج عما ورد بالكتاب المقدس، وقدم صورة لائقة بطبيعة المسيح عليه السلام، ولم يكن هناك تجاوز بشأنها. الإيطاليون كانت لهم تجربة مشابهة حيث قدموا حياة المسيح في فيلم كان أقرب للأفلام التسجيلية بالالتزام بما ورد في الإنجيل عنه والذي جسد الدور لم يكن ممثلا إنما كان يعمل في محطة سكة حديد لكنه كان مناسبا لتجسيد الشخصية وبعدها لم يعمل في الفن. الإيرانيون يجسدون الأنبياء والشخصيات المقدسة في أعمال فنية بديعة وقد عرضت المحطات المصرية مسلسلين منها هما: مريم المقدسة، ويوسف الصدّيق وهذا المسلسل حظي بنسب مشاهدة غير مسبوقة بين المصريين والعرب، وهناك قناة جديدة بدأت البث مع دخول رمضان وعلى خريطتها مسلسل عن المسيح، وواضح انه استكمال ل مريم المقدسة. يلاحظ أن هذه الأعمال مدبلجة للعربية الفصحى، وليست ناطقة بالعامية المصرية، ومع ذلك من يشاهدونها يندمجون مع الحوار رغم وجود أميين وأطفال بينهم. كما يجسدها نجوم الدراما الإيرانية، أي أن وجوه الفنانين ليست مألوفة للمشاهد المصري والعربي، ومع ذلك فانه يتفاعل معهم بشكل واضح، فلم يعد المهم من يؤدي الدور بقدر متابعة القصة التاريخية. يحسب للإيرانيين الإتقان والالتزام في تنفيذ الأعمال الدينية والتاريخية والاجتماعية وإلى درجة مدهشة في الشكل والمضمون، وهناك شروط أساسية وهى انتقاء الموضوعات، وارتداء الفنانات للحجاب، وعدم وجود الخمور والعري وخلافه. لكن هل تجسيد هذه الشخصيات مضر كما يعتقد الأزهر؟. في تقديري انه لا يقع ضرر، فالعمل الفني يقرب القصة القرآنية أو التاريخية ويشرحها بطريقة جذابة تحترم شخوصها ويقدمها بما يليق. والعمل الفني التاريخي والديني ليس من نسج الخيال، إنما هو قصة واقعية جرت في زمانها، وبالتالي فان الكاتب لا يعتمد على خياله، إنما على المؤلفات التي تتناول الفترة التي يعالجها أو الشخص الذي يدور حوله العمل، وبالتالي ونحن جالسون نتابع دراما مشوقة نكون كما لو كنا نقرأ كل ما كتب عن الفترة أو الشخص محل العمل، أي نقرأ التاريخ لكن في صورة مشاهد ولقطات حية وهذا أمتع وأقل إرهاقا من القراءة، وأفيد لمن لا يقرؤون، أو لا يعرفون القراءة. الأهم في موضوع التجسيد أننا في زماننا هذا ومهما امتلكنا من قدرة على التخيل فإننا قد نتصور الأقدمين كمخلوقات لا تنتمي إلى عوالمنا. الرسل والأنبياء وآل البيت والصحابة وحتى الناس العاديون في أزمانهم مهما قرأنا أو سمِعنا عنهم فإننا قد لا ننزلهم منزلة البشر، كأنهم ليسوا منا، ولا من هيئتنا، رغم أنهم في النهاية مثلنا بالضبط، قد يختلفون عنا في الهيئة لارتباط ذلك بطبيعة مجتمعاتهم والمرحلة الزمنية التي كانوا يعيشون فيها، كما أننا- باستثناء الرسل والأنبياء- نفرض قداسة على مَن دونهم، فالصحابة مثلا نُجِلّهُم ونقدرهم، لكننا نبالغ في النظر إليهم حتى نخرجهم من بشريتهم أحيانا، كأنهم لم يكونوا آدميين مثلنا يأكلون ويشربون وينامون ويضحكون ويبكون ويتلاطفون ويعملون بل وقد يقعون في أخطاء أيضا. لو لم يجسد الفنان عبدالله غيث شخصية حمزة لظللت طوال عمري غير قادر على تخيل الصورة والهيئة التي كان عليها سيد الشهداء. الفيلم فقط قربه إلينا وقال لنا إن حمزة كان في النهاية آدمي مثلنا لكن بهيئة زمانه في الملبس وفي نمط الحياة. والذي جسد يوسف في المسلسل ليس هو يوسف النبي تماما لكنه قرب صورته لنا وجعلنا نتأكد انه كان في النهاية من نسل آدم، وهكذا مع السيدة مريم، ونفس الأمر مع المسيح، ومع الشخصيات الأخرى، وهذا ما نحتاج إليه أيضا في مسلسل الحسن والحسين، حيث نحتاج من خلال رؤية من يجسدهم في المسلسل أن نتيقن أنهم كانوا من بني البشر، نريد وضع التقديس والتبجيل في موضعه الطبيعي، مع كامل الاحترام والتقدير لهذه الشخصيات العظيمة.