الآن أشعر أن قلبي منشطر جزأين، واحد هنا حيث اللهاث على الحياة وقنص الفرص، وآخر موصول المدد بذكرى بشر كالملائك. في طريقي إلى قريتي التي أكلها العمران وهربت منها الأشجار مذعورة بعد زحف كل هذه المباني الأسمنتية التي تركت بصماتها حتى على الوجوه ...هذه المرة بالذات أنا محظوظ لأني بعدما أشرت إلى سيارة الأجرة التي تخترق الريح إلى المنصورة وقفت السيارة لأركب وحدي في المقدمة على هذا الكرسي الوثير متأملاً كل هذه المساحات الخضراء الشاسعة فأشعر أنها هي التي تجري وأن السيارة ومن فيها ساكنون بلا حراك. يغيب الآن قرص الشمس في شفق أحمر حزين يغوص رويدا رويدا حتى تبتلعه الأرض على مرمى حجر من الأفق المرئي، ولا أدري لم أصاب بكل هذا الهم والحزن من رؤيته، وقد اعتدت هذا منذ كنت طفلاً. أمامنا جرار زراعي يحمل أسياخ حديد قد تدلى نصفها على الإسفلت ولا أدري أيهما يئن من الآخر: الإسفلت أم الحديد...لا شيء يهم، فلغة الاحتكاك والتعارف في مصر هي الأنين، والجامع المشترك هو الألم. الآن تجتر ذاكرتي مشاهد جميلة من طفولتي التي لم تكن جميلة. هنا في هذه اللحظة أتذكر أنطون تشيخوف وهو يقول: في طفولتي لم تكن لي طفولة. هناك حيث كنت لبعض الوقت ألهو وأمرح وأجري وألعب وأصاحب كل شيء وأهمس في أذن كل زهرة في هذه المساحات الشاسعة من الخضرة والترع والشوارع الواسعة. هذه الشجرة تميل على ذاك البيت وكأنما تخطف قبلة من جبينه، وتلك الزهرة تميل إلى الأرض كأنما تناجيها وتبثها أشواقها. كل شيء هنا جميل. كل شيء هنا صريح وصادق. هذه هي الطبيعة وكفى. كنا أطفالاً مرحى لا يفت الفقر في عضدنا ولا الحرمان. بل حتى لم يستطع البرد القارص قتلنا وقد أكل صماما من صمامات القلب لواحد من رفاقي بعدما داهمته الحمى الروماتيزمية. لم تستطع البلهارسيا قتلنا وكنت أبول دما لأن إرادة الحياة أقوى، ولأن بقية من بقايا المعروف كانت ما تزال ساكنة في قلب الأخصائية الاجتماعية التي كانت تتابع علاجنا في المدرسة. كنا نعمل في كل شيء للحصول على قروش زهيدة نعين بها آباءنا ونشتري منها الثياب الجديدة للمدرسة. لكن أكثر عمل جمع كل الأطفال في قريتي وما جاورها كان هو الفرقة بكسر الفاء. وهي المجموعات الكثيرة التي كانت تنقي نبات القطن من الدود والآفات، وكان في كل مجموعة اثنان يحكمانها: الخولي وهو الرئيس الكبير ومعه عود الخيزران الذي يلهب به ظهورنا ونحن ركع في قيظ الصيف، والفرار بتشديد الراء وهو المفتش وراءنا ويا ويله يا سواد ليله من يجد المفتش وراءه دودة قد نسيها على ورقة من أوراق القطن في صفه المسؤول عنه. ليس المهم الآن أن أفصل الحديث عن عدد المرات التي أكلت فيها تراب الأرض من الضرب حتى إن الخولي ذات مرة بعدما ضربني بيديه ورجليه وبجريد النخل رماني في الترعة!! الجمال يحوطنا ويقينا شر الحقد والحسد ولما كبرنا واصل الأسمنت زحفه على الخضرة والقلوب. في هذه الغرفة الضيقة وبينما يجري الأطفال الذين كبروا الآن حتى بلغوا الصف الأول الإعدادي هاهو كاتب المقال يجلس فرحاً مع أقرانه سعيدا أن وجد لنفسه مكانا في دروس الإنجليزية التي كان يعطيها الأستاذ محمد في بيته البعيد عند محطة السكك الحديدية. في أول يوم يبدأ التعارف بين الأستاذ والتلامذة، ويسأل المعلم السؤال المعتاد: اسمك إيه ووالدك بيشتغل إيه؟ الجميع يجيب بحماس وقوة إلا كاتب هذه السطور الذي يرتجف من السؤال الثاني فيقول اسمي: محمود حسن الفقي. يصر الأستاذ محمد: ماذا يعمل والدك؟ أخفض رأسي نحو الأرض محاولاً الهرب لكنه يصر فأرد عليه: والدي مريض. يشعر الأستاذ الآن بقدر ما سببه لي من ضيق وألم ويبدأ في أول دروس الإنجليزية مع الحروف الأبجدية: A, B, C, D....... بينما أغيب أنا في عالم لا نهائي أسأل نفسي فيه أسئلة محددة؟ ماذا تحمل لي الأيام وأنا الآن في وضع صعب، ولماذا أشعر أن الإنسان مُسير؟ يخرج الرفاق تباعا وأكون آخرهم فأجد يد الأستاذ تربت على كتفي بحنان ويقول لي: انتظر يا حبيبي. أنتظر فيقول لي: الآن اصعد معي إلى بيتي أستضيفك. يومها تأكدت أنه كما نقول في بلدنا ولد وفي فمه ملعقة ذهب لأنه من أثرياء القرية. شربت يومها عصيرا ما أحلاه وأكلت طعاما ما أشهاه وانتظرت خمس دقائق فخرج الأستاذ وزوجه ومعهما العديد من الأكياس والحقائب. سألني : ما هو عنوانك بالتفصيل. أخبرته. طلب مني العودة إلى منزلي وما هي إلا سويعات حتى فوجئت به في بيتي ومعه زوجه وفي يديهما حقائب كثيرة بها من الطعام والثياب ما لا عين رأت. أذكر كيف كان هذا الأستاذ يطعم أبي بنفسه وكيف أنه بعدها كان يزورنا بانتظام ويحضر لنا الطعام والمال وقد عرفت بعدما كبرت أنه من جماعة الإخوان المسلمين لكنه ما حدثني عنهم قط، ولا طلب مني مساندتهم أو الانضمام إليهم وربما لو عاش ما غضب من نقدي لهم. في كل هذه السنوات كان الرجل رفيقا لي دعما وتشجيعاً إلى أن التحقت بالجامعة وغابت عني أخباره. سألت عنه وعلمت أنه يعاني من فشل بالكبد وهرعت إليه من فوري أقبل يديه وأعرض عليه التبرع بفص من الكبد وبينما يصر على رفضه أصر أنا على التبرع. وبالفعل بدأت الفحص الطبي وظهرت النتيجة تعلن عن توافق في الأنسجة واستمر الفحص إلى أن قال الطبيب إني غير صالح للتبرع لدهون في كبدي. على كل حال لا يهمني إن كان الطبيب قد أشفق علي يومها سيما وأنه كان يعاملني كأب حنون ونصحني ألا أستمر في الأمر بعدما علم أنه لا يمت لي بصلة قرابة. الذي يهمني ألا يموت الرجل قبل أن أقول له: شكرا سيدي وأن أظل على الوفاء والدعاء له بالرحمات وألا تحل ذكراه إلا ويتعطر بها قلبي. مصر الآن على فراش المرض وجمع حاشد من أبنائها العاقين يتقاسمون التركة وليس بجانب السرير إلا الأوفياء فهل نكون منهم؟ [email protected]