مما لا شك فيه أن مصر تمر الآن بمأزق تاريخي في غاية الخطورة، انفتحت جميع الأبواق التي كانت القنوات المشروعة للتعبير عن آرائها من خلالها مغلقة أمامها لعقود طويلة، فبعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير التاريخية البيضاء السلمية، شاهدنا ولانزال نعيش يومياً مشاهد اختلط فيها الحابل بالنابل، وبدأ اللغط الاجتماعي يطل برأسه، وشعر الناس بعدم الاستقرار وساد القلق، وساور كل منا الشك في بلوغنا بر الأمان، وخيمت سحابة من الكآبة والتشاؤم علي الحياة وعلي المشهد السياسي، بعد أن أشرفت شمس الحرية لوهلة، وتطلع الجميع إلي السعي نحو مستقبل أفضل وحياة كريمة قوامها العمل الجاد والعدالة الاجتماعية وحرية الرأي واحترام الإنسان لأخيه والقضاء علي منظومة الفساد التي أضاعت كرامتنا وتفعيل القانون ومنظومة القيم التي تقدمت بها الشعوب الأخري وقامت الثورة من أجلها، فتصاعدت ألسنة اللهب إلي عنان السماء، معلنة تارة ضياع الأمن الاجتماعي والاقتصادي، وتناحرت الآراء حول شكل وكيفية الدولة المستقبلية تارة أخري، وانتشرت الفتن وانطلقت شرارة الحرب الأهلية علي خلفية الصراع الديني وتكفير الآخر، فتوقف التصفيق العالمي للأهداف النبيلة التي قامت من أجلها الثورة المصرية، وتجمعت حولها جميع القوي الشعبية الممثلة لجميع التيارات الفكرية والدينية والشرائح الاجتماعية، وتبدد المشهد إلي مخاوف وإلي مطامع، بل وإلي ثرثرة إعلامية، ونسينا أبسط المبادئ التي أمرنا بها القرآن الكريم في مثل هذه المواقف من أجل سد باب التصدع والاختلاف والتفرق والتشيع ووأد الفتن في قوله تعالي: »وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين«. والواقع أنه يبدو للمتأمل أننا تحررنا من الطاغوت المتمثل فيمن حكمونا بالأمس بقبضة من حديد، لكننا لم نتحرر بعد من طاغوت أشد وأعتي بداخل كل منا، فهو ضارب بأوصاله وجذوره في تاريخنا، وجاثم علي صدورنا وعقولنا وأفكارنا، ولم ننفك في التخلص منه حتي نقع في حباله المرة تلو الأخري، فنعاود كرتنا في التأخر عن ركب التقدم وبناء الوطن والأمة، نسينا الهدف الأسمي الذي من أجله أريقت دماء شهداء خيرة شباب مصر، وشرعنا بدلاً من ذلك في التناحر حول مفاهيم ومسميات الأشياء ولا يعنينا مضامينها، فقط لأنها ليست في قاموس التاريخ الإسلامي، فهل الديمقراطية من الإسلام في شيء؟! إن القرآن لم يذكر سوي »الشوري«!! وأليس إرساء قواعد الدولة المدنية يتنافي مع مفهوم »الدولة الإسلامية«؟! وهل من شك وهنا نذكر ونأخذ بمبدأ »الديمقراطية« لأن النتائج في صالح الوصول إلي الهدف!، في أننا »أغلبية« مسلمة يتحتم علي »الأقلية« المسيحية أن تنصاع لرأيها وفقاً لما يطالبون به من »ديمقراطية«؟! وهل يصح أن يحكم »مسيحي« وهو من الأقلية دولة أغلبها مسلمون؟! وهل يصلح أن نأخذ العلم عن الغرب المسيحي بل ونصفه بالكافر! لنصل إلي ما وصلوا إليه من إباحية في الزواج المثلي وشرب الخمر وتقبيل النساء في الشوارع والمعاملات البنكية الربوية؟! أليست الديمقراطية والدولة المدنية هي التي أوصلتهم إلي كل ذلك؟! إلي غير ذلك من الأسانيد والمجادلات التي تقنع الجمع الغفير من البسطاءالذين يحبون الله ويخافونه عن حق، ولكنهم لم يتلقوا بكل أسف حظهم من التعليم والعلم وعملت مدرسة الحكم الشمولي علي تسريبهم من التعليم عن عمد ليكونوا أداة لهم في إحداث الفوضي بالمجتمع وحرق الوطن عند سقوطهم، وهو ما نعيشه الآن، ضللنا الهدف المنشود، ووجدت الفئات التي تربت في حظيرة الفكر الديني المنغلق والمتشدد والوهابي الفرصة سانحة أمامهم، وعدم وجود قانون ينظم التعامل الديني بالدولة ويطبق بصرامة علي الجميع، للانقضاض علي جسد الدولة المتهالك وتحقيق المآرب وكسب أرضية شعبية باسم الدين للوصول إلي كرسي مجلس الشعب المقبل، وبالتالي إلي فرض الرأي بالأغلبية البرلمانية، ونسينا أو تناسينا أننا في الأصل في مركب واحد مسلم ومسيحي وتجاهلنا حجم المأساة والمصيبة التي أوصلنا إليها الحكم الشمولي وأننا أمام كارثة حقيقية، وهي أننا في دولة هشة ومستنزفة ومسروقة ومنهوبة، ولا سبيل لنا في الخروج من المأزق والمنحني الاقتصادي الخطر والذي يعمل الشرفاء ليل نهار في صمت ودأب وسعي هنا وهناك علي بذل قصاري جهدهم للخروج منهم، إلا بالعمل الجاد وبناء القواعد والأسس لإعادة الروح في جسد ميت. نسينا أن بناء وإصلاح المجتمع وإعادة التعمير والتقدم الصناعي والزراعي والقضاء علي البطالة المتفشية بين الشباب وتوقف حركة الاقتصاد لن يتأتي إلا بنبذ الفرقة والأحقاد والضغائن والصراع الديني والتكفير والشعارات الدينية المضللة والوهمية، بل بتحكيم العقل والأخذ بأسباب العلم والتكنولوجيا والإسراع إلي إصلاح التعليم والانفتاح علي الفكر العالمي بلا خوف وفتح الآفاق أمام تحقيق مناخ من التحاور السلمي وحرية التعبير عن كل فكر دون فرض إرادة علي أخري، وبكل أسف اعتقد البعض أن حل ما يواجهنا يومياً من كوارث تستند إلي التعصب والجهل بروح الدين الصحيح لا يتأتي إلا بإرسال بعثة من رجال الدين هنا وهناك وعقد المجالس العرفية، دون أدني تفعيل سريع لقانون يحمي الوطن من انفراط عقده، ودخولنا في متاهة لا يحمد عقباها ولا نتمني أن نقع في شركها لصالح أعدائنا الحقيقيين الذين ينتظرون تلك اللحظة حتي ينفذوا مخططاتهم الدنيئة، فإذا انفرط العقد في مصر لا قدر الله ووضعنا مفتاح الكرار (التطاحن الديني) علي طبق من ذهب لأعداء الوطن، فقد بلغوا المراد من مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي وضع خيوطه وأبعاده بدهاء شديد ودراسة متقنة لتاريخ الوطن العربي والإسلامي المستشرق اليهودي برنارد لويس لصالح الدولة الصهيونية في الشرق الأوسط والأدني، والذي بدأ بوش بالفعل في تنفيذه بالعراق وأفغانستان والسودان، والبقية تأتي ما لم ننتبه ونفوق من تعصبنا وغفلتنا، ولن ينفعنا الندم بعد ذلك. استحضرت في هذا السياق صور وتجارب الغرب المماثلة لهذا المأزق الذي نعيشه، مع اختلاف المسميات، وكيف استطاع أن يتغلب عليها ويصل إلي ما وصل إليه من تقدم في العلم وبناء دولة علي أسس متينة، تذكرت منها الحرب الدينية الضروس التي اندلعت بين الكاثوليك والبروتستانت، واستمرت في أوروبا كلها ثلاثين عاماً دون أن تتغلب كفة أحد الجانبين علي الآخر (1648 1618)، ولم تنطفئ نيران الحرب إلا بتحكيم العقل والحكمة وتفعيل قانون حرية العقيدة، ولكن بعد أن التهمت ملايين من البشر من الجانبين، كما تذكرت الدولة الهتلرية وما آلت إليه ألمانيا من خراب ودمار من جراء الحرب العالمية الثانية، وخروجها صفر اليدين، لا تملك شيئاً علي الإطلاق سوي من كتب له البقاء قيد الحياة، ولم يخرجها من مصيبتها إلا عزيمة هؤلاء الناجين من الموت في بناء دولة جديدة، وهي دولة لا تعتمد الحياة العسكرية التي تقوم علي الأمر والطاعة، بل الحياة المدنية والقانون والحرية أساساً لها، ومن هنا جاء التسمية »الدولة المدنية«، التي تقوم دعائمها أولاً علي حقوق أساسية لا خلاف عليها من جميع البشر والأديان السماوية والوضعية، لذلك نصوا عليها بداية في القانون الأساسي في مرحلة ما بعد الحرب ثم أدخلت بعد ذلك كأحد البنود الأساسية في الدستور المعمول به حتي الآن، ومنها علي الأخص: حرية العقيدة والضمير والرأي والتجمع والانتقال، وحق العمل والملكية الخاصة، والمساواة بين الرجل والمرأة، وكرامة الإنسان والمساواة أمام القانون وخدمة الدولة للشعب ومحاكمة الشعب للحاكم.. وهذه المبادئ هي نواة الدولة الديمقراطية أو المدنية، فهل هناك خلاف عليها فيما بيننا، وهل هي ضد مبادئ الأديان، كما يدعي البعض، وهل لنا أن نبحث عن الصالح العام لبناء دولتنا الحديثة وننحي التصورات الوهمية والأطماع جانباً، أم لابد أن نمر بتجربة حرق الوطن أولاً لكي نعود إلي رشدنا؟ وأخيراً علينا أن نركز في بناء مستقبلنا ونتخلي عن كل فكرة هوجاء تنأي بنا عن هذا الهدف، لنقل جميعاً: مصر أولاً فوق الجميع وقبل كل شيء!