هل يعقل أن يتساءل أحد في هذا الزمان عما إذا كان يجوز تهنئة الأقباط بعيدهم أم لا؟ لست أستهجن الذين أفتوا بكراهية تهنئتهم أو حرمتها، لكنني أستهجن مبدأ طرح السؤال، لأنه يفضح المدى الذي بلغه التردي العقلي والفكري الذي وصل إليه البعض، ممن اعتبروا أن بغض الآخر والارتياب فيه هو الأصل. في الوقت ذاته فإنني أزعم أن الفتوى التي ذاع أمرها في الآونة الأخيرة تعد فضيحة أكبر. ذلك أن السائل إذا كان من عوام الناس الذين اختل وعيهم الديني، فإن المجيب يفترض فيه أنه من أهل العلم، وهو ما يصدمنا حقا ويفزعنا. لأنه إذا كان ذلك شأن بعض أهل العلم فما بالك ببسطاء الناس وقليلي البضاعة من العلم. ولا تقف الكارثة عند ذلك الحد، لأنني وجدت أن الأمر أخذ على محمل الجد، وتحول إلى موضوع للمناقشة بين من يؤيدون الفتوى ويعارضونها، كأننا بصدد نازلة استجدت في هذا العصر، فحيرت (المجتهدين) الذين تراوحت آراؤهم بين الحظر والإباحة. في حين أن المشهد كله ينطبق عليه قول الجاحظ. من حيث إنه يعبر عن (سقم في العقل وسخف في الرأي، لا يتأتيان إلا بخذلان من الله سبحانه وتعالى). إنني لا أستطيع أن أفصل بين تلك الفتوى وحملة (تسميم الأجواء) الراهنة، التي نبهت إليها في مرة سابقة. إذ لا أجد فرقا بين اصطياد بعض الصحف لنماذج المعتوهين والمختلين عقليا وإفراد الصفحات لآرائهم في أمور الدين والدنيا، وبين أولئك الذين يروجون لأكثر الآراء شذوذا وتعارضا مع تعاليم الإسلام ومقاصده. وهؤلاء وهؤلاء لا يهينون الآخرين وينفرون الناس من الإسلام فحسب، لكنهم يهينون الإسلام ذاته من حيث إنهم يشوهون تعاليمه. وحين يحدث ذلك والإسلاميون في السلطة، وثمة تعبئة ضدهم تطل من كل صوب وثمة انتخابات برلمانية آتية بعد أشهر معدودة، فإن سيناريو تسميم الأجواء يصبح واردا إن لم يكن مرجحا. قبل نحو ثلاثين عاما دعا أحد خطباء الجمعة في حي الدقي بالقاهرة إلى عدم مصافحة المسيحيين أو إلقاء السلام عليهم. وهو ما انتقدته على صفحات جريدة الأهرام. وحينذاك اتصل بي هاتفيا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وقال ضاحكا إن الرجل ينهى عن مصافحة المسيحي في حين أن الإسلام أباح للمسلم أن يتزوج من مسيحية، وأن يعيش الاثنان تحت سقف واحد، وينجبا أطفالا أخوالهم من المسيحيين. لكن أمثال أولئك «الجهال» يستكثرون على المسلم أن يصافح غير المسلم، ويستكثرون على المسلمين أن يعيشوا مع غير المسلمين في وطن واحد. وختم كلامه قائلا: لا تضيع وقتك مع أمثال هؤلاء، لأنك لو تتبعت كلامهم فسوف تجد عجبا وسيشغلك ذلك عن الكثير مما ينفع الناس، وخير لك أن تخاطب العقلاء ولا تلقي بالا لخطاب الحمقى. من جانبي اعتبرت الموضوع منتهيا وتصورت أننا تجاوزناه. لكنني أشرت إليه لاحقا في كتابي الذي صدر في عام 1985 تحت عنوان (مواطنون لا ذميون). إذ خصصت فصلا كان عنوانه (شبهات وأباطيل) تطرقت فيه لبعض الأفكار السلبية والملتبسة التي شاعت في التعامل مع غير المسلمين. وكان منها الحديث النبوي، الذي رواه أبوهريرة ونقل فيه عن رسول الله قوله: (لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام. وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها). وهو الحديث الذي أثار جدلا بين الفقهاء عرضت خلاصة له في الكتاب. وقد ناقشت الموضوع في بضع صفحات كان عنوانها: إجراء استثنائي في ظروف استثنائية. وقلت إن كلام النبي عليه الصلاة والسلام كان بمثابة تحذير للمسلمين صدر في وقت اشتد فيه التآمر عليهم من جانب هؤلاء. ولعب المنافقون دورهم في الوقيعة بين الطرفين. وخلصت إلى أن التوجيه النبوي (كان إجراءً مؤقتا أقرب إلى فكرة المقاطعة في أعراف زماننا لمواجهة سلوك محدد تعالت فيه البغضاء من بعض اليهود والنصارى). وفي غير ذلك فالأصل في علاقة المسلمين بأصحاب الديانات الأخرى هو (البر والقسط) طبقا للنص القرآني. علما بأن الرسول ذاته الذي أصدر ذلك التوجيه قد مات ودرعه مرهونة عند يهودي. وكنت قد أشرت في السياق إلى النص القرآني الذي يكفل الكرامة لكل بني آدم بصرف النظر عن عقائدهم، وإلى واقعة قيام النبي عليه السلام ووقوفه حين مرت جنازة لميت أمامه. وحين نبهه أحد صحابته إلى أن الميت يهودي، فكان رده: أليست نفسا؟ من قراءتي للتاريخ وجدت أن الآراء التي تدعو إلى مخاصمة الآخرين وبغضهم تجد رواجها في عصور البلبلة والانحطاط. ولاحظت أنها شاعت في أواخر سنوات الإمبراطورية العثمانية، التي منع فيها اليهود والمسيحيون من السير في عرض الطرق (أطلق عليها نظام التطريق). وقد طبق في لبنان حتى بدايات القرن الماضي. وقد أخافتني تلك الملاحظة، لأنني فهمت أن تتردد الدعوة إلى عدم تهنئة المسيحيين في أجواء البلبلة الراهنة، لكني خشيت أن تكون تلك بداية لانجرارنا إلى مرحلة الانحطاط. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية