«حاجيبلك العسكري».. تلك كانت العصا الغليظة التي كانت أمي يرحمها الله تبث بها الرعب في قلبي صغيراً، عندما كنت لا أمتثل لما تريد، في بعض الظروف.. لم أكن أعمل عقلي عند سماعي هذا النذير، ذلك أن مقر الشرطة لم يكن بجوارنا، ولا كان هناك جندي واحد علي بعد خطوات بحيث يسهل علي أمي استدعاءه، ولكن حزمة من مشاعر الرعب والخوف والرهبة وقسوة المعاملة، وغلظة القلب، هكذا ارتبطت في اذهاننا بجندي الشرطة، خاصة وأننا تعودنا أحياناً سماع صيحة الجندي تخترق سكون الليل «هييه»، متبعاً إياها بتساؤل زاعق «مين هناك»! وكان عسكري الشرطة ممثلاً لسلطة الدولة، حتي اننا كنا نعبر عن حضوره بأن «الحكومة حضرت» والبعض منا كان يمزح ويحاول ان يصور الزوجة علي انها هي الأمرة وهي الحاكمة ومن هنا سماها كثيرون ب«وزارة الداخلية»! وعندما اقارن بين ما «كان» من هيبة وسطوة للشرطة، وما اراه في ايامنا الحالية، واسمع عنه وأقرأ، أجد الامر بحاجة لا إلي مجرد زيادة افراد الشرطة، وتوفيرهم في مختلف الاماكن وان كان هذا مطلوباً بطبيعة الحال، وبسرعة ولكن إلي توافر بعض علماء الاجتماع والنفس علي دراسة هذه الظاهرة، دراسة علمية، تنتهي الي البصر بما هو مطلوب، بناء علي معرفة مختلف الابعاد لهذه الظاهرة السلبية، التي اعقبت ثورة يناير وارجو من خلال المقال الحالي ان اسهم، ولو بقطرة، في تحقيق هذا. فمن المعروف ان السلطة في مصر، وعبر قرون طويلة، كانت سمتها الاساسية القهر والاستبداد والطغيان، وكانت وسيلة الحاكم لممارسة طغيانه وقهره، رجال الشرطة، حتي التصق بهم من الاوصاف ما جعلهم موضع كراهية شديدة من جموع الناس، رغم يقينهم في الوقت نفسه ان الشرطة، هي التي تحرسهم وتحميهم من المجرمين، وهي التي تبذل الجهد لتمكين الناس من حقوقهم بتطبيق القانون، عندما يحكم لهم بها. ويكفي ان يستدعي اي واحد منا عشرات الصور المريرة، لجنود الامن المركزي خاصة وهم يتكاثرون كالنمل، عندما كان الكيل يفيض ببعض الناس، فيسعون الي ممارسة حقهم في التظاهر للمطالبة بما يريدون ولن تنمحي صورة القاضي الذي وقع علي الارض بالقرب من دار القضاء العالي، وحذاء الشرطي فوقه، معلناً بذلك ما يصعب علي القلم وصفه من جبروت وظلم واستبداد النظام الذي كان حاكماً، فضلاً عن عشرات الممارسات الشبيهة. بل إن واحداً مثلي كتبت اكثر من مرة عما كان يجتاحني من مشاعر الغيظ والمرارة صباح كل يوم، مدة زادت علي عشرة أعوام (منذ اندلاع انتفاضة القدس في سبتمبر عام 2000). عندما كنت اذهب الي مكتبي بمساكن اعضاء هيئة التدريس وراء جامعة عين شمس بالعباسية، وتصافح عيناي ثلاث سيارات مصفحة، ممتلئة بجنود امن مركزي، مسلحة بالهراوات والعصي الكهربائية وما كان مختفياً داخل السيارات، تحسباً من قيام مظاهرة لطلاب الجامعة، العزل من كل سلاح إلا اللسان ينطقون بها مطالب وطنية، او طلابية مشروعة دائماً! تري كم من مشاعر مرارة ازدحم بها قلب وعقل كل طالب وكل مواطن يومياً، أكثر من عشر سنوات. وانظر الي آلاف المواطنين ممن يقودون سيارات اجرة أو «ميكروباص»، المنتشرين في طول البلاد وعرضها، وكيف كان علي كل واحد منهم ان يدفع «اتاوة» لهذا الجندي أو ذاك لهذا الامين شرطة أو ذاك وإلا حمل من الاوزار الملفقة ما يدفعه الي السجن؟! بل وانظر الي ألوف المواطنين الذي اوقعتهم الظروف، سواء لهم او عليهم، للاحتجاز داخل أي قسم وما كانوا يعاملون به من صفع وركل ولكمات وضرب بالعصي والهراوات مما كان ينتهي احياناً بالضحية الي الوفاة، ثم تزوير اوراق ليلبس المجني عليه مسئولية الخطأ وما قضية «خالد سعيد» إلا واحدة من عشرات الامثلة التي كانت متكررة، الي ان قدر لهذه الفعلة الشنعاء ان تكون شرارة الثورة التي اسقطت لا النظام الحاكم وحده، بل نظام الشرطة. ولا شك ان عشرات الألوف من المواطنين، الذين كانوا يتعاملون مع اجهزة الخدمات يحتفظون بآلاف الامثلة علي ما كانوا مضطرين الي دفعه من رشاوي، متفاوتة حتي يمكن لهم ان ينجزوا معاملاتهم الضرورية، مثل استخراج رخصة سيارة أو قيادة. ومما احتفظ به من مآس، نفسية واخلاقية، اني لضعف حالي الجسمية كنت ابعث بابني كي ينهي لي اجراءات الرخصة، من فترة لاخري، وكان ابني حاداً في رفضه التعامل بالرشوة، فكانوا يتفنون في تعويق انهاء ما يطلب فأضطر أنا: الأب استاذ التربية والاخلاق ان انصح ابني بأن يخفف من مثاليته ويدفع الرشوة المطلوبة!! ولا اظن ان هناك مواطناً مصرياً تخلو ذاكرته من وقائع مماثلة لهذا الذي اشرت اليه فماذا يترسب في الاعماق المصرية تجاه الشرطة غير الكراهية الشديدة، والرغبة الجارفة في الانتقام، وفيضان عارم من الاحتقار والازدراء؟! في صيف عام 1954 كانت العلاقات متوترة للغاية بين ضباط يوليو والاخوان المسلمين وتصادف ان وفقني الله عز وجل في النجاح في امتحان نادر كان يعقد لمقررات سنوات اربع ثانوي، بحيث يمكن للناجح، بناء علي هذا ان يقفز عدة سنوات مرة واحدة، واراد بعض اصدقائي من الطلاب الاخوان في قريتنا ان يزوروني ليشربوا «الشربات» كجري العادة وكان منزلنا في حارة داخل حارة ولما رآنا «مخبر» تصور ان الامر أمر اجتماع سري في مقر خطير، ومن هنا فما ان جلس الضيوف ودخلت لأطلب من امي عمل الشربات لهم حتي فوجئت بمن تطرق الباب الخارجي بشدة صائحة محذرة: يا أم محمد، اخرجي الاخوان اللي عندكم احسن العساكر حايجيلكوا»! وسمع الضيوف الصرخات والدقات ومادت بي الارض خجلاً وارادوا ان يعفوني من الحرج فهبوا من انفسهم الي مغادرة المنزل والعرق يتصبب مني خجلاً ثم يجيء ابي ليقذف بحمم الغضب علي رأسي موبخاً لي مؤنباً بأن «مالك ومال الإخوان دول» وكان يعلم علم اليقين انني لست عضواً؟! ثم نعرف ان مداخل الحواري المؤدية الي منزلنا يقف علي رأس كل منها عسكري ونقضي ليلة ما شهدت اسود منها ونحن «مكومون» وراء الباب في انتظار القبض علينا بغير ذنب ارتكبناه الا بإعداد «شربات» النجاح غير العادي ليشربه طلاب من الاخوان!! هذه الحادثة التي تعد بسيطة قياساً الي آلاف امثلة اخري في الاتجاه نفسه، حفرت في ذهني وفي قلبي وفي اعصابي مما كان يدفعني دائماً للتساؤل: إذا كان هذا الرعب الذي اصابنا من مجرد خوف من الاعتقال، تري، فماذا حال آلاف آخرين تم اعتقالهم فعلاً، وعذبوا بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر؟ وليت الامر اقتصر علي الاخوان، بل نال كل من كان يشتم منه مخالفة للنظام الحاكم قدراً عظيماً من القهر والظلم والتعذيب. وكم من مرة يتم استدعائي أو يجيئني ضابط من امن الدولة لا لشيء إلا بسبب الندوات المتعددة التي كنت انظمها منذ عام 1985 حتي الآن وهي علنية وما كنا ابداً نقرب من اي مسألة سياسية ولا انسي انني عقدت ندوة مرة لثلاثة من العلماء والمفكرين الاقباط، كي يحدثونا عن دور الكنيسة المصرية في التعليم المصري كصورة من صور حرصي الدائم علي ان اعرض امام التربويين نماذج مختلفة لشتي التيارات والاتجاهات وعليهم هم ان يختاروا فإذا بضابط امن دولة يجيء للتحقيق معي، متسائلاً: ما لكم ومال الكنيسة والاقباط؟! مما اضطرني ان اشرح له اننا لا ننظر الي المدارس فقط كمؤسسات للتربية، بل كذلك دور العبادة! وصورت لي سذاجتي مرة ان اسعي لمقابلة رئيس الدولة وعرض خريطة طريق للنهوض بالتعليم نظراً لما آل إليه من ترد مخجل وابعادي دائما عن الرأي والمشورة، فأرسلت له خطاباً دون ان اصرح فيه بغرض المقابلة المطلوبة، فإذا باستدعاء يتم لي من لاظوغلي، حيث تم التحقيق معي!! ومنذ اكثر من عشر سنوات تم استدعاء زوجتي الدكتورة زينب حسن، الاستاذة ببنات عين شمس الي أمن الدولة بلاظوغلي، مما اثار دهشتنا واستياءنا، ثم اذا بها تطلبني من هناك لتقول انهم استدعوها ليطلبوا منها ان تكون عميدة لاحدي كليات التربية، وتسألني رأيي وكان رأيي الذي وافق رأيها تماماً انها بهذا سوف تكون عميلة لأمن الدولة في الحقيقة، وعميدة فقط امام الناس وصببت لعنتي علي مثل هذا الموقع وغيره ذي البريق امام الناس اذا جاء بهذه الصورة المقززة وانه من الخير لي ولها ان نجلس «علي الرصيف» ولا نكون قيادة جامعية مرموقة ولامعة امام الناس لكنها في الحقيقة «دمية» يمسكن بخيوط تحريكها ضباط أمن الدولة!! نقول مرة اخري واخيرة، ان آلافاً من الناس يحملون آلافاً من الخبرات المؤلمة غاية ما يكون الألم، الموجع غاية ما يكون الوجع، مما ملأ قلوب المصريين بمشاعر كراهية من الصعب وصفها، تراكمت عبر قرون تجاه الشرطة، أو «عصا النظام المستبد» ومن ثم فإن ما نراه الآن من صور فراغ امني ان هو إلا رد فعل لهذا الميراث الكريه الطويل، فالمسألة ليست مجرد عدد زاد أو نقص ولكنها تحتاج الي صبر طويل لتغيير صورة الشرطي ووظيفته سواء لدي الجمهور أو لدي الشرطي نفسه. كانت الشرطة اداة النظام لحمايته هو بالدرجة الاولي ما زرع في قلوب رجال الشرطة انهم يمثلون السلطة الباطشة وانهم فوق الناس اذا كانت وظيفتهم هي تطبيق القانون لكن علي عموم الناس وليس علي خواصهم واصبح المطلوب اليوم دوراً مختلفاً تماماً يجعل من الشرطة حارسة للناس مما يوجب ان تكون ممثلة لهم فيطبقون القانون علي الوزير قبل الخفير فيجلهم ويحبونهم ويحترموهم وهو انقلاب كبير في المهمة والفلسفة والدور ومن السذاجة ان نتصور ان يتغير خلال عدة شهور.