بسبب انشغال المصريين، بجولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية، فات على الكثيرين منهم أن يتابعوا كثيرا من أخبار العالم، على الرغم من أن بعضها لم يكن بعيدا عما يشغلهم. من بين هذه الأخبار الأنباء التى تدفقت خلال الايام العشرة الماضية عن مظاهرات عارمة تشهدها المدن السودانية منذ نحو أسبوعين، بعد أن وافق البرلمان السودانى على خطة تقشف تقضى بإلغاء الدعم عن البنزين والسلع الأساسية، وزيادة الضرائب، فضلا عن اجراءات حكومية تقشفية، ترفع من حدة الغلاء، وتفاقم من معاناة الفقراء ومحددى الدخل. برر الرئيس السودانى «البشير» الإجراءات، بأن السودان ليس بمعزل عن الأزمة الاقتصادية التى يمر بها العالم، بالإضافة الى ضرورة مراعاة الظروف الخاصة التى يمر بها، والمتمثلة فى انفصال الجنوب، وتأثير وقف تدفق الموارد النفطية على الاقتصاد. وهو المعنى نفسه الذى أكده بتفصيل أكثر وزير المالية السودانى «على محمود» حين أعلن تمسك الحكومة بقرار خفض دعم الوقود حتى بعد اندلاع المظاهرات، لسد العجز فى الموازنة، الذى وصل الى 2.4 مليار دولار، بالاضافة إلى التقارير الدولية التى تتحدث عن نسبة تضخم تصل إلى 30%. خلال 23 عاما من حكم ما عرف «بثورة الإنقاذ» التى قادها جناح من الإخوان المسلمين بقيادة المفكر الاسلامى الدكتور «حسن الترابى» وتلميذه الجنرال «عمر البشير»، للإطاحة بحكم ديمقراطى طائفى منتخب، وتطبيق ما عرف «بالمشروع الحضارى الاسلامى»، تدهورت حياة الناس، من ارتفاع فى نفقات المعيشة، واستشراء الفساد فى مؤسسات الدولة والحكم، وهجرة نحو 12 مليون سودانى إلى أنحاء العالم معظمهم من الكفاءات بعد إقرار سياسة التمكين فى قطاعات الخدمة المدنية وتهميش ملايين السودانيين لا يدينون بالولاء لحزب المؤتمر الوطنى الحاكم، وتغيير التركيبة الاجتماعية للمجتمع السودانى، إلى انفصال الجنوب، واندلاع حروب أهلية فى أقاليم الشرق والغرب، واستصدار المحكمة الجنائية الدولية قرارا أمميا بمحاكمة الرئيس السودانى بتهم ارتكاب جرائم حرب فى تلك الأقاليم. وخلال هذه السنوات تراكمت المشكلة الاقتصادية التى يدفع ثمنها فى العادة غالبية الشعب السودانى، نتيجة سوء الإدارة، والعقوبات التجارية الأمريكية والغربية، والمغامرات السياسية، التى دفعت نظام الإنقاذ، إلى تبنى خطاب دينى متشدد، وتفسيرات متزمتة للشريعة الإسلامية، سببت له مشاكل داخلية انتهت بانفصال جنوب السودان عن شماله، بالحروب الجهادية التى شنها ضده، ونزوع القوميات الأخرى إلى الرغبة فى الانفصال، ومشاكل خارجية عقدت علاقاته بالمجتمع الدولى، ودول المحيط الإقليمى، حين اتخذ من السودان موطنا لمنظرى الإرهاب الدولى، أمثال «أسامة بن لادن»، و«كارلوس»، واضطر النظام تحت وطأة مصالحه إلى تسليم الثانى، حيث يقبع فى أحد السجون الفرنسية، وترحيل الأول حيث قتل فى إحدى المدن الباكستانية على يد قوة خاصة أمريكية، كما تعقدت علاقات نظام الإنقاذ بمصر خلال هذه الفترة لإيوائه لجماعات العنف الدينى المسلح المصرية. تجاهل نظام الانقاذ ومشروعه الحضارى الإسلامى، الذى افترق عنه الدكتور حسن الترابى فى عام 1999، بعد صراع على السلطة، بين منظر الثورة، وواجهة تنفيذها، أن السودان بلد متعدد الديانات والثقافات والقوميات والأعراق، وأن وحدته هى فى تنوعه الثرى، ولم يضع فى اعتباره أن الدولة المدنية الوطنية الحديثة، هى التى ترعى هذا التنوع، وتحفظ حقوق أتباعه، لأن هذا بالضبط هو العاصم الوحيد، من الحروب الأهلية، وهو الطريق الذى لا سبيل غيره للحفاظ على وحدة الوطن، والحفاظ على سلامة أراضيه، ويحول دون تجزأته إلى كنتونات طائفية أو عرقية. لم يتعلم نظام الإنقاذ من تجاربه المريرة، واستدعى خطابه الدينى المتشدد، وهو يواجه المظاهرات التى تحتج على الغلاء وشظف العيش، بالقنابل المسلة للدموع والضرب بالهراوات والسحل وإلقاء القبض على المعارضين وجلدهم، وتهديدهم بإطلاق بلطجية الحزب الحاكم، وهم من يسميهم البشير بالمجاهدين لمواجهة احجاجاتهم، بعد أن وصف المتظاهرين بالخفافيش والمرجفيين، وشذاذ الآفاق، لتصبح المعركة كما قال مساعد رئيس الجمهورية «نافع على نافع».. بين فريق السودان الجديد العلمانى، وفريق الأوبة والتوبة إلى الله، الذى ينتمى إليه هو ومسئولو الإنقاذ بطبيعة الحال، ولم يفت عليه وهو يقسم السودان إلى كفرة ومؤمنين، أن يهدد الصحافة قائلا: إن أى صحيفة تسعى إلى ضرب المشروع، يجب أن تقطع رقبتها، ولا يكتفى بمصادرتها! لم تكن مصادفة إذن أن المظاهرات التى اندلعت فى المدن السودانية، قد طالبت بإسقاط النظام، لتقدم بذلك إشارة واضحة إلى أن ثورات الربيع العربى التى انتهت بإسقاط أنظمة مدنية استبدادية، فى تونس ومصر وليبيا واليمن، وتتهدد النظام الحاكم فى دمشق، لتحل محلها، عبر الآليات الديمقراطية، التيارات الداعية إلى إقامة دولة إسلامية، قد وصلت إلى السودان، الذى كان قد سبق هذه الدول جميعا، بالانقلاب على الدولة المدنية التى كانت قائمة فيه، بالانقلاب العسكرى الذى قاده جناح من الإخوان المسلمين، وعدد من قادة الجيش، لتنفيذ المشروع الحضارى الإسلامى، فأسفر هذا المشروع عن دولة فاشلة، تنتهك فيها الحريات العامة والخاصة، وتحاصر النقابات والأحزاب، وتصادر حريات الصحف والتعبير، وتقمع فيها مظاهرات سلمية ترفض الجوع والفقر وتنشد العدل والديمقراطية الحقيقية، لا تلك التى تم إفراغها من محتواها، بأساليب غير سياسية وغير أخلاقية، ويجرى فيها تداول للسلطة، ويحظر فيها اقحام الدين فى الفضاء العام والسياسى والانتخابى، لكى يحل عبر آلياتها الانتخابية، ديمقراطيون محل ديمقراطيين، لا أن يحل استبداديون محل استبداديين، وهو درس من الدروس التى يبتدع الشعب السودانى تعليمها للآخرين، ينبغى أن يعى دلالته جيدا حزب الحرية والعدالة، وحلفاؤه من الفصائل الإسلامية الأخرى.