عندما يتوجه الناخبون التونسيون يوم الأحد إلى صناديق الاقتراع لن يكتفوا باختيار نخبة سياسية تحكمهم للسنوات الخمس المقبلة، وإنما سينتخبون تقليداً ديمقراطياً للوصول إلى السلطة والانسحاب منها، وهو تقليد يجب أن يترسخ بالتجربة ليرسي نظاماً قوياً في دولة مدنية وشعب متحضر لا ينتكس إلى التخلف ولا يندفع إلى المجهول . ربما هذه هي المعادلة التي تسكن ضمائر الأغلبية الساحقة من التونسيين، وإن كان تصورها يختلف من حزب إلى آخر بحسب تباين المعتقدات السياسية، وتحقيقها يتوقف على وعي الناخبين وحسن اختيارهم لممثليهم في البرلمان المقبل . ولا توجد أي مبالغة في توصيف انتخابات 26 أكتوبر بأنها أحد أيام تونس المصيرية، فما ستسفر عنه صناديق الاقتراع سيرسم خريطة شبه نهائية للقوى السياسية التي ستنشط نيابة عن الشعب وتمثله سواء في السلطة أو في المعارضة بعد صدور النتائج الرسمية . وبغض النظر عما دار طوال الحملات الانتخابية من حديث عن عزوف شعبي عن الأحزاب، ليس هناك ما يمنع إقبال الناخبين على التصويت بكثافة عالية أداء لواجب وطني وإلزاما للنواب الفائزين بالمسؤولية وبالعهود التي قطعوها وهم يجوبون مختلف جهات البلاد كسباً للأصوات . ولأن التونسيين لديهم ما يكفي من الوعي، فإن من سيحظى بالثقة لن يكون هيناً عليه حجم المطالب الاجتماعية والاستحقاقات الأمنية والسياسية المطلوبة عاجلاً أم آجلاً . ولهذه الأسباب استبقت كل الأحزاب المهيأة للفوز النسبي إعلان أسرار الصناديق وبدأت تروج لفكرة حكومة وحدة وطنية تجنباً للحرج وخوفاً من العجز عن تلبية أي من الأهداف . فالشعب الذي انتظر ثلاث سنوات هذه اللحظة التاريخية لم يعد يقوى على الصبر ولن يتسامح إذا خدع مرة أخرى . لقد كانت انتخابات المجلس التأسيسي في 2011 تجربة رائعة من حيث الشكل، أما في جوهرها فقد سببت خيبة أمل كبيرة حينما انقض الفائزون من حركة "النهضة" الإسلامية وحليفيها حزبي "المؤتمر" و"التكتل" على السلطة من دون دراية بشروط الحكم ولا بمقدرات البلاد ولا باستحقاقات العلاقات الخارجية وإكراهاتها، فكانت النتيجة أن ازدادت الأوضاع سوءاً على سوء ولم تعالج القضايا التي من أجلها انتفض الشباب على نظام زين العابدين علي وخلعه، ولم تقف المصيبة عند هذا الحد، بل تفاقمت عندما أطلت ضباع الإرهاب وبدأت تنهش البلاد وتعرض أهلها لتهديدات لا مثيل لها . مواجهة هذه الملفات، وأولها ملف الإرهاب، تتطلب شجاعة سياسية كبيرة وقدرة على المناورة والتحكم ليس لدى الأحزاب فحسب، بل لدى الشعب من خلال آلية الانتخابات وعبر هياكل المجتمع المدني من منظمات ونقابات، فتحقيق الأمن بمفهومه الشامل سيكون مهمة صعبة، وسيظل السعي لتحقيقه أمراً مشروعاً ومدار أي عمل سياسي في المستقبل ضمن ثقافة يجب أن تترسخ وتصبح منهجاً أساسياً يمكن من البلوغ إلى مرحلة أكثر مناعة ورقيّاً . ومثلما بنيت دولة الاستقلال على أسس طموحة وبذلت من أجلها تضحيات، يجب أن تقوم دولة الديمقرطية على ذات الأسس وبتضحيات مماثلة حتى يتحقق حلم الجمهورية الثانية، وما أقرب ذلك لتونس اليوم إذا نجحت تجربتها الانتخابية ودخلت عهداً جديداً من أوسع الأبواب . نقلا عن صحيفة الخليج ش