رؤيتا «عُمان 2040» و«السعودية 2030» تلتقيان فى مسقط.. وإرادة سياسية قوية لتحقيق «التكامل» تحتفظ سلطنة عُمان برصيد واسع من العلاقات الطيبة والمميزة مع الدول الشقيقة والصديقة، وتزداد هذه العلاقات كل يوم متانة وقوة واتساعاً، وهذا لم يأت بمحض المصادفة أو نتيجة ظروف فرضتها الساحة الدولية والإقليمية، وإنما جاء بناءً على قناعات راسخة وأُسس أصيلة ومتجذرة نابعة من صميم تاريخ الإنسان العُمانى وحضارته وثقافته وسماته الشخصية، وهذا ما يوثقه التاريخ وبات مكشوفاً ومقروءاً أمام الجميع.. فالعلاقات التى تربط السلطنة مع دول العالم الشقيقة والصديقة تُعد من أنجح العلاقات التى تربط الدول بعضها ببعض، وذلك بفضل السياسة الحكيمة التى أرسى دعائمها المغفور له السلطان قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه - والتى اتسمت على الدوام بمبادئ قويمة تقوم على التعاطى المُتحضر والتعامل الإنسانى والاحترام المُتبادل، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، وحل المُشكلات والقضايا بالحوار فى إطار حكيم يُغلب لغة العقل والمنطق والحكمة.. وبفضل هذه الأُسس الراقية أرسى السلطان الراحل مكانة دولية للسلطنة، حظيت بالقبول والإشادة والتقدير والاحترام وبالوضع المرموق الذى يليق بالمكانة التاريخية والحضارية والدور الكبير الذى لعبته عُمان فى التاريخ الإنسانى والحضارى.. وما يُميز هذه السياسة العُمانية الحكيمة أنها سياسة مُحبة للاستقرار والأمن والسلم والرخاء والطمأنينة والتنمية والتسامح والتآلف ونبذ الغُلُو والتطرف والصراعات، لذلك كرست جهودها وطاقاتها وسخرت إمكاناتها لتحقيق ذلك، ومساعدة المنظمات الدولية المعنية ودول العالم ودعم قضايا الشعوب العادلة وحل الصراعات بالسلم والحوار البناء وتقريب وجهات النظر والعمل على بناء الثقة بين الأطراف المتصارعة والفرقاء. بناء التكامل وقد شهدت الأونة الأخيرة تطوراً كبيراً فى العلاقات بين سلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية فى كافة مجالات التعاون الثنائى، مع الزيارة التاريخية الناجحة التى قام بها السلطان هيثم بن طارق سلطان عُمان - «مؤسس النهضة العُمانية المتجددة» - إلى السعودية خلال شهر يوليو الماضى، التى التقى خلالها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولى عهده الأمير محمد بن سلمان. واستكمالاً لهذه الزيارة العظيمة، اتجهت مسقط والرياض خلال الأيام القليلة الماضية وبعد 6 أسابيع فقط من القمة العُمانية السعودية فى مدينة نيوم، إلى تحقيق التكامل الاقتصادى الشامل بين البلدين، مع زيارة وفد تجارى سعودى رفيع المستوى إلى السلطنة الأسبوع الماضى، برئاسة وزير الاستثمار السعودى المهندس خالد بن عبدالعزيز الفالح، حيث جاءت هذه الزيارة مواصلةً للجهود التى يبذلها البلدان الشقيقان والحراك الذى أصبحت نتائجه واضحة وجلية فى المساهمة فى تعزيز التواصل والتعاون الاقتصادى والتجارى بين السلطنة والمملكة، وتطوير العلاقات التجارية والإطلاع على التجارب وتبادل الخبرات وتكثيف الجهود نحو إيجاد شراكات تجارية واقتصادية خاصة فى القطاعات المستهدفة فى رؤى البلدين الوطنية، «عُمان 2040» و«السعودية 2030»، وهما الرؤيتان اللتان تتشاركان فى العديد من القواسم، خاصة الجوانب الاقتصادية والتنموية، فكلاهما تطمحان إلى تحقيق التنويع الاقتصادى وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيسى من مصادر الدخل الوطنى، وهذا التنويع يتأتى عبر التركيز على القطاعات الواعدة، مثل السياحة والصناعات التحويلية والمشاريع اللوجستية، ومشروعات أخرى تساعد على ازدهار الاقتصاد وتلبية تطلعات المجتمع فى بلوغ مستوى جيد من المعيشة. كيان مشترك وبالعودة إلى زيارة الوفد السعودى لمسقط التى استغرقت عدة أيام، فإنها شهدت عقد اجتماع مجلس الأعمال العُمانى السعودى، وهو الكيان المشترك الذى يجمع كبار رجال الأعمال من البلدين، ويسرع الخطى نحو تنفيذ المشاريع المرتقبة، كما شهدت الزيارة التئام أعمال المنتدى الاستثمارى العُمانى السعودى، الذى يمثل خطوة متقدمة على مسار تحقيق التكامل بين عُمان والسعودية، حيث تضمنت أعماله طرح خطة واضحة لتحقيق التكامل المنشود، عبر وضع مؤشرات أداء لقياس مدى التقدم فى المشاريع والمبادرات الاستراتيجية، علاوة على إطلاق برنامج تسريع وتيرة التكامل، هذا إلى جانب عقد عدة اجتماعات مشتركة أخرى بين الجانبين فى مسقط لتعزيز التعاون فى مختلف المجالات الاقتصادية والسياحية، بالإضافة إلى زيارة الوفد السعودى للمؤسسة العُمانية العامة للمناطق الصناعية «مدائن» والمنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم. وبالحديث عن وثائق التعاون الاقتصادى المشترك، فقد شهدت أعمال المنتدى العُمانى السعودى، توقيع مذكرة تفاهم بين مسقط والرياض فى مجال تعزيز وتشجيع الاستثمار بين البلدين، عبر تبادل الخبرات والمعلومات والزيارات وتسهيل الإجراءات على المستثمرين فى كلا البلدين، ومساعدة المستثمرين فى البحث عن الفرص الاستثمارية المتاحة بالسلطنة والمملكة.. كما تم توقيع مذكرة تفاهم بين شركة تنمية أسماك عُمان والمجموعة الوطنية للاستزراع المائى «نقوا» بالسعودية، لبحث فرص التعاون بينهما من أجل إقامة مشروع استزراع الروبيان فى ولاية الجازر بمحافظة الوسطى، وتنص هذه المذكرة على الاستفادة من خبرات الجانبين فى هذا المجال لجذب استثمارات أجنبية وفتح أسواق جديدة وإيجاد فرص عمل وتعزيز القيمة المضافة لاستزراع الروبيان والأنشطة المصاحبة له، وتبلغ مساحة هذا المشروع فى الجازر 1650 هكتاراً، وتصل طاقته الإنتاجية إلى 18 ألف طن سنوياً، بينما تبلغ تكلفته 53 مليون ريال عُمانى أى ما يعادل 137 مليون دولار، ويتكون من مزرعة تضم 4 مناطق تربية ووحدة تفقيس ووحدتى إنتاج ما بعد اليرقات ومصنع لتجهيز الروبيان ووحدة لتحسين الخصائص الوراثية.. هذا إلى جانب طرح العديد من المشروعات المشتركة والاستثمارات المتبادلة فى قطاعات متنوعة، منها على سبيل المثال لا الحصر، خدمات صناعة الزيت والغاز والطاقة المتجددة ومشروعات البنية الأساسية والاستثمار فى الصناعات المتقدمة والنقل والخدمات اللوجستية وتقنية المعلومات والتعدين والسياحة والخدمات الصحية، بالإضافة إلى التعاون فى قطاعات الصناعات التحويلية والغذائية وتجارة التجزئة والإنتاج الزراعى والثروات الحيوانية والسمكية، وكل ذلك يأتى فى إطار التعاون المشترك والعمل على بناء الشراكات الاقتصادية والتجارية بين مؤسسات القطاعين العام والخاص فى المشروعات الاستثمارية المتنوعة بين البلدين.. ومن المنتظر أيضاً خلال الشهور القادمة إقامة منطقة اقتصادية سعودية متكاملة فى السلطنة. الإرادة السياسية هذا التكامل العُمانى السعودى، يتحقق بفضل مجموعة من العوامل والمُحفزات، على رأسها الإرادة السياسية القوية، والإدارة المُتقنة لملف العلاقات العُمانية السعودية من قبل الجهات المعنية، فضلاً عن توافق الطموحات المشتركة. وعند الحديث عن الإرادة السياسة، فإنها حاضرة بقوة، وقد تلقت زخماً كبيراً خلال زيارة السلطان هيثم بن طارق السامية للسعودية، والمباحثات التى أقيمت على هامش «قمة نيوم»، والتى سبقتها زيارات لمسئولين عُمانيين إلى المملكة، شهدت التباحث حول طرح 150 فرصة استثمارية بالسلطنة على المستثمرين السعوديين، بإجمالى استثمارات متوقع يصل إلى 1.5 مليار ريال عُمانى، وهو رقم يدعو للتفاؤل، ومن شأنه أن يزيد حجم الاستثمار الأجنبى فى عُمان، ويوفر المزيد من فرص العمل، فضلاً عن الانتعاش الاقتصادى الذى سيصاحب المشاريع المرتقب تنفيذها. ويبقى القول، إن الإرادة السياسية تجلت بوضوح فى اختيار السلطان هيثم بن طارق للسعودية لتكون المحطة الخارجية الأولى التى يتوجه إليها بعد نحو عام ونصف العام تقريباً من توليه مقاليد الحكم، وهذا يعكس رؤيته السامية الحكيمة التى ترى فى علاقات مسقط والرياض نقطة ارتكاز داخلية وخارجية، يُمكن من خلالها الانطلاق نحو آفاق أكثر رحابة فى مستوى العلاقات، وهذا لن يخدم العلاقات الثنائية وحسب، بل سيُحرك المياه الراكدة فى العديد من الملفات العربية والإقليمية والدولية.