تحت عنوان «مرسي يقوم بتحركه» نشرت مجلة الشئون الخارجية، الناطق غير الرسمي بلسان الخارجية الأمريكية. والتي تصدر كل شهرين في عددها الصادر في 20 أغسطس مقالاً بقلم ستيفن كوك يوضح مدي القلق والخوف علي المصالح الأمريكية في المنطقة. والرعب الذي قد تتعرض له قاعدتها العسكرية إسرائيل نتيجة أحداث الربيع العربي وعلي رأسها الثورة المصرية بعد التحرك الأخير للرئيس محمد مرسي بإقالة قادة المجلس العسكري الأعلي وعلي رأسهم المشير طنطاوي. يقول كوك: ماذا يعني اختطاف مرسي للسلطة بالنسبة للقاهرة وواشنطن؟ عند نهاية الأسبوع قام الرئيس المصري محمد مرسي بإقالة طنطاوي وزير الدفاع والفريق عنان رئيس الأركان. كما ألغي الإعلان الدستوري المكمل الذي أصدره المجلس العسكري في 17 يونيو. والذي بمقتضاه جرد مرسي من سلطاته كرئيس بالنسبة لأمور حيوية خاصة بالأمن القومي والدفاع. وجاء تحرك مرسي بمثابة صدمة.. ومع ذلك فإنه لم يفعل إلا ما يفعله أي زعيم قومي يتولي السلطة وهو تدعيم سلطاته. وفي الأيام القادمة سيتركز أغلب التعليق علي حركة مرسي علي أثرها علي المرحلة الانتقالية في مصر خصوصا اتجاه العلاقات المدنية العسكرية الذي كان في صالح القوات المسلحة طوال الستين عاما الماضية. وبنفس الأهمية تكون مسألة كيف ستتسبب التغيرات الأخيرة في القيادات العسكرية علي روابط مصر بأمريكا. وإذا كان لنا أن نسترشد بالتاريخ فإن غربلة مرسي لقمة القيادات في وزارة الدفاع المصرية ستعقبها إعادة توجيه العلاقة الاستراتيجية بين القاهرةوواشنطن. فعندما استولي عبدالناصر ورفاقه علي السلطة في يوليو 1952 فقد كانوا مستعدين - باستثناءات قليلة - الدخول في تحالف أمني عربي. ومن جانبها كانت إدارة أيزنهاور تنظر لقادة مصر الجدد علي أنهم حلفاء محتملون مهمون لها في مواجهة الاتحاد السوفييتي. وقامت السفارة الأمريكية في مصر بتدعيم علاقتها بكل من عبدالناصر ومحمد نجيب الذي كان واجهة مجموعة الضباط الأحرار. وفي نفس الوقت بدأت واشنطن تساعد القاهرة علي تطوير جهاز مخابرات سرية مصري. وفي صيف 1954 طلب عبدالناصر من واشنطن مساعدات عسكرية واقتصادية قيمتها مائة مليون دولار. ولكن واشنطن قدمت له أربعين مليون دولار فقط. وزرع هذا التصرف بذور عدم الثقة بين الطرفين وغضبا لدي المصريين ولكنه لم يؤد لقطع العلاقات بينهما. وخلال الستة شهور التالية سارت الأمور. تخلص الضباط الأحرار من آخر التحديات لحكمهم وخصوصا من الإخوان المسلمين، ودعم عبدالناصر قبضته علي السلطة. وكجزء من هذا الاتجاه أصبحت القاهرة عضوا متزايد النفوذ في حركة عدم الانحياز واتبعت سياسة خارجية هي «الحياد الإيجابي». وكانت سياسة تتضمن ضرب القوي الكبري بعضها ببعض لصالح مصر. كما تتضمن الحصول علي السلاح من دول غير أمريكا. مما قاد مصر إلي عقد صفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية 1955. وكانت أضخم عملية نقل للسلاح لأي دولة بالشرق الأوسط في ذلك الوقت. وبداية إلي دخول عبدالناصر في فلك الاتحاد السوفييتي. وعقب وفاة عبدالناصر كان تركيز السادات للسلطة في يده وتحويل استراتيجية أكثر حدة من سلفه. فكشرط لتسليمه السلطة 1970 كان سماسرة السياسة في الاتحاد الاشتراكي- وهو الحزب الذي أنشأه عبدالناصر لإدارة الدولة وليكون أداة في يده - كان سماسرة الحزب يصرون علي التزام السادات بقيود علي سلطته الرئاسية - وكان أهم شرط وضعوه له هو أن تكون القيادة جماعية. مما يعني التزام السادات بكل ما تضعه اللجنة المركزية من قيود علي كل الأمور المهمة. وبحلول مايو 1971 كان السادات قد جمع ما يكفي من التأييد خاصة وسط العسكريين وضباط البوليس للإطاحة بالرجال الأربعة الذين حاولوا تقييد سلطاته وهم: شعراوي جمعة وزير الداخلية. وسامي شرف وزير رئاسة الجمهورية، وعلي صبري رئيس الاتحاد الاشتراكي. والفريق محمد فوزي وزير الدفاع. وكان الضباط الذين رقاهم السادات للحلول محل المفصولين رجالا أكفاء ركزوا علي المعركة القادمة مع إسرائيل. التي كانت تحتل سيناء عندئذ. وقد واجه السادات تحديات خصوصا من وزير الدفاع الذي اختاره وهو الفريق محمد صادق بسبب الخلاف علي الخطة الحربية. ولكن بعد طرد صادق وعبور قناة السويس بنجاح 1973 أصبح السادات قائدا مستقلا. ومنذ تلك اللحظة استطاع وضع تغييرات كبيرة في سياسة مصر الخارجية. فبعد حرب أكتوبر تباعد السادات عن الاتحاد السوفييتي الذي ساعده كثيرا ومكنه من نجاح مصر في فتح صفحة جديدة من التعاون الاستراتيجي مع أمريكا. أما حسني مبارك الذي خلف السادات 1981 عقب اغتياله فلم يتعرض لأي تحديات لسلطته لانه كان يتمتع بعلاقات جيدة متطورة ويحظي بكثير من حسن الظن به وسط العسكريين والنخبة السياسية. أما مرسي خليفة مبارك فيبدو أنه يتمتع بالكثير من خصائص السادات- فمثله في ذلك مثل السادات كان مضطرا في البداية لقبول قيود علي سلطاته الرئاسية ومثل السادات حارب مرسي من أجل سلطاته المسلوبة. ففي أقل من أسبوع قام رئيس مصر الجديد بعزل ليس فقط طنطاوي وعنان بل عزل أيضا مراد موافي رئيس جهاز المخابرات السابق. فقد كان كل من العسكريين وجهاز المخابرات يعارض مرسي والإخوان المسلمين. وبطبيعة الحال كان طنطاوي وعنان بصفتهما قادة المجلس العسكري الأعلي هما اللذين أصدرا مرسوم 17 يونيو. وبطبيعة الحال فالظروف مختلفة تماما حاليا. ولكن طرد طنطاوي وعنان وموافي يعيد إلي الأذهان طرد علي صبري وشعراوي وسامي شرف والفريق فوزي من قبل أكثر من واحد وأربعين عاما من اليوم. من الصعب استخلاص نتائج الآن عن التوجه الاستراتيجي الجديد لمصر. ولكن يبدو أن سياسة مصر الخارجية خلال منتصف خمسينيات القرن الماضي أكثر شبها من السياسة المتوقعة حاليا منها للسياسة التي اتبعتها مصر طوال الأربعين سنة الماضية. فلا يعرف المراقبون السياسيون الكثير عن الرجل الذي خلف المشير طنطاوي في منصب وزير الدفاع وهو اللواء عبدالفتاح السيسي. إذ لا يعرفون عنه إلا أن سنه سبعة وخمسين سنة. وأنه كان ضابط مشاه سابق. وأنه كان رئيسا للمخابرات الحربية إذا كان السيسي أو محمد رفعت شحاتة الرئيس الجديد لجهاز المخابرات الذي يبدو أن تعيينه فيها مؤقت، أو صدقي سيد أحمد رئيس الأركان الجديد إذا كان لهؤلاء القادة الثلاثة الجدد نظرة شاملة في السياسة الخارجية العالمية فهي نظرة غير معروفة جيدا. ولا نعتقد أن ذلك له أهمية. لأنهم في نهاية المطاف يدينون بمنصبهم لمحمد مرسي. ومن المعروف عالمميا علي نطاق واسع هو أن الموقف الثابت للإخوان المسلمين معارض تماما للعلاقة الاستراتيجية بين مصر وأمريكا. ومن المعروف ان موافي وعنان وطنطاوي كانوا من أشد المتحمسين لعلاقة استراتيجية مع أمريكا. فالواقع أنه تحت إشراف طنطاوي الذي أصبح وزيرا للدفاع سنة 1991 تمتعت أمريكا بحقوق المرور السريع في قناة السويس لسفنها الحربية. كما تمتعت بحقوق الطيران عبر الأجواء المصرية لطائراتها الحربية. وحق التدريب في صورة مناورات النجم الساطع. وهي أكبر مناورات حربية من نوعها في العالم كله، ولذلك كان موافي وعنان موضع احترام كبير في واشنطن لحرفيتهم ولتعاونهم مع أمريكا. ولذلك فمن المنطقي أن طرد مرسي لقمة قيادات الأمن القومي والدفاع يعني ولو جزئيا تحولا في سياسة مصر الخارجية بعيدا عن أمريكا. ولكن ليس واضحا الآن إلي أي دولة ستتحول سياسة مصر الخارجية. فليس هناك أي قوة أخري في العالم تستطيع أن تكون حامية لمصر. ولكن ربما لا يريد قادة مصر الجدد أن تكون لمصر دولة حامية. فمصر التي تمثل ربع سكان العالم العربي وتقع استراتيجيا علي شواطئ قناة السويس وعلي حدود آسيا وأفريقيا في نقطة التقائهما. مصر هذه تمثل قوة في حد ذاتها، وقد يكون وصول كل من السيسي وأحمد وشحاتة لمناصبهم علامة علي رغبة مصر في اتباع سياسة خارجية أكثر تماشياً مع مركزها الأدبي وأنها تريد تقاربا مع كل العالم بحيث لا تميل سياستها الخارجية نحو أي دولة بعينها. أو تكون لها علاقة خاصة بدولة علي حساب دولة أخري. وأن مصر تريد تحويل سياستها الخارجية لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة لمصلحتها الوطنية بعكس ما كان وضعها الذي رآه الجميع طوال الثلاثين سنة الماضية. وإذا كان هذا هو ما يدور في ذهن قادة مصر الجدد. فيبدو أن رئيس مصر الجديد الخارج من صفوف الإخوان المسلمين هو ناصري صميم. وعندما يدعم مرسي سلطته فقد يكون المصريون علي طريق «حياد إيجابي» جديد يعيد لهم الماضي. وإلي هنا ينتهي هذا المقال المتميز في تحليله. ومن يراقب ما تحاول أمريكا عمله لفرض السيطرة علي رئيس مصر الجديدة بالتلويح بعدم المساعدة الاقتصادية ما لم تلتزم مصر بسياسة معينة تجاه معاهدة السلام مع إسرائيل، وتجاه ما تسميه مشكلة اضطهاد الأقليات في مصر لدرجة الزعم بأن أكثر من مائة ألف من إخواننا الأقباط قد هاجروا من مصر منذ ثورة 25 يناير المجيدة. ويصل الاستخفاف إلي درجة مطالبة مصر بتطبيق ديمقراطية تعددية. وكأن ستين عاما من الدكتاتورية العسكرية تحت إشراف ومباركة أمريكا كانت أزهي عصور الديمقراطية علي حد تعبير رئيس مجلس الشوري المنقرض خلال حكم مبارك السعيد. وكأن أمريكا لا تدري أننا ندري أن تطبيق ديمقراطية حقيقية في مصر وأخذ المصريين لمصائرهم في أيديهم هو أكبر كارثة تحل بمصالح أمريكا الاستعمارية بالمنطقة. وأخيراً تتخطي أمريكا درجة الصراحة إلي الوقاحة الفجة فتطلب من رئيس مصر عدم حضور مؤتمر عدم الانحياز في طهران عقابا لإيران علي عدم التزامها بتعليمات أمريكا بإيقاف برنامجها النووي حتي يبقي العدو الإسرائيلي ذراع أمريكا العسكرية في المنطقة منفردا بملكية السلاح النووي. تتصرف أمريكا كما لو كان رئيس مصر مديرا لإحدي إدارات الخارجية الأمريكية. أو رئيسا لإحدي جمهوريات الموز في الأيام الخوال الجميلة عندما قبضت علي سبيل المثال علي نور ييجا رئيس جمهورية بنما في مكتبه الرئاسي وأخذته إلي سجن في نيويورك ومازال قابعا فيه. مسكينة أمريكا التي لا تريد أن تري أن العالم قد تغير تماما. وأن مركز الثقل العالمي للقوة يتحرك ببطء نحو الشرق حيث الصين واليابان. ولا تريد ان تتعظ من كوارثها الماضية في فيتنام. وخسائرها الفادحة التي دمرت اقتصادها في حرب العراق ثم حرب أفغانستان التي مازال دمها ينزف فيه بغزارة، ولكن الأمر مرهون في النهاية بالشعب الأمريكي الذي يأمل العالم أن يصحو يوما ما في القريب العاجل ويري ما يفعله به مجمع الأشرار العسكري/ الصناعي فيضع له حدا لصالحه وصالح باقي العالم. ----- نائب رئيس حزب الوفد