يبدو أن الأخطاء التى وقعت فيها الثورة المصرية فى إدارة المرحلة الانتقالية، قد أصبحت رأس الذئب الطائر، الذى تتعلم منه ثورات الربيع العربى، باعتباره النموذج، الذى يقود إلى تعقيدات، لا حل لها، وإلى نتائج لا تجلب الاستقرار بل الفوضى. فبعد تونس، تأتى المرحلة الانتقالية الليبية، لتقدم نموذجاً مختلفاً لهذه الإدارة، وعلى عكس مما حدث فى مصر، فإن الثورة الليبية بدأت خطواتها بتشكيل حكم انتقالى مدنى لمدة عام، يتولاه برلمان انتقالى هو المؤتمر الوطنى العام، الذى يتكون من مائتى عضو، ينتخبون فى انتخابات عامة، جرت بنظام انتخابى مختلط يجمع ما بين القوائم الحزبية (80 عضوا) والدوائر الفردية (120عضوا)، وهو مجلس تشريعى مؤقت يستمر لمدة عام واحد فقط من تاريخ انعقاده، يختار خلاله حكومة انتقالية، تتولى السلطة التنفيذية، وتشرف على إجراء انتخابات لجمعية تأسيسية، تتولى وضع الدستور الدائم للبلاد، وإجراء انتخابات عامة طبقا لهذا الدستور، لمجلس تشريعى جديد ورئيس للبلاد. وبهذا الترتيب لخطوات المرحلة الانتقالية، تجاوزت الثورة الليبية، الخطأ الذى وقعت فيه الثورة المصرية،حين بدأت بمحاولة لتعديل دستور عام 1971، ثم بإصدار الإعلان الدستورى المؤقت، وإجراء انتخابات برلمانية قبل وضع الدستور الدائم، وهو الوضع الذى نشأت عنه كل الارتباكات التى لا نزال نعانى منها حتى اليوم. وقد يبدو ظاهريا أن الوضع فى ليبيا أقل تعقيدا من الوضع فى مصر، ولكن الحقيقة أنه أكثر تعقيدا، بما لا يقاس فى مصر. فالكتلة الكبرى من الجيش الليبى كانت تقف ضد الثورة، وتحاول إجهاضها، وقد تفكك الجيش الليبى فى أعقاب هزيمة النظام السابق وسقوطه. ثم إن ليبيا، على العكس من مصر، لاتزال مجتمعا قبليا، تلعب فيه القبائل دوراً سياسياً مؤثراً، فضلا عن أنها كانت لحين تسلم «معمر القذافى» السلطة عام 1969، دولة شبه فيدرالية تتكون من ثلاث ولايات هى طرابلس وبرقة وفزان، وتندلع الآن مظاهرات فى شرق ليبيا، يقودها أنصار إمارة إسلامية، تطالب بإعادة الفيدرالية، وهو ما جعل كثيرين يتوقعون أن تسفر الثورة عن مرحلة من الفوضى، نتيجة هذه العوامل المعقدة. وربما كانت هذه التعقيدات هى التى دفعت الليبيين للبحث عن حلول مبتكرة، لادارة المرحلة الانتقالية، أدت الى النتائج التى كشفت عنها انتخابات المؤتمر الوطنى العام، وأعلنت نتائجها فى الاسبوع الماضى، وهى نتائج أسفرت عن تشكيل برلمان أكثر توازنا فى تركيبته من النتائج التى جاءت بها أول انتخابات برلمانية جرت فى مصر بعد الثورة، وقادتنا إلى المصاعب التى نواجهها الآن. وتقول هذه النتائج إن تحالف القوى القوى الوطنية الذى يقوده محمود جبريل (60 عاما) قد فاز بأربعين مقعدا، أى50% من المقاعد المخصصة للقوائم، بينما لم يحصل حزب العدالة والبناء الذى يمثل الإخوان المسلمين إلا على 17 مقعدا فقط، بينما فازت قوائم الأحزاب الصغيرة بما تبقى من مقاعد القوائم، وهى23 مقعدا، وفاز بالمقاعد الفردية التى تبلغ 120 مقعدا المستقلون، الذين لم تتضح بعد مواقفهم السياسية من الكتلتين الرئيسيتين. وعلى عكس ما حدث فى مصر وتونس، فقد بدا وكأن الإسلاميين لا يتصدرون المشهد فى ليبيا، بل يتصدره تحالف مدنى وسطى ديمقراطى ضم نحو 60 حزبا حاز على أغلبية أصوات الناخبين، بفضل نجاح قائده السياسى المحنك ورئيس الوزراء أثناء الثورة محمود جبريل فى توحيد القوى والأحزاب والشخصيات المدنية الليبرالية، حول برنامج يدعو إلى إعادة بناء الدولة الليبية، التى تفككت فى عهد النظام السابق، على أساس أن تكون دولة القانون والدستور. ومع أن كلتا الكتلتين الرئيسيتين، اللتين فازتا بمعظم مقاعد القوائم، لايزال يراهن على إمكانية نجاحه فى استقطاب ما تبقى من نواب قوائم الأحزاب الصغيرة، والمستقلين إلى صفه، إلا أن فرص نجاح التحالف الوطنى الذى يتزعمه محمود جبريل هى الأعلى. وأهم ما تكشف عنه نتائج الانتخابات الليبية حتى الآن، هى أنها سوف تسفر عن تركيب متوازن للبرلمان الانتقالى، وبالتالى للوزارة التى سوف يشكلها، بما لا يتيح لتيار واحد فرصة للهيمنة على المرحلة الانتقالية، أو لإعادة بناء الدولة طبقا لرؤاه الأيديولوجية، مما قد يؤدى إلى إعادة بناء الدولة الاستبدادية التى أسقطتها الثورة، من خلال صياغة دستور يؤسس لدولة دينية استبدادية! هذان درسان تقدمهما الثورة الليبية لنظيرتها المصرية، يقول الأول منهما إن وحدة القوى المدنية الليبرالية الساعية لبناء دولة عصرية حديثة، هى المحك الذى يقاس على أساسه نجاح ثورات الربيع العربى، وفى القلب منه الثورة المصرية، فى تحقيق هدفها الرئيسى. فقد قامت هذه الثورات ضد انظمة حكم استبدادية وديكتاتورية، وبهدف تقويض دولة الاستبداد الوطنى، التى أقيمت فى العالم العربى لتحل محل الحكم الاستعمارى، فأقامت نظما وحشية، جعلت شعوبها تترحم على عهود الاستعمار، وهى لم تقم لإحلال دولة دينية استبدادية محل التى سقطت. أما الدرس الثانى، فهو أن التوافق الوطنى العام بين القوى المدنية والليبرالية، فضلا عن قوى التيار الدينى على الخطوات المنظمة لإدارة المرحلة الانتقالية، هو الذى أدى إلى التوصل لآلية لتحقيق هذه النتيجة، وحال دون سيطرة أى قوة سياسية واحدة على مستقبل الوطن. ومن الإنصاف للتيار المدنى المصرى أن نقول إنه طرح هذا المنهج فور نجاح ثورة يناير، ورفع شعارات تطالب بتشكيل مجلس مدنى لإدارة المرحلة الانتقالية، ووضع الدستور أولا، ولكن جموح التيار الإسلامى، ورغبته العارمة فى الهيمنة، قادتنا إلى السيناريو الذى انتهى بنا إلى المآزق الراهنة، وربما يكون الأوان قد فات لاستدراك هذه الاخطاء، ولكن لا تزال امامنا فرصة فى مطلع المرحلة الانتقالية الثانية لإصلاح بعضها الآخر، هذا إذا خلصت النوايا، وتنزه التيار الدينى عن شهوة التسلط والتكويش والهيمنة.