قبل نحو عام، غداة إطاحة الشعب المصري سلطة جماعة "الإخوان المسلمين"، ساد اعتقاد، داخل مصر وخارجها، بقدرة الجماعة وبقية حركات "الإسلام الحزبي" التكفيرية بتحالفاتها وامتداداتها الإقليمية والدولية، على إدخال مصر في حالة من الفوضى السياسية والأمنية والمجتمعية يتعذر معها تنفيذ بنود استحقاقات "خريطة المستقبل" التي أعلنها، تحت حماية القوات المسلحة المصرية، الائتلاف الوطني الذي قاد في 30 يونيو/حزيران الموجة الثانية لثورة 25 يناير . غذى هذا الاعتقاد زعْم الجماعة و"أخواتها" التكفيرية بأن ما حصل في 30 يونيو "انقلاب عسكري مكتمل الأركان"، وليس ثورة شعبية منع الجيش مخطط تحويلها إلى حرب أهلية كان من شأن حدوثها أن يضرب أركان الدولة المصرية ويحولها إلى دولة فاشلة . واتسعت دوائر القناعة بهذا الاعتقاد انتهاج الجماعة و"أخواتها" تكتيكاً هجومياً لاستعادة سلطتها بأي ثمن، وبكل الوسائل، بما فيها العسكرية عبر إغراق محافظات مصر بدءاً من سيناء في موجة من الإرهاب التكفيري المدمر، أملاً في استدعاء شكلٍ من أشكال التدخل الأجنبي، والغربي بقيادة أمريكية، خصوصاً، علماً أن هذا التكتيك هو أقصر الطرق لتكرار النموذج السوري في مصر، وإن بسيناريو مختلف . على أية حال، خاب رهان جماعة "الإخوان المسلمين" و"أخواتها" وكل الداعمين لها إقليمياً ودولياً . ففي غضون نحو عام نجح الشعب المصري، تحت حماية جيشه الوطني، في تنفيذ استحقاقيْن من استحقاقات "خريطة المستقبل"، وفي الموعد المحدد لكل منهما . فبعد إجراء الاستفتاء على دستور ديمقراطي مدني لكل المصريين ويحمل في مضامينه أهداف ثورتهم في الحرية والكرامة والتنمية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني، وفاقت نسبة الاقتراع عليه والتأييد له ما حازه "دستور الإخوان" من نسبة اقتراع وتأييد، عُقدت انتخابات رئاسية ديمقراطية حرة ونزيهة وشفافة، زاد عدد المقترعين فيها على 25 مليوناً، (5 .47% من أصحاب حق الانتخاب)، وفاز فيها المرشح عبدالفتاح السيسي بنسبة 9 .96%، حيث حصل على 23 مليوناً و780 ألفاً، أي بما يزيد بنحو 10 ملايين صوت على الأصوات التي كان فاز بها الرئيس المعزول محمد مرسي ( 13 مليوناً، و230 ألف صوت)، بل بما يقل بنحو مليونين فقط عما حازه محمد مرسي ومنافسه أحمد شفيق معاً، بينما حصل المرشح حمدين صباحي على 757 ألفاً،( 3% تقريباً من الأصوات الصحيحة للمقترعين)، وبلغ عدد الأصوات الباطلة نحو مليون صوت، أي أكثر بقليل من نظيرتها في انتخابات عام 210p ما يعني أن رئيس مصر الجديد يحظى بشعبية كاسحة تعيد للذاكرة - في ظروف ومعطيات مختلفة - شعبية زعيم مصر والقائد القومي الراحل جمال عبد الناصر، وأن، وهنا الأهم، عاماً من تفرد "الإخوان" بالسلطة، واحتكارهم لها، وإقصائهم لكل مخالف لهم ومختلف معهم عنها، وفشلهم في إدارتها، كان كافياً لتآكل شعبيتهم، بينما كان عام من تورطهم في ممارسة العنف ورعاية مجموعات الإرهاب التكفيري كافياً لعزلهم والإجهاز على جلِّ ما تبقى لهم من شعبية وعلاقات سياسية، بل ولوضعهم على لائحة المنظمات الإرهابية ليس في مصر فحسب، إنما في بلدان عربية مركزية أخرى . لذلك كان من الطبيعي أن تتحرك أولويات الشعب المصري، حيث لم يعد ممكناً الفصل بين مطالبه في العيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني، وبين مهمة التصدي لعنف جماعة "الإخوان" وبقية حركات الإرهاب التكفيري . ماذا يعني هذا الكلام؟ ثورة مصر بموجتيها، 25 يناير و30 يونيو، هي - ككل ثورة - صيرورة واقعية متعرجة للتغيير ما انفك يصنعها، بمؤازرة من جيشه الوطني، شعب عريق قرر في ظل شروط داخلية وخارجية معقدة ومتداخلة انتزاع حقه المشروع في الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني . لكن، لئن كان مفهوم الثورة - ككل مفهوم - هو، أصلاً، صيرورتها الواقعية معكوسة في الوعي على شكل تجريد نظري يصلح أداة علمية لتحليل تناقضاتها واستشراف مآلاتها، فإنه، (مفهوم الثورة) يصبح شكلاً أيديولوجياً لتزوير حقائق الثورات الواقعية وتزييفها، إن هو تحول إلى تأليف ذهني منفصل عنها . وهذا هو بالضبط ما حصل لثورة مصر التي تعرضت - كأي ثورة - لعملية تزوير وتزييف أيديولوجية ممنهجة قادتها أطراف داخلية وخارجية متداخلة المصالح والأهداف والدوافع . فبينما وصمتها أطراف داخلية، في مقدمتها رموز نظام مبارك، ب"المؤامرة الخارجية"، وصمت جماعة "الإخوان" موجتها الثانية ب"الانقلاب العسكري" . أما الولاياتالمتحدة وكل الدائرين في فلكها، وفي مقدمتهم تركيا أردوغان "الإخواني" بتطلعاته العثمانية الجديدة، فقد اعتبروا ثورة 25 يناير جزءاً مما سموه "الربيع العربي"، لكنهم تراجعوا عندما صحح الشعب المصري، بدعم من جيشه الوطني، مسار ثورته في 30 يونيو، أي عندما فشل مخططهم في جعل التغيير في مصر على شاكلة التدمير الذي أحدثه المشروع الأمريكي في العراق . إذاً ثمة أطراف داخلية وخارجية، نزعت عن ثورة مصر المفهوم العلمي للثورة، وأحلت محله - بقصد - مفهوماً أيديولوجياً منفصلاً عن صيرورتها الواقعية، يغذي، ويخلق، جماعات تكفيرية مسلحة، كان من شأن عدم التصدي لها وهزيمتها أن يزيد قوتها ويمكنها من السيطرة على رقعة جغرافية مصرية، وعلى سيناء بالذات، تماماً مثلما سيطرت على أكثر من مدينة عربية، منها، (مثلاً)، مدينة الفلوجة العراقية، ومدينة الرقة السورية، ومدينة بنغازي الليبية، التي أقيم فيها "إمارات" تحكم بأفكار قديمة تبيح استخدام السيارات المفخخة وممارسة عمليات الاغتيال وقطع الرؤوس وبقر البطون ونشر الفتن الدينية والطائفية والمذهبية والجهوية وتفكيك النسيج الوطني السياسي والمجتمعي وتدمير الممتلكات العامة والخاصة و . . . . . . تماماً كما فعلت ولا تزال حركة طالبان صنيعة استخبارات الولاياتالمتحدة في أفغانستان قبل أن ينقلب السحر على الساحر في "غزوة" 11 سبتمبر/أيلول 2001 . لكن، رغم كل عمليات التزوير والتزييف الأيديولوجية التي تعرضت لها ثورة 25 يناير، ورغم أنف كل مروجيها، داخلياً وخارجياً، بما لهم من نفوذ سياسي ومالي وإعلامي هائل، فقد نجحت هذه الثورة كصيرورة واقعية في تخليع رموز نظامين وإطاحة سلطتين، حيث ذهب حكم مبارك إلى غير رجعة، وصارت سلطة "الإخوان" التي لم تصمد أكثر من عام في ذمة التاريخ . بل ونجح شعب مصر في صياغة دستور جديد يحمل مضامين مطالبه في الحرية والكرامة والتنمية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني، وفي انتخاب رئيس يحظى بشعبية كاسحة، بينما يسير بخطى ثابتة واثقة نحو عقد انتخابات برلمانية، بها تُستكمل استحقاقات "خريطة المستقبل" . وكل ذلك دون أن ننسى أنه يصعب تصور دوران عجلات المشروع القومي النهضوي العربي، بشكل ملحوظ، من دون نهوض مصر ولملمة جراحها والاطمئنان إليها .