قبل نحو 60 عاماً انطلق في مصر بعد ثورة 23 يوليو مشروع تنموي إنتاجي مستقل وطموح، ارتكز على التصنيع المدني والعسكري بوصفه شرط التنمية الأول في أي دولة “عالم ثالثية”. مشروع واعٍ ربط السياسي بالاقتصادي الاجتماعي من شروط التنمية في دولة أرادها مشروع الاستعمار الغربي مجرد مُصَدِّرِ للقطن، تماماً كما أراد البرازيل، (مثلاً)، مجرد مُصَدِّرٍ للبن . هنا يكمن سر نجاحات مشروع ثورة 23 يوليو التي ينكرها التائهون والجاحدون والحاقدون، ومنهم سلطة “الإخوان” المسلمين التي أطاحتها الموجة الثانية لثورة 25 يناير الشعبية . الثورة التي كان، ولا يزال، بين أهم أسبابها الغضب السياسي والشعبي الناجم عن مفارقة سؤال: أين كانت التنمية المصرية في محطة حكم زعيمها الراحل عبد الناصر، وأين أصبحت؟ فتجربة التنمية في مصر تخلفت في التحليل الأخير عن تجارب دول “عالم ثالثية” أطلقت مشاريع تنمية من شروط مشابهة وفي الزمن ذاته، بينها الهند والصين وكوريا الجنوبية وإندونيسيا، (مثلاً) . وهو ما أوصل النقد السياسي والشعبي لتخلف التنمية في مصر إلى درجة ثورة كثف صوتها الكاتب الناصري، عبد الحليم قنديل بالقول: “كنا رأساً برأس مع كوريا الجنوبية وأصبحنا ذيلاً بذيل مع بوركينا فاسو” . يحيل النقد السياسي والشعبي الثوري المصري، بكل ما فيه من مرارة، وربما مبالغة لا تقصد الإساءة، إلى طبيعة وحجم ونوعية التحديات الداخلية والخارجية المطلوب مواجهتها لاستعادة وتجديد مشروع ثورة 23 يوليو للتنمية في مصر . وهي التحديات التي لم يكن بمقدور، بل ولا في وارد، سلطة “الإخوان” مواجهتها بعد ثورة 25 يناير التي تشكل بموجتيها امتداداً لثورة 23 يوليو، وتجديداً لروحها، ورداً على 60 عاماً من العداء “الغربي” لها، وعلى 40 عاماً من الانقلاب الداخلي عليها . ما يعني أن تخلف تجربة التنمية في مصر لم تكن نتيجة محتومة . إذ لنا أن نتخيل حال مصر اليوم لو استمر تراكم المال والخبرة كما أرادها عبد الناصر، وكما يؤهلها توافر كم بشري هائل، وجامعات مشهود لها، ومعاهد تطبيقية يستطيع خريجوها تحويل العلم النظري إلى تكنولوجيا في المجالات كافة . يعيد الكاتب المصري صلاح عيسى السبب السياسي الأساسي لتخلف التنمية في مصر إلى ما يسميه إشكالية “الطرد خارج الحلبة”، أي إشكالية التعامل مع التاريخ الحديث للتنمية في مصر كمجرد عهود لرؤساء يطمس كل منهم تجربة من سبقه، وليس كمحطات تاريخية في صيرورة واحدة . وفي ظني أن هذا هو صوت الشعب المصري المطالب بأن يجدد نظام ما بعد ثورة 25 يناير المشروع التنموي لثورة 23 يوليو ويطوره بما يتلاءم مع تغيرات الظروف واختلاف الشروط الداخلية والخارجية . ولعل كل مطالعة خارج هذه الرؤية الموضوعية للتنمية في مصر بعد ثورة 25 يناير، إن هي إما تائهة أو صدى لصوت يصدر من وراء البحار، ومن واشنطن بالذات . أما لماذا؟ ما دام ثمة “غرب” يستميت لإبقاء مصر خاضعة لنظام نهب وسيطرة معولم تقوده الولاياتالمتحدة، فإنه لن يكون بمقدور أية سلطة مصرية أن تنفذ مشروعاً تنموياً انتاجياً ومستقلاً إلا إذا توافرت لديها الإرادة السياسية على تجديد مواجهة التحديات الداخلية والخارجية ذاتها التي واجهتها سلطة ما بعد ثورة 23 يوليو . وهذا هو ما يعطي المعنى السياسي الاستراتيجي لإعلان الرئيس المصري المؤقت، المستشار عدلي منصور، في الذكرى ال40 لنصر أكتوبر المجيد، عن انطلاق مشروعين للتنمية، هما: مشروع إنشاء محطات لإنتاج الطاقة النووية للاستخدامات السلمية، ومشروع تنمية منطقة قناة السويس . يدور الحديث هنا عن مشروعين عملاقين يعدّان، إن تحققا، خطوة كبيرة في مسيرة طويلة تحتاجها مصر للحاق بدول اطلقت مثلها قبل ستة عقود مشاريع للتنمية الوطنية المستقلة التي تعاديها قوى النهب والسيطرة والتقسيم الغربية . فمشروع محمد علي التنموي الحداثي تم ترسيم اجهاضه في اتفاقية لندن ،1840 بعد هزيمته بالقوة العسكرية على يد تحالف دول الاستعمار الغربي وروسيا القيصرية مع الإمبراطورية العثمانية “المريضة” . وهو ما أعاد مصر إلى دواليب تقسيم العمل الدولي الاستعماري القديم الذي كان حشرها في دور البلد المصدِّر للقطن . ومشروع ثورة 23 يوليو بقيادة الراحل عبد الناصر تم ترسيم الارتداد عليه في معاهدة كامب ديفيد 1979 بشروطها السياسية والأمنية المذلة والمجحفة رغم النصر العسكري في حرب أكتوبر 1973 . وكانت النتيجة 40 عاماً من التراجع عما أرسته ثورة 23 يوليو من نظام سياسي اجتماعي أعاد توزيع الدخل لمصلحة الطبقات الشعبية والوسطى، وانتهج سياسة اقتصادية انتاجية ركزت على التصنيع المدني والعسكري، باعتبار ذلك السبيل الوحيد لتجنيب مصر عواقب الاندراج في دواليب نظام الليبرالية الجديدة المتوحش الذي فتك بمنظومتها الانتاجية وفكك قطاعها العام، وأدخلها في نظام مبني بشكل مطلق على ربحية الشركات العامل جلها مقاولاً من الباطن للاحتكارات الغربية المسيطر عليها أمريكياً . مع كل ما صاحب ذلك من استبداد وفساد و”تجريف مجتمعي سياسي ومدني” وارتفاع مذهل فى مستويات البطالة واللامساواة . وفي ظني أن هذا هو ما يؤسس لتصحيح خطاياه المشروعان اللذان أعلن عن إطلاقهما الرئيس المصري المؤقت . فالمشروع الأول، (النووي السلمي)، إن تحقق، يستطيع، (فيما يستطيع)، أن ينتج لمصر كهرباء رخيصة تحل محل ما تنتجه طوربينات السد العالي، وأن يعوضها عما يوشك أن ينضب من مصادر طاقتها النفطية المكتشفة .أما المشروع الثاني، (تنمية منطقة قناة السويس)، فإن من شأن تنفيذه أن يجعل هذه المنطقة منطقة مشاريع اقتصادية كبرى تستوعب أعداداً هائلة من العاطلين عن العمل، وتجتذب إلى غرب القناة، (مدنها الثلاث)، وشرقها، (سيناء)، مزيداً من السكان، بل وتفتح الباب على إنشاء مدن جديدة بما يخفف ضغط الاكتظاظ السكاني في القاهرة والاسكندرية، وعلى إنشاء موانئ إضافية وشركات أخرى لخدمات النقل البحري، وعلى جعل سيناء مأهولة بدل أن تبقى مجرد أرض شاسعة يقطنها فقط نحو نصف مليون نسمة محرومين من حقهم في رعاية الدولة وخدماتها، ويشكلون خاصرة رخوة للأمن القومي المصري . على أي حال، ليس بوسع أحد أن يجادل في الأهمية الاستراتيجية لامتلاك مصر الطاقة النووية . أما الأهمية الاستراتيجية لتنمية منطقة قناة السويس فجلية في ما ستفضي إليه من استغلال لموارد مهدورة في الصحراء وحول النيل وفي الساحل الشمالي، وربما في ما سيتم اكتشافه من الطاقة الكامنة كالنفط والمعادن الثمينة . وفي كل ذلك ما يسهم بقوة في تحويل التنمية في مصر من تنمية خدمية وسياحية استهلاكية تابعة إلى تنمية منتجة مستقلة عنوانها الأول التصنيع المدني والعسكري . فمصر ليست مجرد أهرامات ومعابد ومراكز للسياحة، (على أهمية ذلك)، بل لديها أيضاً من الموارد غير المستغلة ما يكفي لبناء اقتصاد دولة حديثة ناهضة منتجة ومستقلة وسيدة وقوية وقائدة لأمتها، ولاعب محوري نافذ وفاعل في محيطها الإقليمي . كيف لا؟ ألم يكن هذا هو حالها في مرحلة ما بعد ثورة 23 يوليو المجيدة التي تشكل ثورة 25 يناير بموجتيها امتداداً لها، وإحياء لروحها، وتجديداً لمضمونها؟ نقلا عن صحيفة الخليج