كثيرون في أمريكا اللاتينية والعالم يتساءلون عن مصير التركة السياسية التي خلفها الرئيس الفنزويلي الراحل . يكتسي هذا السؤال في المنطقة العربية بظلال من الحزن والأسى، ذلك أن شافيز كان من أكثر رؤساء العالم تعاطفاً مع القضايا العربية، ومن أعلاهم صوتاً في نقد “إسرائيل” ونظام الهيمنة العالمية الذي يشكو منه العرب . وسواء كانت أقواله ومشاريعه صادرة عن حوافز إنسانية صادقة، أو عن حسابات سياسية، فإنها كانت قريبة إلى مشاعر العرب وتطلعاتهم، وسواء كانت هذه التطلعات في محلها أم لا، فإنه من الصعب على المرء أن يقلل من أهميتها، وأن يناقش جدواها فهي تكمن في صلب المخاض الذي يشهده العالم في أيامنا هذه . كان شافيز حريصاً على الارتقاء بالأوضاع الاجتماعية للفقراء والمهمّشين في فنزويلا، وبتنفيذ المشاريع التي تحقق هذا الغرض . وهكذا وبدفع وتوجيه منه وبالاستعانة بالكفاءات العلمية والإدارية والقيادية الفنزويلية أسست الدولة، بعد انتخابه عام ،1998 مئة ألف تعاونية لخدمة صغار المنتجين . كذلك ساعدت الدولة على إنشاء 180 كوميونة يعيش فيها مئات الألوف من الفنزويليين حياة مشتركة وبأقل كلفة ممكنة . ولم تهتم الدولة الفنزويلية خلال السنوات التي حكم فيها شافيز بالأوضاع المادية للفقراء فحسب، وإنما سعت أيضاً إلى ضمان مشاركتهم في اتخاذ القرارات المتعلقة بنمط معيشتهم وبإدارة أمورهم، فأسست خلال عام 2010 ما يقرب من 30 ألف مجلس إداري ومحلي بصلاحيات واسعة في كل ما يتعلق بتحسين مستوى معيشة السكان . في سعيه إلى تحقيق هذه الأهداف وإلى النهوض بأوضاع الفقراء والمهمشين في فنزويلا، كان شافيز والشافيزيون مقتنعين بأن الولاياتالمتحدة لن تقبل بها، بل إنها على العكس سوف تضغط على فنزويلا لكي تطبق المبادئ والإجراءات النيوليبرالية مثل الخصخصة . وبالفعل عندما وضعت حكومة شافيز يدها على شركة النفط الفنزويلية التي كانت تحمي المصالح الأمريكية وتعمل كدولة مستقلة داخل الدولة الفنزويلية ومتمردة عليها، فإنها اصطدمت بمعارضة أمريكية قوية لهذه الخطوة وبحملة قوية إعلامية وسياسية أمريكية ضد شافيز - الشيوعي . وهذا ما أكد صواب مخاوف شافيز، وزاده اقتناعاً بموقفه المناهض للهيمنة الأمريكية على فنزويلا . تعبيراً عن هذا الموقف، ومن أجل ظروف تحقيق الشروط المناسبة لخوض معركة فيها الحد المناسب للتكافؤ مع الولاياتالمتحدة، عمل شافيز على إقامة تحالفات إقليمية ودولية بين فنزويلا والدول التي تشاطرها حوافزها وأهدافها . وفي هذا السياق بدا لشافيز أن الطريق الأصلح هو تنفيذ مشاريع التكامل الإقليمي مع دول أمريكا اللاتينية . وكان هذا الخيار واحداً من أهم الخيارات التي اعتمدها في مسيرته السياسية . إنه لم يكن خياراً هيناً لأن الولاياتالمتحدة كانت تسعى إلى تحويل سوق أمريكا الشمالية المشتركة التي أنشأتها مع كندا والمكسيك، إلى سوق أمريكية مشتركة تشمل دول القارة كلها فتطبق من خلالها النهج النيوليبرالي وتفرض عليها التخلي عن النهج القومي الاقتصادي وتمارس عليها الهيمنة الاقتصادية . بالمقابل فإن الدعوة إلى التكامل الإقليمي الأمريكي اللاتيني كانت تتناقض مع المشروع الأمريكي ومن ثم أدت إلى المزيد من التوتر بين واشنطن وكراكاس . ولكن في هذه المرحلة من الصراع لم تكن فنزويلا معزولة، بل كانت تقف جنباً إلى جنب مع العديد من دول القارة التي شهدت صعود الأحزاب الوطنية إلى السلطة وبالتالي تمردها على السيطرة الأمريكية . ولقد تمكنت فنزويلا، خلال مرحلة حكم شافيز، من تحقيق مشاريع تكاملية لمس الأمريكيون اللاتينيون ثمارها بدءاً ب”اتحاد شعوب أمريكا اللاتينة” الذي شكل إطاراً سياسياً واسعاً لكل المشاريع القطاعية مثل التلفزيون الأمريكي اللاتيني “تيليسور” (تلفزيون الجنوب)، ومجلس دفاع جنوب أمريكا على غرار حلف الناتو، وجامعة أمريكا الجنوبية، ومشروع “بيتروأمريكا” لاستثمار عائدات النفط الأمريكي في أمريكا اللاتينية وبنك أمريكا الجنوبية . وكما توجهت فنزويلا إلى دول أمريكا الجنوبية فقد توجهت أيضاً إلى الدول العربية التي يجمعها معها التراث المتوسطي والمصالح الوطنية المشتركة من أجل تعزيز التعاون بين الجانبين . واتخذ شافيز مواقف صريحة وجريئة في نقد الاعتداءات التي شنتها “إسرائيل” على لبنان وغزة خلال العقد الفائت وصولاً إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل” واستبدال علاقات نشطة مع السلطة الفلسطينية بها . إن استمرار الشافيزية بعد غياب صاحبها لن يكون أمراً سهلاً لأنه كان يتمتع بشخصية كاريزماتية لم يعرف عن خلفه مادورو تمتعه بمثلها، ولكن هذا العنصر الشخصي لا يمثل العنصر الوحيد في تفسير استمرار الشافيزية في الماضي، أو إمكانية استمرارها في المستقبل . فهناك عناصر أخرى لاستمرار السياسات والمؤسسات المشار اليها أعلاه . لقد استمرت الشافيزية مع صعود اليسار الأمريكي الجنوبي، وما دام هذا اليسار موجوداً بقوة في جنوب القارة، فمن الأرجح أن تستمر ولكن مع احتمال كبير في تحول حزبها “حركة الجمهورية الخامسة” من طابعها المتميز عن بقية أحزاب اليسار في أمريكا اللاتينية، إلى مجرد لون من ألوانه . كما أنه من المرجح ان يتراجع الدور الفنزويلي في هذا اليسار لكي يتقدم عليه وعلى سائر الأدوار الأخرى الدور البرازيلي الذي يقرنه البعض بالفكر الاشتراكي الديمقراطي . ومن الأرجح أيضاً أن يبقى الموقف الفنزويلي تجاه القضايا العربية وخاصة قضية فلسطين على حاله، إلا إذا استمرت الدول العربية على موقفها المتردد تجاه كراكاس ولم تهتم بتطوير التعاون معها، أو إذا لم تتمكن “حركة الجمهورية الخامسة” من الحفاظ على وحدتها الداخلية وتمكنت المعارضة الفنزويلية من الفوز بالانتخابات المقبلة . عندها فإنه تتعدد الاحتمالات وتتسع لكي تشمل تحولاً في موقف كراكاس بعيداً من العرب ومن قضاياهم التي تسبب وجع الرأس مع الأخ الأمريكي الأكبر . نقلا عن صحيفة الخليج