هناك ما يشبه الاتفاق العام على أن التعريف المباشر للأمن القومي هو القدرة على توفير موجبات الحياة للبشر فوق الأرض، وبقدر بساطة التعريف ومباشرته، إلا أنه تعريف شامل لكل ضرورات الحياة والبقاء والتنمية. تحديات الوجود والبقاء لا تواجه بسلوك الهواة، ولا تفسح للمفاجآت احتمال وجود، وتضع سيناريوهات التعامل مع كافة الاحتمالات مهما كانت غرابتها أو بعدها عن الحدوث. تحديات الوجود والبقاء هي جدول أعمال على مدار الساعة، وفوق كل الأرض، وفي مواجهة كل الدول، صديقة كانت أو معادية. وأيا كانت السلطة الحاكمة في الوطن، فالسلطة تملك القرار، وأول شروط مشروعيته ألا يتعارض هذا القرار على أي نحو مع ضرورات وجود الأمة وبقائها ونموها. والقرار دون معلومات هو إبحار بلا بوصلة في بحر تتلاطم فيه أمواج المصالح، تعصف بمن لا يستطيع ترويضها والتعامل معها، وإذا كان القرار يحتاج إلى معلومات، فهو يحتاج أيضاً إلى إمكانات، وخطط لكافة التحديات، وخطط بديلة، ويحتاج إلى العلم والمعرفة، ويحتاج إلى دراسة المتغيرات في البيئة محل التعامل بكافة أطرافها. وقد تتنازع الأمم داخلها صراعا على رؤى واجتهادات بشأن كيفية تحقيق أفضل صور الوجود، ولا تتنازع على كيفية أفضل صور الفناء، وإن انقسمت الأمم داخلها على هذا الأساس، فهي سرعان ما تتوحد بغريزة الدفاع عن الوجود إن تمثل أمامها خطر خارجي يهدد هذا الوجود أو ينال منه. النيل لمصر هو شريان الحياة، وكما يصف البعض صورة مصر الفضائية، أنها صحراء صفراء يخترقها طوليا شريط أخضر على ضفتي النهر، وهو فوق هذا مدرسة لمهندسين وخبراء في شؤون النيل من المنابع حتى المصب، وارتبطت فترات البناء في مصر بإجراءات ترويض النهر، من شبكة الري والقناطر الخيرية حتى بناء السد العالي، وهو شريان الارتباط بدول حوض النيل (إحدى عشرة دولة: مصر والسودان وجنوب السودان وإثيوبيا وإريتريا وتنزانيا وكينيا وأوعندا والكونغو الديمقراطي ورواندا وبوروندي، ويحيا بها 450 مليون نسمة)، وهو أيضاً نقطة النزاع الهادئ طوال الفترة الماضية حول اتفاقات توزيع الحصص، وليدخل مشروع سد النهضة الإثيوبي ليزيد من سخونة النزاع، الذي بدا وكأن دول الحوض بقيادة إثيوبيا تريد أن تضع شروطا جديدة للتعامل قد تكون متجاوزة فيها العقود الدولية والتي استقرت أن الدول المشتركة في نهر واحد لا يجوز لأي منها أن تتخذ إجراء يضر بباقي الدول. اتخذت إثيوبيا قرارا بتحويل مجرى النيل الأزرق (مصدر 85% من مياه النيل الواصلة إلى مصر والسودان بجزأيه) لبدء الأعمال الإنشائية لسد النهضة على النيل الأزرق. وترتبت على هذا القرار حالة من التوتر الإعلامي في مصر، خاصة وأن القرار جاء بعد مغادرة الرئيس المصري المنتخب للعاصمة الإثيوبية أديس أبابا بأربع وعشرين ساعة، وتردد بين الإعلاميين تعبير "القرار المفاجئ" لإثيوبيا بتحويل النهر، وكان تعبير "القرار المفاجئ" دلالة غياب وليس تعبيرا دقيقا يصف الحدث. النيل مصدر الوجود والبقاء لمصر، وبالتالي فهو أهم قضايا الأمن القومي المصري، ومتابعة حالة النهر أو المشروعات التي تتم عليه، ليست محل نقاش لدى أجهزة ومؤسسات مصرية محترفة، هذه مهمتها، تؤديها كقضية حياة باحتراف تكوينها، خاصة وأنها لم تأت إلى مهامها بالصندوق، وتدرك أن المواجهة بشأن مياه النيل ليست مع دول الحوض، ولكنها أعمق من هذا بكثير، هي مواجهة مع مصدر الخطر الرئيسي على مصر، مواجهة مع إسرائيل. ازدهرت العلاقة بين مصر وإفريقيا فترة كفاح الدول الإفريقية للحصول على استقلالها من المستعمر القديم، ومثل جمال عبد الناصر رمزا للتحرر الإفريقي وأنشئت منظمة الوحدة الإفريقية لتجمع الدول المحررة في كيان قاري واحد، وكانت حركة عدم الانحياز إطارا آخر يجمعهم عالميا، ومع الانتقال من حالة السعي للاستقلال الوطني إلى بناء الدولة، كانت هناك شركة النصر للتصدير والاستيراد، ولعبت دورا في بناء العلاقات، ومواجهة المحاولات الإسرائيلية لاختراق القارة الإفريقية. وشهدت مرحلة حكم السادات انتقال مصر من دولة قائدة للتحرر الإفريقي وداعمة له، إلى شريك في "نادي السفاري" المخابراتي مع إيران الشاه وفرنسا والمغرب، ولتتحمل مصر جريرة أعمال عسكرية تمت في القارة ضد حكوماتها، ويتزايد الوجود الإسرائيلي ويتعاظم في حوض النيل، ويظهر هذا في وقائع تهجير اليهود الفلاشا من إثيوبيا بتعاون من نظام النميري في السودان، ويزداد الوجود الإسرائيلي في جنوب السودان، ويصل إلى الانفصال عن الشمال، وتخترق إسرائيل دارفور وتصبح تسيبي ليفني فترة رئاستها للوزراء وتوليها الخارجية الإسرائيلية المدافع الأول عن "حقوق الإنسان" في دارفور. غابت مصر، وملأت إسرائيل الفراغ في إفريقيا، واختلطت الأوراق وزادت ضبابية الرؤية المصرية، هل هي حرب المياه مع دول حوض النيل، أم هي مواجهة مع إسرائيل التي تسعى إلى حصار مصر، وتتقدم بهدوء في كافة الاتجاهات، بينما ترى مصر أن الخصومة مع الحكومات الإفريقية، وليس مع العدو الرئيسي، إسرائيل. نشرت جيروزاليم بوست مقالا كتبه "مارتن شيرمان" مؤسس والمدير التنفيذي لمعهد إسرائيل للدراسات الإستراتيجية، في 7 فبراير 2013 وضع له عنوانا حادا "الدخول إلى النزاع: مصر دولة محكوم عليها بالفشل"، وقارن فيها بين مصر التي خسرت ثلثي احتياطياتها من العملة الحرة خلال العامين الماضيين، بينما إثيوبيا ينمو دخلها القومي بمعدل 10.6% سنويا خلال الفترة من 2004 إلى 2011، وأشار إلى أن كينيا أيضا تمضي في ذات الطريق نحو إعادة توظيف المياه في الزراعة بديلا عن استيراد الإنتاج الزراعي من مصر. ويشير إلى أن مصر ستواجه ثالثا احتمالات غرق دلتا النيل وستكون مطالبة بإيواء سكان الدلتا خارجها! ويشير إلى أن لمصر بالسودان على الحدود الإثيوبية مطارا للاستخدام العسكري، رغم نفي المصريين لذلك، خاصة وأن الرئيس السادات كان قد هدد بأعمال تصل إلى الحرب إن تم المساس بحق مصر في المياه. ولم يذكر الكاتب طبيعة الوجود العسكري في إثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان. من غير المتصور أن تصل إسرائيل إلى هذه المرحلة من توجيه إثيوبيا وتدع ما تحقق عرضة للتعامل العسكري دون القدرة على الدفاع عما يتحقق، ومن غير المستبعد أن تبادر إسرائيل إن صح تقدير الكاتب الإسرائيلي عن وجود مطار للاستخدام العسكري المصري بالسودان على الحدود الإثيوبية، أن تبادر هي بعمل عسكري ضده، خاصة وأن اللواء ممدوح قطب وكيل جهاز المخابرات المصري السابق أشار إلى أن إسرائيل ضربت الحفار المصري الذي كان يعمل في قناة جونجلي بجنوب السودان. ولينهي المقال بتساؤل حول الموقف المصري من المسألة الفلسطينية! المشهد أن دول حوض النيل مستهدفة من إسرائيل، وأن الغاية هي حصار مصر، ويصبح الخطأ تصور أن الخصومة المباشرة مع دول الحوض، لأن المياه القادمة من أعالي النيل لا يمكن أن تكون مختلطة بدماء الشعوب، فمن يشرب من بئر لا يسممها. المواجهة مع إسرائيل قادمة لا محالة، كان السبب المياه، أو بسبب آبار الغاز في المياه الاقتصادية المصرية، أو بسبب سيناء، وقد يتسبب الخلل في ميزان القوى في إزكاء روح المغامرة الإسرائيلية وتهدر المدافع بإرادة إسرائيل وحدها. إن توازن القوى بين الأطراف يبدأ من توازن الإرادات السياسية، ماذا يريد كل طرف وما هي مصالحه، إن كان النظام السابق أهدر 30 عاما من تاريخ هذا الوطن، فإن نظام الهواة الحالي يهدر المستقبل، لا يدفع إلى حرب أهلية، فلم يعد يحتاجها، بل هو يفكك الدولة لأوهام في رأس خربة، ولكن هناك رجال في مصر يدركون معنى القرار السياسي، وضرورة التوازن في مواجهة الصلف الإسرائيلي ومن يدعمه، وأن المواجهة ليست فقط مستمرة ولكن المتوقع لها أن تتصاعد، ويجب في تلك اللحظة أن يعبر عن مصر رجال يعلمون قدرها وتاريخها وحق شعبها في الوجود، يدركون معنى الأمن القومي، وأنه لا بديل عن تحمل مسؤولياته، فمصر ليست جمعية دفن موتى، سنجد للجثمان قبرا، فأرض الله واسعة، ولكن مصر تاريخ وجغرافيا وشعب ومصالح ومستقبل، وأن مواجهة الاختراق الإسرائيلي واختراق بواسطة الجماعات الإرهابية لمصر هي المهمة الأولى، وتوفير الإرادة السياسية لهذه المواجهة هي قضية الوجود الأولى. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية