يتحدث بحدود.. ويحكي بتحفظ.. ويطرح آراءه بهدوء. ويجيب عن التساؤلات بدقة. بين هندسة الفكر وهندسة القول يتحرك فؤاد أبو زغلة وزير الصناعة الاسبق يسابق الزمن ليقدم خبراته وتجاربه لمعشوقته الاولي الصناعة. هو اول وزير صناعة في عهد مبارك، وهو رجل اثقلته تجارب وخبرات السنين لتضفي علي كل كلمة من كلماته أردية من التقدير والاحترام وعندما حاورته »الوفد« بحثاً عن المعلومة والخبرة والرأي حول ماض مؤلم، وحاضر متقلب بين الفرح بالثورة والخوف علي مصر، ومستقبل غامض تكلم بصراحة وبدقة وتوازن. وقال ما سبق ان قاله في اوج النظام السابق بشأن تحفظاته علي الخصخصة وبيع القطاعات الرئيسية للدولة للأجانب والمتطفلين من رجال الاعمال. وحكي عن تجربته وقدم شهادته عن زمن حسني مبارك دون مزايدة او تبرؤ. سألت المهندس فؤاد أبو زغلة: كأول وزير صناعة في عهد مبارك 1981 1982.. كيف تقرأ تطور القطاع الصناعي في مصر خلال عهد بدا ابيض ثم تلون باللون الرمادي ومع السنوات اصبح ذلك العهد اسود قاتماً؟ قال: الصناعة تغيرت كثيراً منذ بداية عهد مبارك حتي الان.. لاشك انها توسعت وتنوعت، لكن المشكلة ان توجهات الدولة في هذا الملف مرت بعدة مراحل. فعندما كنت وزيراً كانت الصناعة تستهدف بالاساس توفير الحد الادني للحياة للمواطنين من مسكن وملبس ومطعم لذلك فقد أنشأنا شركات اسمنت وحديد وسكر وغزل ونسيج، وكانت هناك خطط خاصة بالصناعة. وبالطبع فقد تغير الوضع شيئاً فشيئاً وتراجعت الخطط وتم بيع الكيانات الاستراتيجية لرجال الاعمال والاجانب، واصبحت الصناعة اكبر، لكنها لم تعد تستهدف الطبقة الكادحة. الوفد: كيف كانت الدولة تستهدف محدودي الدخل من خلا لقطاع الصناعة؟ اتذكر عندما توليت الوزارة مطلع عام 1982 اننا درسنا اهم السلع التي كان يتم استيرادها من الخارج، ونضع خططاً لتلبيتها محلياً لتخفيف الطلب علي العملة الصعبة. وكانت مصر تستورد كميات كبيرة من الاسمنت، لذا فقد وضعنا خططاً لإنشاء عدة مصانع نجحت بالفعل في تحقيق الاكتفاء الذاتي وتحولت مصر الي دولة مصدرة للاسمنت. كذلك الحديد فقد أنشأنا شركة الدخيلة بقرض من البنك الدولي ومشاركة يابانية، وكان المساهمون في الشركة عبارة عن شركات بترول وشركات عامة واخترنا المهندس سالم محمدين وزير الصناعة الاسبق رئيساً للشركة وحققت اغراضها. وكانت طاقة المصنع 750 الف طن ووضعنا مخططاً لزيادة الانتاج الي 1.2 مليون طن ثم جري فيها من نعلمه جميعاً. الوفد: ولماذا تم بيع الشركة بعد ذلك لأحمد عز؟ تم ذلك في وقت لاحق بعد خروجي من الوزارة بعدة سنوات، واتصور انه كان هناك مخطط لاضعاف الشركة وإثارة المشاكل داخلها حتي يدخل »عز« ويستحوذ علي نصيب كبير منها خاصة انها من اكبر صروح الصناعة في مصر والشرق الاوسط. الوفد: وكيف تقيم الوضع الاقتصادي والصناعي خلال عهد مبارك؟ أنا عندي رأي خاص بمبارك أتصور انه رأي كثير ممن عرفوه وتعاملوا معه. لقد كان الرئيس مبارك في البداية شخصاً نزيهاً ومستقيماً ويهتم بمحدودي الدخل، لكن بعد سنوات تم افساد البيئة المحيطة به وللأسف فقد شارك في ذلك عدد من رجال الاعمال الذين انتفعوا بتقربهم من العائلة. وفي رأيي فإن ابني مبارك السبب فيما وصلت له نهايته. الوفد: لقد تعددت انتقاداتك لبرنامج الخصخصة طوال السنوات الماضية.. هل كان هذا توجهاً اشتراكياً ام رأياً في اسلوب تطبيق التحول الي اقتصاد السوق الحر؟ في رأيي ان القطاع الخاص له دور مهم في قيادة قطار التنمية والاقتصاد.. وانا شخصياً لست ضد القطاع الخاص المصري او الاجنبي، لكن كنت أتصور ان يتم فتح الباب للقطاع الخاص للاستثمار في كيانات جديدة بدلاً من بيع اصول قائمة. كما اتصور ان هناك أصولاً لا ينبغي بيعها لاي سبب مثل شركات السلع الاساسية كالاسمنت والحديد والصلب وهذا هو المعمول به في كبري الدول الرأسمالية. لقد أدت خصخصة شركات الأسمنت الي سيطرة الاجانب عليه ولما تعد الدولة قادرة علي السيطرة علي الاسعار. انني أتذكر يوماً ما سمعت الدكتور محمود محيي الدين وزير الاستثمار السابق يتحدث عن بيع شركة الحديد والصلب، وشركة الالمونيوم ونظمنا حملات لوقف ذلك ونجحنا واعتقد ان كثير من خبايا ما كان يعرف بالخصخصة سيظهر قريباً للرأي العام لنكتشف حجم الجرم الذي ارتكب تحت هذا الشعار. الوفد: هل يعني ذلك انك تطالب بعودة الدولة للاستثمار في القطاع الصناعي؟ بالطبع في القطاعات الاستراتيجية وفيما يستهدف توفير السلع الاساسية. انني اتذكر يوماً عندما كنت وزيراً للصناعة ان رئيس الوزراء الراحل الدكتور فؤاد محيي الدين ايقظني من النوم الساعة الثانية عشرة مساء لانه تلقي معلومات ان احدي شركات الملابس الحكومية قامت بزيادة سعر منتجها قرشاً واحداً، وفي الصباح اجرينا اتصالات موسعة لنتأكد ان المعلومة خاطئة وان الشركة لم تفعل ذلك ولقد كانت فلسفتنا دائما ان هدف الشركة العامة ان توفر السلع الاساسية للمواطنين باسعار مناسبة لذا لم نكن نسعي لتحقيق ارباح لتلك الشركات وانما نسعي الا تحقق خسائر. الوفد: كيف تقيم وضع الصناعات النسجية في اوائل وأواخر عهد مبارك؟ كانت الصناعات النسجية هي اهم القطاعات التي توفر فرص عمل واذكر عام 1982 انه كانت لدينا تحت اشراف وزارة اصناعة 117 شركة يعمل بهم 600 الف عامل نصفهم من قطاع النسيج فقط. وكان انتاج مصر من الاقطان 10 ملايين قنطار منها 5.5 مليون لقطاع الملابس و3.5 مليون قنطار للتصدير وكنا نستخدم بذرة القطن في استخلاص زيوت طعام. اما الآن فالقطاع متخم بالعمالة والمشاكل والانتاج في تراجع ومعظم شركات الغزل تعاني من خسائر كبيرة. واعتقد ان ذلك القطاع اهمل عن عمد حتي يتم خصخصته وبيعه بثمن بخس. الوفد: وماذا كان الحل في رأيك وتلك الشركات تحقق خسائر؟ كان الحل استبدال الادارة. هناك قطاعات حكومية عديدة تحقق مكاسب ونجاحات بفضل مديرين جيدين وبفضل تخطيط سليم. الوفد: كيف كنت تري برنامج الألف مصنع الذي روج له المهندس رشيد محمد رشيد وزير التجارة والصناعة السابق؟ كنا جميعا نعلم أن البرنامج اعلامي فقط. وكانت هناك كثير من المصانع توقفت وتم ضمها للبرنامج. كما كانت هناك عدة مصانع عبارة عن توسعات لمصانع قائمة. وكان الاولي في نظري أن نهتم بالتعليم الفني ونركز جهودنا عليه حتي تصبح لدينا كوادر صناعية مؤهلة، خاصة ان أخطر مشكلة يواجهها القطاع الصناعي حاليا هي ندرة العمالة المؤهلة وهو ما يدفع بعض اصحاب المصانع الي استحضار عمالة من الخارج. الوفد: وما هو رأيك في ظاهرة الصعود السياسي لرجال الاعمال في مصر خلال السنوات الاخيرة؟ اتحفظ عليها كثيرا. وأتصور ان كثيراً من جرائم الفساد كانت نتيجة تلك الظاهرة. وعموما فإن حكم التاريخ لم يصدر بعد علي هذه المرحلة بما فيها من اخفاقات وانجازات. الوفد: وما الذي أدي إلي تدهور التعليم الفني بهذا الشكل؟ اعتقد أن ارتفاع اعداد الطلبة في التعليم الصناعي والزراعي ساهم في ضعف اهتمام الدولة به. فضلا عن عدم عمل برامج قومية للتدريب والتأهيل وعدم احداث نوع من التزاوج بين الصناعة والتعليم، وثبات مناهج التعليم الفني علي ما كانت عليه وعدم مواكبتها لتطورات التكنولوجية الجارية. الوفد: ما هو الذي يقلق بشأن الصناعة في الوقت الحالي؟ كل ما نراه يثير زوابع القلق. المظاهرات الفئوية.. الاعتصامات.. المطالب العمالية المبالغ فيها. الوضع الاقتصادي مؤسف ويحتاج لقرارات حاسمة لأن الديون وصلت إلي مستويات عالية وهناك 2.5 مليون عاطل جديد بسبب تراجع السياحة والعائدين من ليبيا وكل هؤلاء قنابل موقوتة. وما الحل؟ لابد من وقف جميع المظاهرات والوقفات الاحتجاجية بحزم وبحسم وإعادة عجلة الانتاج وتشجيع المصانع علي مضاعفة انتاجها وتيسيير اعمالها. نحن نحتاج للوقوف بقوة لإعادة بناء مصر. وذلك يتطلب تعاوناً وجدية واخلاصاً من الجميع. الوفد: ما هي الصناعات التي تحتاجها مصر خلال المرحلة القادمة؟ وما هي الصناعات المرشحة للانقراض؟ الصناعات الالكترونية والهاي تك. هذه الصناعات هي التي تحدث تطورا تكنولوجيا كبيرا واتصور أن التركيز عليها يحقق تقدما كبيرا في الصناعة المصرية لأنها القطاع الاعلي في القيمة المضافة والمحقق للعائد الأكبر. وفي رأيي أن الصناعات الدوائية أيضا حققت تقدما كبيرا وهناك خطوات جيدة في هذا الشأن فهناك بعض الكيانات نجحت في ربط الصناعة بالبحث العلمي وأنفقت الكثير في هذا المجال. وأتصور ان الاحتياجات الرئيسية للمواطنين تساهم في تحديد القطاع الاولي بالاهتمام، وبشكل عام أنا مع فكرة توجيه الاستثمار الصناعي. أما الصناعات التي قد تنقرض فكثيرة وربما أبرزها الصناعات الحرفية والصغيرة.