مات أبوالنيل.. وكنت أظنه مخلدًا مثل خلود النهر الذى عشقه وكشف لنا أسراره مات رشدى سعيد.. وليست هذه هى ميتته الأولى.. بل الثالثة.. فالرجل مات مرة عندما دخل السجن ضمن اعتقالات سبتمبر 1981.. ومات مرة ثانية عندما اضطر أن يبيع مكتبته العلمية غير المسبوقة لكى يدبر قيمة تذاكر السفر، بعد أن فضل أن يعيش بعيدًا عن الأرض التى عشقها، كما لم يعشقها مصرى آخر. كنت أراه دائمًا يجسد أمامى رمسيس الثانى ذلك الملك الفرعونى العظيم الذى أنشأ معبدى أبوسمبل - جنوبأسوان - ليستقبل هناك مياه النيل، ويعلن لكل قادم من الجنوب: ها أنا ملك مصر.. صاحب النهر العظيم وأحيانا كنت أراه فى جسد اخاتون أول داعية لعبادة الله الواحد الأحد.. الذى حارب تعدد الآلهة ووقف ضد جبروت رجال الدين المتزمتين.. وأحيانا كنت أراه فى جسد الملك مينا الذى وحد القطرين.. لأن كليهما «البحرى والقبلى» من صنع هذا النيل الذى عشقه، وربما عبده، بعد الله.. فعلا كنت أراه عملاقًا وقد كان كذلك. كنا نقرأ عن النيل بأقلام الأجانب من أمثال الاسترالى آلان مورهيد.. أو هرست، أو اميل لودفيج أو ولكوكس أو ليفنجستون أو ويليامز وحتى القلة من المصريين الذين اهتموا بالنيل من أمثال د. محمد عوض محمد أو الشرقاوى أو سلامة.. ولكن كل هؤلاء أجانب ومصريين ليسوا مثل دكتور رشدى سعيد.. الذى أصدر العديد من الكتب والدراسات والمقالات عن هذا النهر العظيم.. ومازلت أحتفظ - فى مكتبتى - بتلك النسخة من كتابة السفر الرائع عن النيل الذى صدر فى طبعتين إحداهما إنجليزية والثانية عربية وعليه اهدائه لى بخطه العربى شديد الوضوح ككل جيله الرائع.. وأهداه لشقيقه نجيب سعيد الذى قضى عمرًا فى خدمة الرى فى مصر ومات 2001. ورشدى سعيد واحد ممن وضعوا أسس علم الجيولوجيا فى مصر وارتبط اسمه بأغلب الكشوف التعدينية الكبرى فيها. وله مدرسة علمية كبرى وكان عضوا بالمجمع العلمى المصرى.. وفى غيره من الجمعيات العلمية.. العالمية.. وربما كتابه عن جيولوجية مصر هو الأفضل عن جيولوجية مصر.. ثم كتابه الرائع «نهر النيل» نشأته واستخدام مياهه فى الماضى والمستقبل.. وهو فعلا كتاب نادر.. بل هو من أهم المراجع عن نهر النيل. ومرة نظمت نقابة الصحفيين ندوة عن علماء مصر.. ووقفت متحدثًا.. وفجأة وجدته جالسًا - فى صمت دفين - فى الصف الأخير.. فأشرت إليه.. صارخًا.. اسألوا هذا العالم الكبير رشدى سعيد.. ما الذى جعله يهرب من بلده مصر ليعيش بعيدًا فى منفى اختيارى فى أمريكا.. ولماذا تخسر مصر مثل هذا الرجل وأحرجته ودعوته للحديث على المنصة ليروى مأساة علماء مصر.. ووقف الرجل ليروى كيف دفعوه دفعًا لترك مصر، وكان ذلك فى أوائل تسعينيات القرن الماضى. وتوطدت بيننا العلاقة واكتشفت أنه يتابع جيدًا كل ما أكتبه عن النيل ودعانى مرات إلى بيته بشارع مصر حلوان الزراعى بالطابق الثامن وجذبتنى مكتبته.. محرابه العلمى الذى باعه لكى يسافر بثمنه ورأيته مرة يبكى على مكتبته هذه. وما من مرة سمع أننى فى زيارة لأمريكا إلا واتصل بى.. وكم من مرة زارنى فى فندقى بواشنطون وجلسنا نتحدث عن هموم الوطن وآماله فى تطويره.. وكم تجولنا فى شوارع واشنطون بالساعات والساعات. ورشدى سعيد الذى رحل غريبًا عن أرض مصر عن 93 عامًا تم دفنه أمس - فى أرض غريبة - فى أمريكا.. وكم كنت أتمنى أن يدفن فى تراب مصر التى عشقها وكتب عنها أعظم أحلامه لتطويرها. أليس عيبًا أن يدفن رشدى سعيد فى أرض بعيدة.. غريبًا عن تراب وطنه.. والله عيب ياكل المصريين.. وعزائى لرفيقة حياته زوجته الفاضلة التى عاشت مع الرجل أحلامه.. وعانت كما عانى من الآلام.