تتجذر قوة مصر كدولة وأمة وشعب في قدرتها على استيعاب أكثر من هوية في هوية واحدة تتلخص في عبقرية مصر. هذه العبقرية تذهب جذورها في تاريخ حضاري يمتد لأكثر من خمسة آلاف سنة أنتج حضارة مازالت إنجازاتها قائمة عكس الحضارات الأخرى، وهو ما يقوي ويدعم من هذه العبقرية والشخصية . فلا يكفي القول إن لنا حضارة، بقدر ما تتجسد هذه الحضارة في الواقع الحاضر . والحضارة تعني الدور والمكانة التي لعبتها مصر على مدار هذا التاريخ الطويل . ولذلك فالحديث عن هذه الحضارة واستدعائها يعني استدعاء هذا الدور وهذه المكانة . وأولى الخطوات هي بناء عناصر القوة الداخلية وهي في الحالة المصرية كثيرة ومتعددة من قوة بشرية، وعسكرية، واستراتيجية، وتكنولوجية وعلمية، ولعلي أذكر هنا فقط أن اليابان كانت ترسل بعثاتها إلى مصر عام ،1908 أي في بدايات القرن الماضي دلالة على تقدم مصر . ومن عناصر القوة قوة الهوية ذاتها وهي من الهويات المستوعبة والمنفتحة على غيرها، فهي نموذج للهوية الحاضنة وليست الطاردة، وهذا سر قوة هذه الهوية واستمرارها، وفشل كل المحاولات التي تحاول طمس أو القفز عليها كما في تجربة "الإخوان" القصيرة، أو في بعض التيارات الفكرية التي تدور على بعد واحد من هذه الهوية، كأن نقول فقط الهوية الفرعونية، وهذا ما قد يفسر لنا لماذا مصر مستهدفة في دورها ومكانتها . إنها تملك كل عناصر القوة الصلبة، والقوة الناعمة، أما أنها لم تمارس هذا الدور في مراحل تاريخية معينه فهذا له أسبابه وقد يتعلق بعضها بنظام الحكم، وغياب التوازن السياسي الديمقراطي، وبأسباب تتعلق بإدارة هذه العناصر، وهو ما يحتم اليوم على النظام الجديد، وعلى الرئيس السيسي أن تكون أولى مهامه استعادة عناصر القوة هذه، هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه عبقرية مصرية . وقد أقف قليلاً عند كلمة عبقرية، وماذا تعني ؟ عندما نقول هذا الرجل عبقري يعني القدرة على الابداع، والعمل، والإنتاج، والقدرة على التغلب على التحديات والمشاكل التي تعترض الحياة البشرية، وهذا المعنى ذاته ينطبق على العبقرية المصرية، بمعنى القدرة الإبداعية الكلية لأبنائها، وهو ما تمثل تاريخياً في قدرة مصر على التغلب على كل المحاولات الخارجية التي حاولت النيل من هذه العبقرية وهذا الدور، وقدرتها على التصدي لكل الغزوات الخارجية، والأهم قدرتها على مواصلة دورها ومكانتها حتى لو لحقت بها انتكاسات بفعل قوى خارجية طامحة للنيل من هذه العبقرية . لعل أفضل مثال على ذلك التجربة المصرية، وعبقرية مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر . وعبقرية القائد أو الرجل العظيم تحددها قدرته على تفهم عبقرية الدولة والشعب الذي يحكمه، وعندما تلتقي عبقرية مصر مع عبقرية الحاكم هنا يبرز الدور والمكانة الكبيرة التي تقوم بها الدولة، وهذا ما حدث مع ثورة 23 يوليو، والمشروع القومي الذي تبناه عبدالناصر في التحرر من التبعية والاستعمار وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولهذا السبب تكالبت عليه القوى الرافضة لهذا الدور فكانت حرب ،56 وحرب ،67 ولكن عبقرية الدولة وعبقرية القائد تمكنت من تجاوز هذه المحاولات . الصورة نفسها تتكرر اليوم مع ثورتي يناير، وثورة يونيو التي أحد أهم أهدافها استعادة هذا الدور وهذه المكانة، باستعادة عبقرية مصر، واستعادة عناصر القوة لها، والتخوف يتكرر من تواجد قيادة يجسدها طموح الرئيس السيسي، فقامت الدول نفسها والجماعات الرافضة للعبقرية المصرية باستهداف هذا الدور، وهو ما يفسر لنا محاولة استهداف الجيش المصري واغراقه في حرب العنف والإرهاب، والهدف استنفاد أهم عناصر القوة الصلبة، والاستهداف الثاني هو قوة مصر الاقتصادية وإغراقها في مشاكل الفقر والبطالة، ومحاربة أي مشروع قومي تقوم به الآن، والسؤال ماذا يعني استعادة عبقرية مصر، ودورها ومكانتها؟ مصر بهويتها العربية والإسلامية والحضارية الوطنية، قادرة على الوقوف في وجه كل المشاريع الخارجية التي هدفها ليس النيل من عبقرية مصر، بل من الهوية العربية كلها، واستبدالها بهويات إثنية وطائفية وعرقية، تقوم على تفكيك الأمة العربية إلى دويلات صغيرة ضعيفة تسمح للدول الإقليمية مثل إيران وتركيا و"إسرائيل"، إلى جانب القوى الدولية الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدة إعادة تقسيم المنطقة سياسياً إلى مناطق نفوذ، والمفتاح لذلك هو مصر بأن تبقى ضعيفة متناحرة داخلياً، ومستهدفة خارجياً . وفي هذا السياق فالدور الذي تقوم به ينطلق من المصلحة العربية، والحفاظ على هويتها، ولذا فالوقوف إلى جانب مصر هو دفاع عن الهوية العربية لكل دول المنطقة، والوقوف أمام أخطر مشروع خارجي تلاقت فيه مصالح الدول الإقليمية بالدول الكبرى لتفتيت المنطقة . هذا أحد أهم جوانب هذه العبقرية وهي التي يطلق عليها عبقرية المكان والجغرافيا، وتمثله هوية حاضنة لمكونها الإفريقي، والآسيوي في قلب المكون العربي الأساس، وعبقرية الزمان التي يمثلها الامتداد والاستمرارية التاريخية والحضارية . عبقرية مصر أفرزت العديد من العبقريات، ولكن كل هذا في إطار العبقرية الأم . هذه العبقرية هي المرشد والملهم لأي قائد وأي حاكم حكم مصر، وقوة أي حاكم وعبقريته ووطنيته تقاس بالقرب من مكونات هذه العبقرية، وهذا قد ينطبق على كل نماذج الحكم السابقة . هذا هو معيار النجاح، وهذا هو المعيار الذي يحكم الرئيس السيسي وقدرته على استلهام هذه العبقرية وترجمتها في استعادة عناصر قوتها الداخلية والخارجية، وفي استعادة دور مصر ومكانتها في عالم تحكمه القوة أكثر مما تحكمه الأخلاق . نقلا عن صحيفة الخليج