لم يفاجئني الازدحام الهائل أمام لجان التصويت أمس في منطقة العجوزة حيث أقيم.. حقيقة كنت أتوقع إقبالاً كبيراً.. ولكنني لم أتوقعه هكذا.. وواضح ان الشعب استيقظ ويريد أن يقول رأيه لانقاذ الوطن مما هو فيه من انقسام. وفاجأني أكثر ان طوابير النساء أطول من طوابير الرجال.. وتساءلت في نفسي لماذا.. هل السبب أن السيدات أردن الدفاع عما حصلن عليه من حقوق وبتن يخشين من ردة تجبرهن علي العودة الي عصر الحريم والي ارتداء النقاب في عصر لم يعد البعض يرضين فقط بالحجاب.. أو ربما كانت النساء تردن التقدم الي الامام.. وليس التأخر الي الخلف، كما يقول التيار المنادي بعودة المرأة الي البيت واغلاق فرص الحياة أمامهن.. وبالذات في مجال التعليم.. وكأن سيدات مصر خرجن من القمقم وكان اصرارهن علي الذهاب الي لجان التصويت يعلن بالفم المليان: لا للعودة الي عصر الحريم الذي يريد هذا الفصيل اعادة الوطن كله الي الظلام. وفي لجنة مدرسة القومية بالعجوزة شاهدت اصراراً عائلياً علي التصويت رأيت أسراً كاملة ذهبت الي اللجان.. الاب والام ومن له الحق في التصويت.. رأيت أجيالاً متعاقبة تتجه الي اللجان.. رأيت المستشار الكبير مصطفي الطويل وهو نجل القطب الوفدي الاصيل عبدالفتاح باشا الطويل الذي كان وزيراً للصحة العمومية في حكومة مصطفي النحاس باشا الرابعة في أغسطس 1937 وعاد الي نفس الوزارة في حكومة النحاس باشا الخامسة في فبراير 1942. وفي حكومة النحاس السادسة في مايو 1942 أصبح وزيراً للمواصلات. ولكنه في وزارة النحاس السابعة في يناير 1950 أصبح وزيراً للعدل. أقول رأيت المستشار مصطفي الطويل في نفس لجنتي بعد أن أدلي بصوته وكان في انتظار انتهاء السيدة قرينته وكذلك كريمته من الادلاء بصوتهما.. والمستشار الطويل هو رئيس شرف حزب الوفد.. وكان عضواً بمجلس الشعب عام 1984 عن الوفد.. وهو عضو بالهيئة العليا للوفد منذ عاد للحياة السياسية عام 1978 وحتي الآن. وهو اذا تكلم- في الهيئة العليا- علي كل الاعضاء أن ينصتوا لانه من جيل الوفديين الكبار قبل- وبعد يوليو 1952. وأعجبني تمسك الواقفين في الطوابير باحترام النظام.. رأيت سيدة تندفع وتعترض دخول احدي المنتقبات من الباب الرئيسي، تسللت بين سيدات مسنات، ولكن السيدة اعترضت نجحت في اكتشافها ومنعها من الدخول إلا في دورها.. وكان ذلك موقفاً شجاعاً أن تعرف كل سيدة حقها ولا تتنازل عنه أبداً.. ورأيت في ذلك ظاهرة تؤكد ان شعب مصر مازال بخير. ولانني اخترقت طوابير الرجال كنت أرفع بطاقة الرقم القومي متعذراً وأنا أقول بأعلي صوتي: اعذروني فقد تجاوزت الخامسة والسبعين من عمري.. وها هي بطاقتي!. وأبديت ملاحظتي للسيدة رئيس اللجنة مداعباً ان الحبر السري خفيف وردت- هي الاخري مداعبة- وهل تنوي أن تصوت مرة أخري!. واذا كان الاقبال علي التصويت في المدن المتعلمة كبيراً بحكم تزايد الوعي السياسي، تماماً كما في المدن العمالية، فان الاقبال في قري ونجوع الصعيد مثلاً يختلف تماماً.. فقد تتحرك شريحة كبري فيها إما بسبب معاناة كثير من هذه القري من تفشي الامية.. أو خضوعهم لاغراءات كيس السكر أو المكرونة أو زجاجة الزيت.. وهذه من آفات المجتمع المصري التي يجب معالجتها بسرعة. رحيل.. آخر من رأي سعد زغلول ولقد فاجأني أيضاً المستشار مصطفي الطويل ونحن في لجنة الاستفتاء بقوله هل عرفت ما حدث، وذلك الخبر الحزين. قال: لقد توفي أمين بك عبدالنور.. وكنت لم أقرأ الصحف حتي هذه اللحظة وصدمني الخبر الحزين.. فأنا أعلم كثيراً عن أمين بك. فهو ابن المجاهد الوفدي الكبير فخري بك عبدالنور الذي كان في مقدمة الرعيل الوفدي الاول وأحد أعضاء طبقة الوفد التي تكونت لقيادته بعد اعتقال الصف الاول.. وهو نائب جرجا الشهير منذ أول انتخابات عام 1924. الي أن لفظ أنفاسه الكريمة تحت قبة البرلمان بعد أن تحدث طويلاً عن أحلام أهل دائرته وأحلام الوطن.. ونعاه الزعيم مصطفي النحاس رئيس الوزراء في نفس الجلسة. وعائلة عبدالنور هي أكبر عائلات مديرية جرجا- الآن محافظة سوهاج- وقد زار الخديو عباس حلمي الثاني بيت فخري بك عبدالنور في جرجا في زيارته التاريخية لصعيد مصر.. وقد التقيت كثيراً بالفقيد الكبير الذي رحل عن عالمنا أول أمس- أمين بك عبدالنور- وكثيراً ما كان يحدثني تليفونياً اذا أعجبته احدي مقالاتي.. وأيضاً اذا لم يعجبه أحدها! وكان يفخر بأنه آخر من رأي الزعيم العظيم سعد زغلول.. وأن والده أطلق اسم الزعيم علي نجله الثالث سعد فخري عبدالنور الذي أصبح سكرتيراً عاماً لحزب الوفد. وقد تزاملت- ومازلت- مع العزيز منير عبدالنور وزير السياحة السابق وسكرتير عام الوفد السابق وعضو الهيئة العليا للحزب. وبسبب عمره المديد «101 سنة» كان يقول لي انه الوحيد في كل حزب الوفد الذي يقول للزعيم فؤاد باشا سراج الدين «يا فؤاد» لان أمين بك كان أكبر منه سناً والاقدم في حزب الوفد!. وكان أمين بك قريباً من البابا شنودة الراحل.. ومن كبار الاقباط ولهذا يقوم قداسة البابا تواضروس اليوم بالصلاة علي جثمانه في الكاتدرائية الكبري بالعباسية. وقد سبق أن التقيت بنجله الكريم فخري عبدالنور رجل الاعمال المصري الكبير في جنيف بسويسرا.. وهو من أكبر العاملين في تجارة البترول هناك. وكان الراحل الكبير معروفاً حتي بين كبار ساسة فرنسا وفي مقدمتهم الرئيس السابق شيراك.. والرئيس السابق ديستان. رحم الله فقيدنا وفقيد الوفد الكبير.. وكل العزاء للوفدي الكبير منير عبدالنور الوزير السابق وسكرتير عام الوفد السابق.. والي كل أفراد الاسرة العزيزة.