لم يعد الشعار هو (الشعب يريد) .. فقد أختطفه حفنة من وجهاء وعتاولة المثقفين والسياسيين الذين تصوروا أنهم هم الذين قاموا بالثورة وحدهم وأدخلوه في جدالهم العنيف فتحول الشعار الي ( الشعب لا يريد .. الأحزاب تريد ) ! ، ففي غمرة الجدل الدائر بين السياسيين والطبقة المثقفة وشباب الثورة والأحزاب حول (الدستور أولا ) أم (البرلمان أولا)، نسوا جميعهم أو انشغلوا بقضايا فرعية، ونسوا الهدف الذي من أجله قامت الثورة وهو (المواطن البسيط) .. تحسين أحواله الاقتصادية وتعويضه عن فقدان أمنه وترويعه وهدر كرامته وسرقة عمره أمام عينيه في العهد البائد وهو يلهث لجمع بضع لقيمات يقمن صلبه وضاعت كرامته فنسي شئ اسمه راحة البال أو الرخاء والرفاهية !. نسي هؤلاء السياسيين المتجادلين أن الهدف الحقيقي للثورة هو هذا الموطن البسيط الذي لا يزال ينتظر ويكاد يكفر بهذه الثورة وهو يري أن جدالهم وتأخر حسم المستقبل زاده فقرا وألما ونزع الأمن عنه في كل شئ .. نسوا أن هذا المواطن الذين يتحدثون نيابة عنه وباسمه، ويقولون أنه أخطأ ولم يحسن الاختيار في استفتاء تعديل الدستور في مارس الماضي (!) .. هذا المواطن يهان بهذا الكلام الذي يقال عن أنه لابد من إعادة هذا الاستفتاء لأن (الإسلاميين) ضحكوا عليه ؟! ، أو أنه يجب تجاهل هذا الاستفتاء ونتائجه ونبدأ من جديد بتشكيل هيئة تأسيسه تقوم بعمل دستور خلال عام علي الأقل تكون فيها مصر قد تحولت الي فوضي يستغلها أعداء الثورة في الداخل والخارج ليجعلوا هذا المواطن البسيط يندم علي تأييده لهذه الثورة ويتمني لو أنها لم تقم !!. نسينا أن الهدف هو تنمية مصر وتوحيد القوى الثورية لحماية الثورة من التشتت والضياع ) ، والخروج سريعا من حالة (التحول الثوري) الي (دولة الثورة) المستقرة المنتجة ، وأن حالة التخبط والضعف تعطي أعداءنا في الخارج الفرصة لاستغلال هذه الخلافات الداخلية وزيادة الفجوة بين الفريقين المتعارضين ، والضغط علي مصر وتعميق الخلافات كي لا تعبر الثورة لبر الأمان وتظل أمواج الخلافات حول الدستور أم البرلمان تلاطمها ! صراع ائتلافات الثورة ! هذا السباق والجدال الشديد الدائر حاليا يجري بين تيارين سياسيين متنافسين : (الأول) يمثل حركات وقوي سياسية من أنصار (الدستور أولا وتأجيل الانتخابات) ، و(الثاني) هو القوي السياسية التي تؤيد عقد الانتخابات في موعدها حسبما نصت علي هذا خارطة الطريق التي أفرزها (الإعلان الدستوري) الناتج عن استفتاء تعديل الدستور ، ثم وضع دستور جديد ثم إجراء انتخابات الرئاسة . الفريق الأول يضم ممثلي 12 من الأحزاب والقوى السياسية أبرزها الوفد والإخوان والتجمع والناصري والوسط والكرامة ، دشنوا في اجتماعين متتاليين حزب العدالة والتنمية تحالفا وطنيا لخوض الانتخابات المقبلة أحد أهدافه هي احترام نتائج أول استفتاء حر جري في مصر بعد الثورة ، وأقر إجراء انتخابات البرلمان أولا ثم الدستور ، ومعهم شخصيات مستقلة وتيارات سلفية وليبرالية أخري ، والفريق الثاني بالمقابل يضم قرابة 36 حركة سياسية وشبابية من مؤيدي حملة (الدستور أولا) بدأوا في حملة لجمع توقيعات 15 مليون مصري لمطالبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بوضع دستور جديد للبلاد أولا قبل إجراء الانتخابات التشريعية المقررة في سبتمبر المقبل وأنضم لهم عدد من الفقهاء تقدموا بمذكرة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة يطالبونه بإصدار إعلان دستوري بتشكيل جمعية تأسيسية تمثل جميع طوائف الشعب المصري، لوضع مشروع دستور جديد للبلاد قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة . حجة المطالبين بالالتزام بنتائج استفتاء تعديل الدستور والبدء بانتخابات مجلسي الشعب والشورى أولا هي أن عدم الالتزام بهذا معناه إطالة الفترة الانتقالية واستمرار بقاء الجيش في الحكم واستمرار حالة عدم الاستقرار في البلاد لعدم وجود برلمان ولا رئيس ، كما أن عدم الالتزام بالاستفتاء معناه اهتزاز الكيان القانوني في مصر وإعطاء سابقة خطيرة في عدم تنفيذ إرادة المصريين الحرة في أول استفتاء حر يجري في مصر ، وإعطاء انطباع غريب بأن إرادة المصريين الحرة تم تزويرها وخداع المصريين !. ويقولون أيضا أن تشكيل جمعية لوضع الدستور قبل انتخاب البرلمان يتعارض مع ما وافق عليه الشعب في استفتاء تعديل الدستور من إضافة المادة 189 مكرر إلى الدستور، التي تنص على أن الأعضاء المنتخبين بمجلسي الشعب والشورى هم الذين يشكلون هذه الجمعية ، كما اقترح تشكيل هيئة تأسيسية لصياغة الدستور مكونة من 150 عضوا، هو اقتراح سيؤدي لصراعات وخلافات لأنه لا توجد ألية لإختيار هؤلاء وقد يحتج أخرون لم يتم إختيارهم في هذه الهيئة علي نتائج هذه الهيئة ويطالبون بإلغاء دستورهم !. أما حجة المطالبين بالدستور أولا ، فهي التخوف من عدم كفاية فترة الدعاية الانتخابية للأحزاب الجديدة ومن ثم إعطاء الفرصة لقوي منظمة خصوصا الإخوان والسلفيون للفوز بكبر عدد من المقاعد وتحقيق أغلبية كما فعلوا في الحشد الأول لنتائج استفتاء تعديل الدستور ، وأنه يجب البدء ببناء قواعد البلاد أولا قبل الانتخابات ، ويقولون أن البرلمان المقبل سيكون اغلبيته من الاسلاميين ما سيسمح لهم بصياغة دستور أشبه بدستور الدولة الدينية لا المدنية . الإخوان كلمة سر "الدستور أولا" ! والأكثر غرابة – ويكشف عن ضغوط بلا منطق مفهوم - أن بعض أنصار فكرة (الدستور أولا) وصل بهم الأمر لحد التخطيط – كما تقول نوارة نجم فى مدونتها (جبهة التهييس الشعبية ) - لعقد صفقة مع الجيش لاستبعاد الإخوان (!)، وكأن الجيش بالفعل سيقبل هذا الهراء ، أو كأن هدفهم هو الخشية من فوز التيار الإسلامي والقوي الحزبية ذات الثقل الانتخابي مثل الوفد ، والرغبة في فرملة فوزهم المرجح في انتخابات سبتمبر المقبل بأي حجة مثل حجج الدستور أولا أو إلغاء الاستفتاء الأخير أو إجراء استفتاء جديد !. وتقول أن هذه القوى بصدد عرض صفقة علي الجيش لكى ينفذ لهم مطلب إقرار الدستور قبل الانتخابات التشريعية (!) ، أما عرضهم (العجيب المشبوه) فيتلخص في مزاعم التغاضي عن محاسبة العسكريين ماليا ، (برغم أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أكد في رسالته الأخيرة رقم 64 التزامه بمحاسبة كل من يثبت تورطه في جرائم الفساد ) ، و(الثاني) أن يتم إعطاء المجلس العسكري "سلطات حماية علمانية الدولة والدستور " !، أي علي الطريقة التركية القديمة في أن يكون الجيش رقيبا علي الديمقراطية. والغريب أن عادل حمودة رئيس تحرير جريدة الفجر شارك في هذا الطرح الغريب بنشر مقال بعنوان (سماه «سيناريو الحكم العسكري القادم لمصر ) تضمن تصورا بإعطاء الجيش المصرى صلاحيات دستورية كالتى كانت معطاه للجيش التركى قبل أن يقوم حزب العدالة بتعديلها ، وهى صلاحيات كانت تمنح الجيش التركي حق الانقلاب على أى سلطة منتخبة بدعوى حماية علمانية الدولة ومنع وصول الإسلاميين للسلطة ولو بالانتخابات الحرة !؟ . وهو ما سبقه إلية البرادعي في حوار مع صحيفة "الأهرام" دعا فيه أيضا إلى صياغة نص في الدستور يقضي بأن يحمي الجيش الدولة المدنية والدستور. حلول توافقية وتطمينية مقترحة ولأن الجدل بدأ يأخذ طابعا عصبيا يهدد الثورة نفسها في ظل حشد رافضي الانتخابات أنفسهم للخروج في مظاهرات مليونية وجمع توقيعات للضغط علي الجيش لعدم إجراء الانتخابات ، وتهديد قوي إسلامية وسلفية برفض التراجع عن نتائج استفتاء تعديل الدستور ، فقد بدأت بعض القوي وحتى المجلس الأعلى للقوات المسلحة تطرح أفكارا توافقية سواء لجهة طمأنة أصحاب (الدستور أولا) فيما يخص مدنية الدستور المقبل والاستمرار في مسار الانتخابات ، أو لجهة البحث عن حلول وسط مثل : 1- من هذا مثلا ما لوحظ في البيان الأخير للمجلس الأعلى للقوات المسلحة رقم 64 بشأن التزامه بدولة مدنية في مصر تقوم علي أسس الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية كنوع من طمأنة القوي المعارضة للانتخابات أن الجيش سيظل حاميا للدولة المدنية ، وبدرجة ما (وثيقة الأزهر) التي أصدرها شيخ الأزهر لتحدد معالم المستقبل في مصر ، والتي أشادت غالبية القوي والأحزاب السياسية بها لأنها أقرت مفهوم الدولة المدنية ورفضت (الدولة الدينية الكهنوتية) وإن ربطت وثيقة الأزهر مرجعيتها بالشريعة الإسلامية . 2- أيضا اقترح الدكتور عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وأحد مؤيدي الدستور أولا (قبل أن يتراجع ويؤيد الالتزام بنتائج الاستفتاء وبالتالي الانتخابات أولا )، وضع مجموعة من المبادئ أسماها "فوق الدستورية" لا يخرج الدستور القادم عنها، لحسم جدل "الدستور أولا"، لأن دعوات "الدستور أولا" تفتح الباب لإعادة عقارب الساعة إلى ثلاث أو أربع أشهر، والتأجيل قد يؤدي إلى البقاء تحت حكم ضباط الجيش مثلما حدث منذ عام 1952 ، حيث يرى حمزاوي أنه بدلا من تضييع الوقت في جدل الدستور أولا أم لا، يتم وضع المبادئ فوق الدستورية، ويطلب من المؤسسة العسكرية والمحكمة الدستورية العليا ألا يخرج الدستور القادم عن هذه المبادئ، ومن أهمها ألا تعامل الدولة المواطنين على أساس التمييز، وأن تكون العلاقة بينهم هي المواطنة، مع ضمان الحق في الحياة الكريمة، وكفالة الحق لكل مصري أن يترشح للرئاسة، طالما كان كامل الأهلية السياسية، وأن تكون المرجعية النهائية هي الدستور، إضافة إلى التزام الاقتصاد بالعدالة الاجتماعية. 3- أيضا يقترح البعض لحل هذه الإشكالية تقديم مساعدات للأحزاب الشبابية التي تشكو عدم قدرتها علي التأسيس بسبب التكاليف المالية ، وهو ما فعله المجلس العسكري بالفعل عندما أعلن تحمله نفقات إشهار هذه الأحزاب كي تحظي سريعا بفرصة الدعاية في الشهرين المقبلين . 4- البعض أقترح أيضا وضع ضمانات أوسع لنزاهة الانتخابات ورقابة أجنبية لضمان عدم الحشد الذي تخشي منه القوي الرافضة للانتخابات من قبل التيارات الإسلامية للجماهير . خطورة تأجيل الانتخابات والحقيقة أن أخطر النتائج التي يمكن أن تترتب علي إلغاء نتيجة استفتاء تعديل الدستور أو الاستجابة لمطالب أصحاب (الدستور أولا) هي أمرين : (الأول) ترسيخ فكرة عدم قبول أي انتخابات أو استفتاء حر بعد الثورة في مصر والتشكيك فيه كما كان الحال قبل الثورة ، ما يجعل الثورة نفسها بلا قيمة ، و(الثاني) أن تأجيل الانتخابات أو التراجع عنها ، ستعد هزيمة للمجلس العسكري كما يقول عماد مكي رئيس تحرير (وكالة أنباء أمريكا إن أرابيك) في واشنطن ، سيشجع أعداء مصر الخارجيين لالتقاط أنفاسهم بعد هزيمتهم في معركة الثورة وسينتهي الربيع العربي بصقيع عربي سيدوم طويلا. حيث تتربص المنظمات الصهيونية واللوبي الإسرائيلي، ومنظمات يقودها بعض متطرفي أقباط الخارج، بالإضافة لقوى اليمين الأمريكي (المحافظين) وحركة (تي .بارتي) ومتشددي الحزب الجمهوري ، بالثورة المصرية وترغب في ان ترى المجلس العسكري المصري في تراجع ورضوخ ومنشغل أو متورط بالوضع الداخلي بصورة تضعف مصر ، ولكي لا يفكر باقي العرب في الثورة علي حكامهم الديكتاتوريين ويقال لهم هل تريدون أن تصلوا لما وصل اليه المصريون من فوضي بعد الثورة ؟!