بشيء من الإنصاف يمكن القول أن الرئيس المخلوع حسني مبارك كان أحد أبرز عوامل إنجاح ثورة 25 يناير، وليس مبالغا القول بأنه لعب دورا كبيرا في تأجيجها تارة، وتحفيزها تارة أخرى، فضلا عن دوره في تسريع محاكمته هو وأعوانه. أربعة خطابات ألقاها الرئيس المخلوع منذ اندلاع شرار الغضب يوم الثلاثاء 25 يناير، كل منها كان أشبه بموجة تسونامي تعصف بجزء من أركان النظام، وهو ما عبر عنه العلامة الدكتور يوسف القرضاوي بإيجاز حينما قال" أردنا له أن يكون رئيسا سابقا .. فأراد له الله أن يكون رئيسا مخلوعا". خطاب مبارك يوم الجمعة 28 يناير جاء متضمنا إشارة واحدة، وهي أن ساعة الحس السياسي للرئيس السابق تأخرت بنحو أربعة أيام، حيث خلا الخطاب من أي نبرة عاطفية تجاه الضحايا والمصابين، كما تجاهل تقديم أي شكل من أشكال المواساة أو الاعتذار لأسرهم، فضلا عن تضمنه قرارا يتيما بإقالة حكومة نظيف، وهو ما اعتبره الثوار قرارا متأخرا لم يقدم شيئا حقيقيا بعد أن سالت الدماء، الأمر الذي حفز ثورة الغضب على البقاء والاستمرار. الخطاب الثاني للرئيس المخلوع الذي أعلن خلاله تعيين عمر سليمان نائبا له، جاء على أرضية هشة إذ إنه أبقى على نصف تشكيلة حكومة نظيف تحت رئاسة الفريق أحمد شفيق، في إصرار قوي على استمرار وجوه من عينة أنس الفقي وممدوح مرعي وسامح فهمي وأحمد أبوالغيط وآخرين ممن يحظون بنقد شعبي لاذع، ورفض جماهيري كبير، مما عزز القول آنذاك بأن ساعة الرئيس "السابق" فقدت عقاربها، ولم تعد تعرف وجهتها الصحيحة. وعلى الرغم من النجاح الذي حققه "مبارك" بخطابه العاطفي، وتحدثه عن رغبته في الموت على تراب مصر، فإن أحداث موقعة " الجمل"، ومعارك قصر النيل وعبدالمنعم رياض، وسقوط مئات الشهداء والجرحى بميدان التحرير، كانت نقطة فاصلة أدارت الدفة لصالح الثوار، وأفقدت مبارك ما تبقى له من رصيد تأييد، وليس من المبالغة القول أن "الجمل" أبقى على الثورة، وأشعل جذوتها. في 10 فبراير تأكد القول بأن "مبارك" خارج إطار الزمن "سياسيا"، وجاء خطابه الثالث مخيبا للآمال، دون أي إدراك من "رجل" ظلت وسائل إعلامه تتغنى على مدار 30 عاما بحكمته .. وحنكته .. وخبرته.. فإذا به يفتقد أبسط أبجديات قراءة الواقع السياسي، ويقرر بعد فوات الأوان تفويض صلاحياته لنائب رئيس الجمهورية، في محاولة للالتفاف على مطلب الرحيل، وهو ما دفع الثوار للزحف نحو القصر الجمهوري. الجميع يؤكد أن تجاهل مبارك لمطالب "أيام الغضب" في بدايتها، وإخفاقه في قراءة الأحداث على أضواء شموع المشهد التونسي، كان عاملا مساعدا للثورة أشبه بالعامل المحفز اللازم لإنجاح التجربة الكيميائية . وباستثناء الرئيس العراقي السابق صدام حسين، لم يتعرض قط أي حاكم عربي للمساءلة والحبس بهذا الشكل، وبحسب صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" الأمريكية، فإن الصور التي عرضت لقصر مبارك وهو رهن "الإقامة الجبرية" بشرم الشيخ، وكذلك خطابه عبر قناة "العربية"، عجل بمساءلته ومحاكمته هو ونجليه. خطاب"العربية" بلا شك، وضع المجلس العسكري الذي يدير البلاد تحت ضغط كبير، وبعث بإشارات سلبية لرجل الشارع مفادها أن الرجل الذي قتل ابنك، يسكن بأحد القصور الفاخرة، ويدلي بأحاديث صحفية، لقناة يمولها النظام السعودي، والذي مارس ضغوطا قوية للحيلولة دون محاكمة مبارك، كما أعطى حديث "العربية" بعض المصداقية لاتهامات "التواطؤ" التي رددها البعض وبدأت تحوم حول أداء المجلس العسكري تجاه ملف محاكمة مبارك. "من حيث لا يحتسب"، قدم مبارك خدمات جليلة للثوار، ووحد مطالبهم بضرورة التعجيل بإسقاطه ومحاكمته، ورفع سقف التصعيد إلى التهديد بتنظيم مليونية الزحف لشرم الشيخ حيث مقر إقامته، وهو ما يؤكد أن خطابات مبارك أو إذا جاز الوصف "قارون" 2011، كانت أشبه بالدبة التي قتلت صاحبها. مبارك أضاع فرصا عدة، الأولى للخروج من سدة الحكم بشكل مشرف والبقاء حتى نهاية ولايته في حال قرر إصلاحات جدية عقب غضب 25 يناير، والثانية حينما تعاطف معه الشعب بعد الخطاب الثاني الذي أبكى المصريين، فإذا به يرد عليهم ب"الجمال" والنيران ويسقط المئات منهم ما بين شهيد وجريح، والثالثة حينما ارتضى الشعب رحيله إلى ألمانيا للعلاج وترك الحكم، فإذا به يتعنت ويتحدى، ويدفع بنفسه لقفص المحاكمة. لغة العبرة والعظة حاضرة بقوة في المشهد المصري، وتكاد تكون لسان حال المصريين حول رئيس مخلوع تمادى في غيه، ونجح بخطاباته وقراراته في إحداث ردود فعل عكسية، كانت تصب في مجملها لصالح الثورة، وهو ما يبرر توجيه الشكر ل"مبارك".