موضوع المساواة بين الرجل والمرأة ووضع المرأة في الدستور هو الشغل الشاغل للطبقة السياسية المصرية هذه الأيام، وهذا ليس أمرا غريبا أو مثيرا للدهشة في حد ذاته. ولكن الغريب بحق أن سبب إثارة الموضوع يرجع إلى توجه غالبية أعضاء الجمعية التأسيسية ناحية الإبقاء على المادة المنظمة لهذا الشأن (المادة 36) وفق صياغتها التي كانت عليها في دستور 1971، والتي تؤكد على التزام الدولة باتخاذ كافة التدابير التي ترسخ المساواة بين الرجل والمرأة دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية. وكانت كلمة السر التي أثارت الجدل هي بطبيعة الحال "أحكام الشريعة الإسلامية". فقد اعتبر مثيرو هذه الأزمة أن النص على هذه العبارة مظهر من مظاهر التحيز والرجعية، وتهديد للحريات، وتهميش لدور المرأة، واختزال لمكتسباتها عبر نصف قرن، إلى آخر هذه القائمة المألوفة من الاتهامات. أما الجديد هذه المرة فتمثل في إشارة البعض إلى أن النص على حكم الشريعة يعد ارتدادا عن مشروع الحداثة وهدما لأحد مقومات الدولة الحديثة. وذلك على اعتبار أن الأخيرة تقوم على أساس مجموعة من العناصر التي ليس من بينها بطبيعة الحال أحكام الشريعة الإسلامية. هذه الإشارة إلى الحداثة والقلق عليها تكشف العديد من النقاط المسكوت عنها في موقف العلمانيين من الدستور وموقع المرأة فيه. فالمشروع الحداثي له تحيزاته المعروفة، ويأتي التصريح بهذه التخوفات على وضع المرأة في الدستور الجديد ليعكس تبني أصحابها لهذه التحيزات، وليفسر حالة الصخب التي أثيرت طوال الفترة الماضية بشأن إقرار المادة الثانية من الدستور (الخاصة بحاكمية الشريعة)، والصعود الإسلامي في كل من الانتخابات البرلمانية والرئاسية. الأمر الذي يستدعي إلقاء الضوء على بعض من هذه التحيزات. أول التحيزات المرتبطة بالمشروع الحداثي هو اعتباره أن المنظومة الدنيوية منظومة مكتفية بذاتها وليست بحاجة إلى قوانين سماوية المصدر. ولذا يفزع المنتمون لهذا المشروع ويصابون بحالة من القلق عند أي إشارة إلى الشريعة أو إلى الوحي، فالمنظومة الاجتماعية وفقا لهم مثلها مثل المنظومة الطبيعية يمكن فهمها من داخلها. وكما أن الظواهر الطبيعية يمكن التحكم فيها من خلال مجموعة القوانين الفيزيائية فحسب ومن دون استعانة بالوحي السماوي، فإنهم يؤمنون أن فهم المجتمع ومن ثم التحكم فيه ممكن من خلال مجموعة القوانين التي تصنع داخله، دونما حاجة إلى ما يتجاوزه من شريعة أو نصوص مقدسة. يفسر هذا التحيز تمسك العلمانيين بفكرة القانون الوضعي ورفضهم لمبدأ وجود سلطة متجاوزة لسقف المحسوس والمشاهد، أو بعبارة أخرى رفضهم لتدخل الغيب في الواقع. على اعتبار أن البشر قادرون على أن يديروا أمورهم بأنفسهم. ويتعامل مثقفو الحداثة مع أي محاولة لاختراق البنية الوضعية للتشريع على أنها بمثابة محاولة انقلاب على فكرة الدولة ذاتها، فالدولة الحديثة لا تخضع لغير إرادات أفرادها، ولا تحتكم إلى نص مقدس. ولكنها رغبة في الحفاظ على مستوى الصراع عند الحد الأدنى قد تنص على أن مبادئ الدين هي أحد مصادر التشريع بها، في الوقت الذي تنشر فيه أخلاقيات وأفكار تتعارض معه وتخالفه على طول الخط، خاصة فيما يتعلق بموضوع العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع الحديث. من التحيزات الحداثية أيضاً فكرة مضاهاة المجتمع الإنساني بالماكينة الكبرى وتحويل أفراده إلى وحدات أو عناصر نمطية تتكون منها هذه الماكينة. وعلى هذا الأساس يبتغي المشروع الحداثي تحقيق نوع من التشابه بين الأفراد وبعضهم البعض، على اعتبار أن هذا التشابه والنمطية هي أفضل السبل للتحكم بالمجتمع. ومن هنا ثارت مشكلة الأقليات مبكرا في المجتمعات الحداثية، حيث كان ينظر إلى الأقليات، ومنها النساء، على أنهم بمثابة خروج على النسق العام للمجتمع وانحراف عن الخطة الكبرى التي تحكم أداءه، إلى أن تمت معالجة هذه الثغرة من خلال التأكيد على مبدأ المساواة أمام القانون وذلك لإشعار الأقليات أنها عناصر معتبرة في إطار تسيير آلة المجتمع. ولكن رغم هذا التلطيف الذي طرأ على الفكرة الأصلية فمازال من ضمن أسس المجتمع الحداثي (الغربي) أن تحصل المرأة العاملة على أجر أقل من أجر نظيرها الرجل، وحتى وقت قريب كانت الكثير من الدول الغربية تمنع المرأة من التصويت في الانتخابات (لم تحصل المرأة على حق التصويت في الانتخابات في السويد إلا عام 1971). كما أدت المساواة الكاملة للمرأة بالرجل في الغرب إلى اختزال قدر هائل من قيمتها الإنسانية، والهبوط بها إلى مستوى من الامتهان الذي اضطرت بسببه أن تبيت في ورديات ليلية متأخرة، وتعمل في الأعمال الخشنة، بحيث صارت عتالة وسائقة شاحنات ونادلة في الحانات، وكل هذا تحت شعار المساواة المنبثقة من الفكرة الحداثية. وأخيرا وليس آخرا فإن من التحيزات الحداثية الإيمان المطلق بفكرة التجريب، فالتجربة هي معيار التمييز بين المفيد والضار. وقد اعتبرت النظريات الحداثية أن الإنسان ما هو إلا مجموعة سلوكيات خارجية محكومة بقوانين محددة، يمكن حال اكتشافها بالتجربة أن يتم التحكم في سلوكه وتعديله. ومن هنا صارت التجارب تجرى على البشر كما تجرى على العناصر الطبيعية. أما الأمر المدهش فيما يتعلق بهذا التحيز فهو أنه يستثني تجربة تطبيق النصوص الدينية واختبار أثرها في حياة الإنسان الاجتماعية. فالنصوص المقدسة بالنسبة للحداثيين تشبه نصوص السحر التي تتضاد مع عقلانية مشروعهم، ولذا فهي مستبعدة من نطاق المشروع الحداثي، بما في ذلك بطبيعة الحال النصوص المتعلقة بالعلاقة بين الرجل والمرأة والتي يصنفها هؤلاء على أنها مضادة للحداثة ومهددة لها. في إطار هذه التحيزات الكامنة يمكن أن نفهم السياق الذي تطرح من خلاله مسألة وضع المرأة في الدستور المصري الجديد، والوقوف على المسكوت عنه في خطاب من يتصدون للحديث باسمها، خاصة فيما يعلنونه من تمسكهم بأن تأتي أي إشارة إلى الشريعة الإسلامية في الدستور مسبوقة بكلمة مبادئ وليس بكلمة أحكام، فوفقا لهذا الفهم يبدو أن ما يعنيه هؤلاء بلفظة مبادئ ما هو إلا مبادئ الحداثة بعد إلباسها ثوبا دينياً، وليس أكثر من ذلك. نقلا عن الشرق القطرية صحيفة