بقبوله مسودة الدستور التي أعدتها الجمعية التأسيسية المطعون في شرعيتها أمام القضاء الإداري والمحكمة الدستورية العليا، وتحديده يوم السبت 15 ديسمبر/كانون الأول الجاري موعداً للاستفتاء الشعبي على هذه المسودة. يكون الرئيس المصري محمد مرسي قد نجح في وضع قوى المعارضة بين خيارين ترفضهما، الأول الانخراط في عملية الاستفتاء على الدستور والانشغال بها والتصويت عليها للحصول على دستور يسقط الإعلان الدستوري الذي أصدره وترفضه المعارضة ويسقط معه كل الإعلانات الدستورية السابقة التي صدرت منذ قيام الثورة في 25 يناير ،2011 والثاني العمل على وقف عملية الاستفتاء على الدستور . ولكن النجاح في هذه العملية سيضع قوى المعارضة ومصر كلها أمام الخضوع للإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس بكل ما يتضمنه من احتكار غير مسبوق للسلطات الثلاث إلى حين الانتهاء من وضع دستور بديل . هذا يعني أن المعارضة باتت مخيرة بين إما أن تقبل بالدستور الجديد بكل ما فيه من عيوب، وإما أن تقبل بالإعلان الدستوري بكل ما فيه من ديكتاتورية رئاسية لحين التوصل إلى دستور جديد توافقي يرضى عنه الجميع . المعنى المهم هنا هو أن الرئيس وجبهته الموالية له وما تضمه من فصائل التيار الإسلامي السياسي بكل ما يجمعها من خلافات وتباينات، هي التي تمسك الآن بزمام الموقف، وهي القادرة على المبادرة، في حين أن قوى المعارضة بفصائلها الثلاثة: الليبرالية والناصرية واليسارية باتت محصورة في دائرة رد الفعل ومحاولة إسقاط خيارات الرئيس وجبهته من دون قدرة على امتلاك زمام المبادرة ووضع الرئيس في دائرة رد الفعل . فقوى المعارضة خاضت على مدى الأشهر الأربعة الماضية معركتين من تخطيط الرئيس وجبهته الإسلامية بقيادة تحالف الإخوان مع السلفيين، الأولى، معركة الجمعية التأسيسية للدستور والثانية معركة الإعلان الدستوري، وها هي الآن تخوض المعركة الثالثة من أجل الدستور نفسه متجاهلة المعركة الكبرى والأهم بشأن الانتخابات التشريعية المقبلة . فقد خطط الإخوان والسلفيون منذ البداية ومنذ الاستفتاء على الإعلان الدستوري الأول يوم 30 مارس/آذار 2011 الذي أعدته لجنة المستشار طارق البشري بتكليف من المجلس العسكري، للسيطرة على صياغة الدستور الذي يريدونه لفرض النظام السياسي الذي يريدونه بديلاً للنظام المخلوع، أي أن أعينهم كانت مركزة على فرض نظام سياسي جديد يخضع لمشروعهم الإسلامي السياسي، لذلك تحالفوا مع المجلس العسكري مبكراً، في حين انخرطت قوى المعارضة أو معظمها، في صراع مبكر ضد ما اعتبروه “حكم العسكر”، ولعل هذا ما حفز المجلس العسكري ربما، إلى التحالف مع الإخوان والسلفيين مبكراً وقَبِل برؤاهم الخاصة بالإعلان الدستوري المذكور الذي نص على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية قبل وضع الدستور، وعندما وعى المعارضون، متأخرين، هذا المأزق وفجروا معركة الدستور أولاً قبل الانتخابات، كان الإخوان والسلفيون جاهزين لمعركة كسر عظم من أجل فرض خيار “الانتخابات أولاً”، فاعتبروها “غزوة صناديق”، واعتبروا أن التصويت ب “لا” عمل من أعمال الكفر والزندقة، في حين أن التصويت ب “نعم” أي على الإعلان الدستوري الذي يفرض الانتخابات أولاً، هو الإيمان بعينه وطريق الدخول إلى الجنة . نجاح الإخوان والسلفيين في معركة الإعلان الدستوري الأول كانت الخطوة الأهم في طريق بناء دولة المشروع الإسلامي، ففي حين انشغل المعارضون بمحاربة “حكم العسكر” كانوا هم يستعدون بكل جدية ومن دون مناقشة حقيقية من المعارضة، لمعركة الانتخابات التشريعية للبرلمان ففازوا بأغلبية مقاعد مجلس الشعب والشورى، وسيطروا على البرلمان كخطوة للسيطرة على اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية، حيث نص الإعلان الدستوري على أن يكون البرلمان هو من يختار أعضاء الجمعية التأسيسية لإعداد الدستور . في البداية اختاروا نصف الجمعية من برلمانيين موالين لهم وينتسبون إلى الإخوان والسلفيين، والنصف الآخر من خارج البرلمان من المؤيدين لهم أيضاً، ثم اعيد تشكيل الجمعية بعد الطعن بها أمام المحكمة الدستورية وجاء التشكيل الجديد هو الآخر بأغلبية إسلامية تتجاوز ثلثي الأعضاء نظراً لأن البرلمان هو المكلف، وفقاً لنص الإعلان الدستوري (30 مارس 2011) بتشكيل الجمعية التأسيسية . من هنا انخرطت قوى المعارضة غير المتجانسة في معركة المشاكسة داخل الجمعية التأسيسية للدستور بالأعداد المحدودة المعارضة داخل الجمعية، ثم تطور الأمر إلى خوض معركة إسقاط الجمعية التأسيسية ونقل الأمر إلى القضاء الإداري والمحكمة الدستورية العليا، والضغط على الأعضاء المعارضين داخل الجمعية التأسيسية وعلى اللجنة الفنية الاستشارية للانسحاب من الجمعية على أمل أن تؤدي حركة الانسحابات إلى تأجيل التصويت على مسودة الدستور، حتى يأتي موعد حكم المحكمة الدستورية على هذه الجمعية يوم 2 ديسمبر/كانون الأول الجاري، على أمل أن يقضي الحكم بحل هذه الجمعية وإجبار الرئيس على تشكيل جمعية أخرى بديلة . وفي غمرة انشغال المعارضة باللعب بورقة الأعضاء المنسحبين، باغت الرئيس الجميع بإصدار إعلانه الدستوري الجديد الذي استهدف منع المحكمة الدستورية من إصدار حكم بحل كل من الجمعية التأسيسية للدستور ومجلس الشورى، فقد حصّن هذا الإعلان كلاً من الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى من أي حكم قضائي، فضلاً عن أنه جمّد دور القضاء ووضعه تحت سيطرة الرئيس الذي أضحى مسيطراً على السلطات الثلاث في غيبة البرلمان: السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية . هذه الخطوة وضعت المعارضة في موقف شديد الصعوبة خاصة بعد نجاح رئيس الجمعية التأسيسية في الانتهاء مبكراً من الإعداد النهائي لمسودة الدستور في عمل ماراثوني غير مسبوق وفي تصويت معيب وغير ملتزم باللائحة الخاصة بذلك . مأزق المعارضة تفاقم بعد إحجام المحكمة الدستورية عن الانعقاد يوم الأحد 2 ديسمبر/كانون الأول الجاري بدواعي رفض محاصرتها من جانب آلاف المتظاهرين المؤيدين للرئيس من المنتسبين إلى التيار الإسلامي بفصائله المختلفة، ولم تجد المعارضة من وسيلة للرد إلا الزحف نحو القصر الرئاسي في مصر الجديدة للمطالبة بإسقاط الدستور وإسقاط النظام . لكن المشكلة الكبرى أن الرئيس والقوى الموالية له المدركة لواقع حال الشارع المصري الذي بات متضرراً من حالة الشلل الاقتصادي والأمني، اتجهت إلى استغلال هذه الحالة وطرح مطلب الاستقرار والاستمرار لمواجهة دعوة إسقاط الشرعية دون أي اكتراث بأنها تستخدم الحجج والشعارات نفسها التي كان يستخدمها نظام مبارك بربط الاستقرار باستمراره في السلطة في مواجهته خطر “الفوضى” الذي كان يطرح بديلاً لدعوة الثورة إلى التغيير وإسقاط النظام . المعركة الآن بين الشرعية التي تريدها المعارضة بديلاً لعدم الشرعية الراهنة للحكم من وجهة نظرها، مقابل طرح النظام لدعوة الاستقرار، والتحذير من الفوضى ومطالبة الشعب بقراءة الدستور وتحكيم العقل في التصويت ب “نعم” أو ب “لا” . المعارضة تطرح دعوة إسقاط الدستور، والسلطة مؤيدة من الإخوان والسلفيين تطرح دعوة التصويت للدستور، وفرض معركة التصويت للدستور بديلاً لدعوة إسقاطه أو تغييره، موقنة أن كل من سيقرأ ديباجة الدستور لن يجد ما يرفضه، ومتأكدة أن أغلبية الناس لن تستطيع أن تفرز المواد المرفوضة أو المطعون في شرعيتها، فضلاً عن الترويج لدعوة أن المعارضة سبق أن شاركت بعدد من ممثليها في إعداد معظم مواد الدستور، وأن المختلف عليه لا يزيد على عشر أو تسع عشرة مادة من إجمالي أكثر من 230 مادة، وهذا الاختلاف لا يبرر رفض الدستور في مجمله أو المطالبة بإسقاطه مع النظام . مليونية الثلاثاء الماضي كانت حاشدة وامتدت من ميدان التحرير إلى مصر الجديدة حيث قصر الرئاسة، وطالبت بإسقاط الدستور والنظام، لكنها لم تستطع وقد لا تستطيع إسقاط أي منهما، لكن الأهم والأخطر أنها لم تستطع إدراك أنها كانت ومازالت تستدرج إلى الانخراظ في معارك ليست من صنعها ولكن من صنع الطرف الآخر الذي يعرف مبكراً ماذا يريد، ويخطط لما يريد . نقلا عن صحيفة الخليج