أتابع ما ينشر عن الجاسوس الإسرائيلي المشتبه به "إيلان تشايم جرابيل"، واهتم بقراءة تعليقات القراء، فهي مرآة تكشف كيف تفكر هذه الشريحة الواعية من المجتمع، ومستوى قبولها أو تحفظها على المنشور، علاوة على أن التعليقات تمثل رصدا للاتجاهات في حراك الرأي العام، بل إن بعض القراء من الذكاء لدرجة أن تعليقاتهم تطرح أسئلة شائكة، والإجابة عنها تتطلب استمرار المتابعة والبحث عن مزيد من المعلومات، والحقيقة أن عددا معتبرا من التعليقات بشأن "تشايم" مازالت تريد مزيدا من الأدلة للاقتناع بأنه ضابط بالموساد، وأن هدف وجوده في مصر كان التجسس لصالح إسرائيل، وبالنسبة لي فقد وجدت نفسي في منطقة وسط بشأن دور وحقيقة هذا الشخص أقول مرة إنه جاسوس، وفي أخرى أحتاج إلى اليقين لأخرج من دوائر الشكوك. ابتداء ينبغي التوضيح أنه مما قد يكون عذرا لي ولقراء معتبرين عندما تساورنا شكوك في القصة فإن ذلك نابع من أن الصورة الذهنية المترسخة عن الجاسوس أنه شخص غامض، يعمل في الخفاء، ويحتاط لأقصى درجات السرية، ولذلك يمثل سقوطه، والإعلان عنه، مفاجأة مدوية لمن حوله، ولكل من يعرفه، وجميع من تعامل معه. وفي حالة "إيلان تشايم"، ولفرط وضوحه في تحركاته، فإنه لم يكن يبقى سوى أن يضع بطاقة على صدره، مكتوب عليها انه جاسوس لإسرائيل. ما قرأناه عنه محير بالفعل، فكل نشاطاته علنية، وفي ضوء النهار، وحتى في الليل فإنه لم يكن يجلس على المقاهي منعزلا إنما وسط المصريين، يتحدث معهم ويناقشهم، وفي إحدى المرات التي دخل فيها مصر كان ذلك بجواز سفر إسرائيلي، فهل هناك جرأة أكثر من ذلك، أن يدخل جاسوس إسرائيلي للبلد الذي سيتجسس عليه بجوازه الإسرائيلي؟، أم انه غباء منه ومن "الموساد" الذي تلقى ضربات موجعة الفترة الأخيرة في أكثر من بلد؟. والمدهش هو ما نشر حول إرساله تقاريره للموساد من مقاهي انترنت عامة، فهل يعني ذلك أنه أجرأ جاسوس عرفته مصر والعالم، أم أنه أغبى جاسوس، أم انه هاو ومغامر وليس جاسوسا بالمعنى الاستخباراتي للكلمة، أم أن الموساد أراد تجريب أسلوب جديد في التجسس بهذه الطريقة العلنية مطمئنا إلى أن مصر في حالة سيولة وأن أجهزتها الأمنية في حالة من عدم التركيز وأن جاسوسه الذي يجيد اللغة العربية، ويقدم نفسه على أنه صحفي وناشط، وأنه متضامن مع الثورة وعاشق لمصر، سيبعد عنه أي شكوك؟. مقابل حالة اللايقين تلك، فإن اليقين بشأن الاشتباه في كون "إيلان تشايم" جاسوس يأتي من أنه في المرات التي دخل فيها مصر كان في غاية النشاط والحركة، فمن سِجّل تحركاته التي تنشرها الصحف، إنه لم يغادر ميدان التحرير في كل المناسبات التي تواجد فيها الثوار عقب سقوط مبارك، وقد اشتهر باليافطة التي يحملها وهو وسط الميدان موبخا الرئيس الأمريكي أوباما بأن الثورة المصرية ثورة كبرياء وليست ثورة غذاء، وعندما يرفع شخص أجنبي مثل هذا الشعار- رغم أن أوباما لم يقل شيئا مهينا للثورة بل تغزل فيها - فإنه قد يحصد القبول والتعاطف والمصداقية والثقة من الثوار باعتباره متضامنا مع الثورة، ثم إنه كان في إمبابة عند اشتعال التوتر الطائفي، واحتراق الكنيسة، كما تواجد في أطفيح عند حريق كنيسة صول، ولم يسعفه الوقت للذهاب إلى "أبو قرقاص" حيث كانت ملتهبة طائفيا أيضا، وتواجد أمام قسم الأزبكية لحظة محاولة اقتحامه، وذهب إلى الجامع الأزهر، وبعض المساجد، كما سافر للأقصر كسائح، ولم يترك اجتماعا للأحزاب أو جماعة الإخوان أو السلفيين أو ائتلافات الثورة إلا وكان في مقدمة الحضور. أي صحفي أو ناشط أو مدافع عن اللاجئين يمكن أن يكون هذا الشخص؟، إنه شعلة من الحركة والنشاط أو هو"سوبرمان"، وهذا لابد أن يجعل أي جهاز أمني يقظ يتشكك في أمره، وألا يقف صامتا أمامه، أو يتركه لحال سبيله، وبهذا يصبح تبريره بأنه محب لمصر، ومؤيد لثورتها العظيمة، محل تساؤل عن كل هذا العشق الذي يزايد فيه على أبناء البلد أنفسهم، ثم أين هي الصحف التي نشرت له موضوعاته من مصر الثورة، أم أنها صحف سرية، وهل يعمل حقا بمؤسسة لخدمة اللاجئين، وأين هي تلك المؤسسة، وهل هي موجودة أصلا، وهل ادعاءاته بأنه صحفي ومدافع عن حقوق اللاجئين هي ستار للتغطية على أهدافه من وجوده بمصر ونشاطه بين المصريين؟، مثل هذا الشخص الذي يتمتع بالجنسيتين الإسرائيلية والأمريكية ويدخل مصر عدة مرات خلال خمسة أشهر لابد أن يكون محل نظر ومتابعة من أجهزة الأمن، بل إن حالته غير الاعتيادية جعلت الشكوك تساور عددا من الشباب النابه الذين تعاملوا معه، رغم أنهم لا يملكون حس رجل الأمن، إذ أن تأييده للثورة فيه مبالغة، وأسئلته واستفساراته ومناقشته غير طبيعية وتثير التوجس، ولذلك قاموا بالإبلاغ عنه، ورغم أن كل ذلك جميل، إلا أنه لابد من تقديم المزيد من الأدلة بشأن ارتباطه بالموساد وقيامه بالتجسس وتهديده الأمن القومي المصري، ليتم قطع كل شك بيقين، وليكون ذلك أبلغ رد على قادة إسرائيل المشككين، ومنهم بنيامين بن أليعازر وزير البنى التحتية وصديق مبارك الذي اعتبر أن اعتقال "تشايم" بحجة التجسس هو "عمل يليق بالهواة، هدفه الإثبات للشعب المصري أن السلطات لا تزال تعمل على ضمان أمن الدولة" . وما يدعم جانب اليقين بكون "تشايم" مشتبها بالتجسس فيه هي صوره بالملابس العسكرية وهو على الجبهة خلال حرب لبنان 2006، ثم وهو في المستشفى يعالج من إصابات خلال الحرب، فالشاب الذي يترك أمريكا ليحارب إلى جانب إسرائيل معرضا نفسه للموت هو بالتأكيد صهيوني متطرف، وهذه النوعية من اليهود المتعصبين على استعداد لخدمة إسرائيل في أي مكان، أو القيام بأي مهمة مهما كانت خطورتها، والصورة المثيرة للتساؤل تتعلق بوجوده داخل المعبد اليهودي في القاهرة، إذ ماذا يدعوه للذهاب إلى المعبد، فهذا الأمر لا يستقيم مع كونه يسعى لاعتناق الإسلام كما قال، أو أنه داعية مسلم كما أشاع عن نفسه عندما ذهب للأزهر، أو بعض المساجد، أو خلال لقائه بإسلاميين، أو كما كتب على صفحته على "فيسبوك"؟. من ضمن ما نشر حول أهداف هذا الجاسوس هو جمع معلومات عن مصر وقواها السياسية وأحزابها واتجاهات الرأي العام فيها بشأن مختلف القضايا المثارة ومنها مثلا النظرة لإيران وإسرائيل وإلى آخر ما نشرته الصحف تفصيلا في هذا الصدد، وهنا المنطق البسيط يقول إن مثل هذه المعلومات متاحة على الإنترنت وفي الصحف ومختلف وسائل الاتصال والمعلومات، فلم يعد هناك شيء سريّ اليوم، وأدق أسرار أمريكا يجري الكشف عنها يوما بيوم في موقع "ويكيليكس"، لكن ما لا يجب التغاضي عنه - بافتراض أن "تشايم" جاسوس- انه من المهم للموساد، أو أي جهاز استخباري آخر يسعى لاختراق مصر، أن يجمع معلومات من أرض الواقع، معلومات محددة، مدققة، نابعة من أفواه الناس، يمكن الاطمئنان لها والبناء عليها في رسم السياسات والمواقف والتحركات بشأن مصر من جانب إسرائيل تحديدا لأنها أكثر المتضررين من سقوط مبارك ونظامه، وأكثر الخائفين من شكل النظام الجديد، واحتمالات التصعيد معها. صحيح أن الصحف تنشر، والانترنت والفضائيات تبث، لكنها قد تكون معلومات وتحليلات موجهة ومجتزأة وملونة أحيانا حسب موقف كل وسيلة إعلامية، وهذا قد يفسر سر وجود هذا الإسرائيلي في أي مكان له علاقة بالثورة ومفاعيلها ونشطائها وكذلك اندساسه بين المواطنين العاديين ليحصل من أفواههم على آراء تقود إلى استنتاجات حاسمة محددة واضحة حول اتجاهات المصريين ومؤسساتهم خلال المرحلة الانتقالية، وكيف يخططون لترتيب البيت، ورسم العلاقات بالخارج. ومن هنا نفهم لماذا كان حرصه على الجلوس مع كل الفئات والمستويات من المصريين، وهذا واضح من صوره مع كل من كان يلتقيهم في الأماكن التي ذهب إليها في مصر. إذا كان يصعب تفهم أن ينجح هذا الشخص في الوقيعة بين الجيش والشعب، أو تخريب العلاقة بينهما، باعتبار ذلك خيالا واسعا، أو هي مهمة غير عادية، وإذا كانت قد حدثت بعض الأزمات العابرة بين شباب الثورة وبين المجلس العسكري، وقد استمعنا إلى وجهات النظر من الطرفين عبر الإعلام، وقد يكون حدث توتر أو سوء فهم أحيانا، لكن باعتبار أن الشباب لديهم وعي كبير فيصعب على أي شخص أن يجرهم إلى الوقيعة مع الجيش، لكن الذي نتفهمه ولا يجب استبعاده أن شخصا مثل "تشايم" يمكن أن ينحصر دوره في التحريض على الجيش خلال وجوده بين الشباب، أن يدس السم في العسل ليوغر الصدور على المؤسسة العسكرية مستفيدا من كونه أجنبيا جاء خصيصا من بلاده لدعم الثوار، وهذا يضاعف من قبوله بينهم والإنصات لادعاءاته باعتباره ليس صاحب مصلحة مع هذا الطرف أو ذاك إنما مصلحته نجاح الثورة، بالمناسبة هناك مصريون من شباب الثورة ومن الكتاب والمحللين والنشطاء والمثقفين يفعلون ربما أكثر مما فعله "تشايم" في التحريض والدس، ولولا حكمة المجلس العسكري والمسارعة إلى التوضيح والانفتاح وسعة الصدر لحصلت صدامات. أما في موضوع الفتنة الطائفية بالتحديد، فهي تبدو ملعبا جيدا لهذا الإسرائيلي ولغيره لممارسة التحريض بشكل خفي أو علني لإشعال نيرانها. والسيناريو البسيط هنا لأدائه خلال تواجده بالمناطق المشتعلة انه عندما يتواجد بين مسلمين أو مسيحيين غاضبين فإنه يزايد على كل طرف فيهم في الغضب وإثارة التوتر والفرقة وبث الفتنة، وفي لحظة الغضب والانفعال يغيب العقل حيث لا وقت للانتباه إلى المحرضين وأصحاب الأهداف الخبيثة. ومن حسن حظ هذا الشخص أنه في ملف الفتنة وجد أرضا خصبة ومجالا للنشاط المدمر لأن بين الطرفين - المسلم والمسيحي - من هم جاهزون للدخول في مواجهات دامية حتى بدون تحريض من جاسوس إسرائيلي. هذا الجاسوس المشتبه به لغز يحتاج إلى مزيد من فك أسرار جرأته، أو تهوره، أو غبائه، أو ذكائه، وجهاز الأمن الذي رصده وتعقبه وأعلن عن قضيته لابد أن يكون لديه كل الإجابات والحلول للألغاز، فلا يمكن أن يجازف بتاريخه الناصع في قضية غير محكمة. والرسالة المطمئنة هنا هي أن جهاز الأمن يقظ ونشط وعيونه مفتوحة باتساع، وهذه الفترة القلقة في تاريخ الوطن تحتاج منه إلى المزيد من الجهد، وهو يحتاج منا إلى المزيد من الدعم والتقدير.