لا يشيخ، رغم شيخوخة الحياة من حوله، لا يكف عن تأليف الموسيقى، في الوقت الذي ضرب القبح الغنائي مصر من كل جانب، هو يرجع ما وصل إليه من قيمة فنية تشعره دومًا بالسعادة، إلى التعليم الجيد منذ الصغر، لقد تعلم في أول الطريق ثلاثة أشياء في غاية الأهمية لكل مبدع، أولها أن يواصل الكتابة الموسيقية ويخرج ما وهبه الله منها دائمًا ثم يفكر فيها بعد ذلك، وثانيها أن يحلل ما يسمع، وثالثها أن يرسل رسالته الفنية إلى متلقيه دون تعقيد. هذا الحوار مع الموسيقار ميشيل المصري، أحد أبدع الرموز على الساحة الموسيقية في مصر. سألته.. كيف يخرج المبدع من خندق الظروف الطاحنة التي تمر بها الحالة الفنية منذ عقود؟ - من الأشياء المهمة التي تصنع حياة المبدع هو شخصيًا، والمجتمع الذي يعيش فيه، لكن المسئولية الأولي تقع على عاتق المجتمع الذي عليه أن يخلق له هذا المجال، ويجب على المبدع ألا يضعف يومًا، ويواصل الاتصال بربه، ويطلب منه أن يبدع، لأن الإنسان لا يبدع من تلقاء نفسه، فلابد أن يرسل الله إليه إرسالًا، ثم يفكر المبدع في قيمة ما يقدمه لمجتمعه، فلابد أن ينفع شعبه والعالم. كيف تكون مسئولية المجتمع في ظروفنا هذه؟ - المبدع ليس له طلبات سوي خلق الأجواء لإبداعه، والساسة والقادة عليهم أن يقدموا ما يفيد الدولة لا أحد بعينه، والمبدع فائدة للمجتمع الدولي والمحلي أيضًا، وهو يفكر في السلام ولا يعرف لغة السلاح، وفي ظروفنا هذه كيف أتمتع بصحة جيدة وأنا استنشق العوادم، ويطاردني الضجيج.. التفت حولك ستجد بائعي «الروبابيكيا» في كل مكان يضجون بالنداء القبيح المقزز على بضاعتهم فلا يجعلون الأطفال ينامون ولا الأولاد يذاكرون ولا العواجيز يمارسون طقوس تناول الأدوية، كما يخرجون الناس من الصلاة، لقد كنا في الماضي لا نسمع سوي صوت العصافير ولا نري سوي مشاهد الخضرة والجمال، فإذا أصلحنا المجتمع من العيوب القاتلة يحيا الفن فورًا. كيف قرأت الدستور وما تعليقك عليه؟ - إننا نعيش فترة لغط وتضليل، والذي يفهم في السياسة ولا يفهم يدلي بدلوه فيها، لكنني أشعر بالخطر، فالدستور لابد أن نفكر فيه للأجيال القادمة لحفيدي وحفيد حفيدي، ففي كل بلد يحترم مواطنيه يوجد تأمين صحي لكل مواطن، وكل مرافق الحياة تحت أمره.. إن الناس تائهون والساسة تائهون أيضًا، والذي أدخلنا في هذه الأزمة هو عدم الإعمال بمبدأ الدستور أولًا وقت أن كان الوفاق يعم الجميع والريح الطيبة السمحة لميدان التحرير تظلل الجميع، وأقول الدستور أولًا لأن القرآن كان أولًا ثم جاء المسلمون، فهذا ترتيب منطقي كان علينا اتباعه، وكنا خرجنا بذلك من لعبة المصالح لأن الناس كانوا في مرحلة البكارة الأولي للثورة. لماذا وانت قبطي أكثرت من الأعمال الموسيقية التي تتناول الإسلام والمسلمين؟ - أنا أكثر من قدم أعمالًا موسيقية للإسلام والمسلمين، وكان من بينها «تسابيح رمضان» وموسيقي الأعمال الدرامية لمسلسلات مثل «فرسان الله» و«الفتوحات الإسلامية» وغير ذلك من العشرات من الأعمال، وقد قرأت وسمعت عن هذه المرحلة من تاريخ الأمة وأعجبني التعبير عنها وعن بطولتها بالموسيقي. لماذا لا تذاع «التسابيح» التي لحنتها في الإذاعة أو تصور في التليفزيون؟ - هي بالفعل لا تذاع، وقد حدث خطأ أن مخرج هذا العمل أخذ الشرائط ل «يمنتچها» في البيت، وحين عرض التسجيل على بعد ذلك وأنا في لجنة الاستماع باتحاد الإذاعة والتليفزيون وجدت الشريط لا يصلح هندسيًا، لأن الذي ذهب بالشريط إلى بيته لا يملك أجهزة متخصصة، وانت تذكر أن هذا العمل حاز على ثناء لجنة الاستماع. صاحبت «أم كلثوم» و«عبد الوهاب» وغيرهما من كبار المطربين، فما الفارق العلمي في العزف على الكمان خلف هذين الاسمين تحديدًا؟ - أولًا لقد عزفت خلف كل من غني ابتداء من «ملك» و«فتحية أحمد» و«صالح عبد الحي» وحتي عزفي مع الفرقة الماسية وكبار المطربين الذين كانوا يغنون معها، وكذلك عزفت مع فرقة «الرحبانية» خلف المطربة «فيروز» والفارق بين كل واحد من هؤلاء في العزف على الكمان هو اختلاف في اللهجة، فليست «ملك» مثل «رياض السنباطي»، فهذا أسلوب وهذا أسلوب، وكذلك «عبد الوهاب» يختلف عن «أم كلثوم» في اللهجة الموسيقية، والمهارة أن يتكلم العازف لغة المطرب وملحنه، فهناك فارق بين لحن سيغنيه «عبد الوهاب» ولحن سيغنيه صوت آخر، وهناك في الغناء المصري ما يسمي بالموال الذي يرتجل فيه المغني، لكن العازف هنا باندماجه مع المطرب يقول ما يقوله المغني في اللحظة نفسها بترجمة أكثر من فورية. كيف تستطيع تجاوز ما نعانيه.. وتواصل التأليف الموسيقي؟ - لو حدث لي ملل من الكتابة الموسيقية لحدث لي ملل من تناول الطعام والدواء، فنحن المبدعين كالمعادن لو توقفنا عن الإبداع نصدأ، وتأليفي الموسيقي كما تري كله بالورقة والقلم لكتابة النوتة الموسيقية لما أؤلفه، وبعد الكتابة بالقلم يأتي دور الآلة الموسيقية لتعزف ما كتبته. ماذا استفدت من العزف مع «الرحبانية» خلف «فيروز»؟ - استفدت أن لكل دولة لهجة، وكل مقاطعة في الدولة الواحدة لها لهجتها، فساكنو الواحات ليسوا مثل ساكني المنيا، فالرحبانية ومعهم «فيروز» قدموا لهجة صحيح أنها باللبنانية لكنهم اكسبوها حضارة العالم، وهذه هي المدرسة التي أحبها، كما فعلها من قبل سيد درويش ومحمد عبد الوهاب في مصر. أجزت في لجنة الاستماع آلاف الأصوات عبر عشرات السنين.. أين ذهبوا؟ - إجازة الصوت هو مرحلة على الطريق، لكن نجاح المطرب بعد ذلك مشوار ليس سهلًا، والإذاعة لا تنتج، فلكي ينتج المطرب لابد معه من مؤلف وملحن وموزع موسيقي حقيقي كلهم جيدون، وهذا لا يوجد، وإن وجد فهو مكلف، والمشكلة تكمن أيضًا في أنه لا يوجد لدينا ما يعرف في أوروبا باسم «المتعهد» الذي يختار المغني وينفق عليه، ويتعاقد معه على نسبة من مشوار نجاحه، لكن المغني أو المغنية كل يكافح وحده، وقد يكون هناك من يغني ولا يستطيع أن يتعامل مع الناس، وقد يكون فاشلًا وينجح فقط لأنه يستطيع أن يتعامل مع الناس، وهناك مشكلة طالما واجهت المطربين والمطربات وهي أنه يريد أن يكون مشهورًا بعد إجازته فورًا، ويظهر على الناس كنجم، ولا يخرج أحد من بطن أمه مهندسًا أو طبيبًا، لقد كنا في زمن الغناء الجميل يأتي إلينا المطرب في معهد الموسيقي العربية كل يوم ليتعلم حتى يجد الفرصة الملائمة. كيف تري التوزيع الموسيقي اليوم؟ - بالمناسبة أنا أرفض وصفي بكلمة موزع فأنا مؤلف موسيقي، والتوزيع فرع من فروع التأليف الموسيقي الثمانية، والتوزيع اليوم عبارة عن أخذ جملة أو شكل من بلاد العالم، ولا علاقة له بعلم التوزيع الذي يجب أن يكون صاحبه مؤلفًا موسيقيًا يقدم المناسب والجميل للجمل الموسيقية المصاحبة للحن الأصلي وللطبقة الصوتية وللآلات. ما المطلوب من الحكومة تجاه المبدعين؟ - مطلوب أن تضم الحكومة مبدعين وفنانين، فإن لم يكن مبدعًا فيكون دارسًا للإبداع ليدخل في هيكل الدولة، والدولة تستطيع أن تقول ما تقوله عن طريق الفن، لكن الحكومة عندنا مثقلة بالمشاكل وليس لديها وقت للفن. ألا تري أن الكساد الغنائي قد طال؟ - لابد له أن يطول، إذا كانوا يفشلون في صنع أغان وطنية، لقد أصابني الرعب حين رأيت بعض الفنانين الشباب في ثورة مثل 25 يناير يمسك أحدهم ب «جيتار» ويقلد مغنيًا من «نيو جيرسي».. وأتساءل: هل سيطلع النهار على مصر أم لا، لا أحد يدري، لكني أتمني أن تخرج علينا الشمس رحمة بالبشر، فلابد من صناعة سياسة جديدة للتعامل مع الشعب بكل طوائفه وليس أهل الفن وحدهم، فالحكومة مثل رب البيت الذي عليه أن يراعي الجميع، دون تمييز من توفير الطعام والسكن والتعليم والصحة والفن.. إن الذين تعلموا جيدًا من تلاميذي لا يعلمون لأنهم لا يتشابهون مع لغة السوق الآن.. فكيف لنا أن ننجح! لماذا رفضت العزف مع «أم كلثوم» سنوات طويلة؟ - كنت أسمع عنها أنها تهين الموسيقيين وتأكل حقوقهم، فظللت على مدار ربع قرن أرفض التعامل معها، حتى ذهبت إليها بإلحاح من زملائي، لكنني فوجئت بها إنسانا ملائكيًا، تواصل الاطمئنان علي، وقد وقعت ذات يوم بالاستوديو أثناء عبورها فوق سلك، فرفعتها كأمي، وقد عزفت معها على مدار الأربعة أعوام الأخيرة من عمرها.