نشرت جريدة هفنجتون بوست في 26/3 مقالها الرئيسي للكاتبين تشارلز دافيس وميريا بنيامين تحت عنوان «الاستقرار يفوق الديمقراطية في مصر» ذكرا فيه بصراحة تامة ما يشغل أمريكا بالنسبة للوضع في مصر. يقول الكاتبان إنه عندما واجه حكام مصر غير المنتخبين الثورة الشعبية فإن مواجهتهم لها كانت بمضاعفة القمع وسجن المتظاهرين السلميين وقتل العشرات ممن جرأوا علي ممارسة حقوقهم، أما هؤلاء الذين لم تقتلهم قوات أمن الدولة لمطالبتهم بحقوقهم الديمقراطية فقد ألقت عليهم قنابل الغاز وقدمتهم لمحاكم عسكرية مشكوك في عدالتها، هذا في الوقت الذي تؤكد في الديكتاتورية الحاكمة للعالم ولشعبها أنها تعدهم بإصلاحات ديمقراطية. إذا كان القمع الذي وقع في مصر قد وقع في سوريا أو إيران لكان رد فعل واشنطن حاسماً بل وعدوانياً، ولكن حيث إن أجهزة القمع تابعة لحكومة انقلاب عسكري في مصر فإن «نصائح» واشنطن لما تتسم بالخجل وتقدم معها هبات نقدية، والواقع كما أعلنت وزيرة خارجية أمريكا هيلاري كلينتون فإن إدارة أوباما تتجاهل نصاً تشريعياً يجعل تقديم المعونة العسكرية لمصر مشروطاً بقيام حكامها بتطبيق سياسات تحمي حرية التعبير والاجتماع وممارسة العقيدة، وهذا التجاهل للقانون يمكن الحكومة الأمريكية من إرسال مليار ونصف المليار دولار لمصر من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين يذهب أكثر من 85٪ منها للقوات المسلحة. إذا ركزنا اهتمامنا فقط علي ما يقوله السياسيون وليس علي ما يفعلونه فإن ذلك يسبب دهشة شديدة، فالرئيس أوباما قد صرح بتأييده للربيع العربي، وألقي خطاباً في مصر مليئاً بالعبارات الطنانة عن شعوب المنطقة وحقوقهم المشروعة في التطلع للديمقراطية، فلماذا إذن تقوم حكومته بإغداق المال علي نظام حكم يقمع المطالبين بالديمقراطية؟ الجواب علي ذلك غاية في البساطة، فأصحاب مصانع السلاح الأمريكية يرون في هذا السخاء أرباحاً طائلة لهم، فكما ذكر مسئولون كبار في الحكومة والكونجرس لجريدة واشنطن بوست فإن من أكبر المنادين بإرسال أموال دافع الضرائب الأمريكي لمصر هم صناع السلاح مثل «باي سيستم» و«جنرال داينامكس» و«جنرال إلكتريك» و«ريثيون» و«لوكهيد» فهم يحصلون من خلال ذلك علي عقود توريد دسمة مربوطة بالمعونة السنوية لمصر، فقد أبقت هذه الشركات آلة مبارك العسكرية مزودة جيداً بالمقاتلات النفاثة والدبابات والسيارات المصفحة وطائرات الهليوكوبتر والصواريخ المضادة للطائرات وطائرات المراقبة الجوية، فبالنسبة لصانعي السلاح هؤلاء فإن الحكم العسكري القمعي هو استثمار اقتصادي جيد. في نفس الوقت تسير وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» علي خطي صانعي السلاح ولا تريد المخاطرة بعلاقاتها مع الدوائر العسكرية المصرية كما تقول جريدة واشنطن بوست، ولا يضر ذلك طبعاً بالأوضاع بالمنطقة، فالسلطات العسكرية المصرية قد تعهدت باستخدام هذه الأسلحة في إسكات الرأي العام والحفاظ علي علاقات وطيدة مع إسرائيل. ولذلك فعندما يهمس الجنرالات ورجال جنرال إلكتريك في أذن الرئيس أوباما فإنه يسهل إرسال معونة تفوق المليار دولار لمساندة نظام حكم قتل المئات خلال السنة التي انقضت منذ سقوط الديكتاتور السابق مبارك، فأوباما ليس من نوع الرجال الذين يتحدون المجتمع العسكري الصناعي، أرسلت منظمة هيومان رايتس ووتش إلي وزيرة خارجية أمريكا خطاباً تقول فيه إنه نظراً لسجل انتهاكات حقوق الإنسان في مصر فلا تستطيع الإدارة الأمريكية أن تشهد أمام الكونجرس بضمير سليم أن الحكومة المصرية تحمي حقوق الإنسان، فحكام مصر العسكريون وعدوا بنقل السلطة بعد فترة انتقالية للمدنيين، ومع ذلك شنوا موجة من القمع دمرت الأمل في أن الانتفاضة السلمية التي بدأت في يناير عام 2011 ستقود إلي مستقبل جديد لمصر، فقد قُتل العديد من المدنيين، وتعرض العديد من منظمات المجتمع المدني للاضطهاد، وتعرض العاملون فيها من مصريين وأمريكيين للاتهام الجزئي بأنهم يزرعون بذور التمرد في المجتمع بالدعوة للحكم المدني، وكان رد وزيرة خارجية أمريكا علي خطاب المنظمة أن الوزيرة وافقت علي تحويل المعونة لمصر علي أساس أن ذلك يساعد علي «الاستقرار الإقليمي» كما جاء علي لسان فيكتوريا نولاند الناطقة بلسان الخارجية الأمريكية، وتجاهل الرد تماماً، أي اكتراث بالديمقراطية وبالانتهاك المستمر لحقوق الإنسان. صرحت كلينتون أمام الكونجرس بأن مصر قد أوفت بالتزاماتها تجاه السلام طبقاً لمعاهدة السلام بينها وبين إسرائيل، وأغفلت الوزيرة كذلك الشروط القانونية الخاصة بالتحول الديمقراطي في مصر علي أساس أن هذا الإغفال المتعمد يصب في مصلحة الأمن القومي الأمريكي، وبذلك استمر تدفق المعونة العسكرية الأمريكية علي مصر، فعندما تكون المفاضلة بين متطلبات العسكر وبين الرغبة في الديمقراطية تكون الأفضلية دائماً لما يطلبه العسكر. وهذه هي نفس الرسالة حتي من أكثر ساسة أمريكا ليبرالية، ونص الرسالة هو: «الديمقراطية شيء جميل، ولكنها تشغل المقعد الخلفي، بينما يجلس الاستقرار والمحافظة علي الوضع القائم في المقعد الأمامي». فقد صرحت نانسي بيلوسي زعيمة الأقلية الديمقراطية في الكونجرس بأن مصالح أمريكا ومصالح مصر والدول المجاورة لها تتحقق عندما تقوم في مصر حكومة قوية مستقرة، وطالما كانت المعونة العسكرية الأمريكية لمصر تحقق هذا الهدف فإن أمريكا ستستمر في دفعها. يبدو أن «بيلوسي» لم تتحدث إلي الكثير من المصريين خلال رحلتها الأخيرة لمصر، وإلا لقال لها الكثير منهم إنه ما دامت أمريكا لديها مليار ونصف المليار دولار للتوزيع فإن الأفضل صرف المبلغ في تنشيط الاقتصاد المصري وليس الإنفاق العسكري، ولكن هذا الطلب لن يرحب به صانعو السلاح في أمريكا الذين يمولون حملات بيلوسي وزملائها الانتخابية. كان السيناتور «باترك ليهي» أحد القلائل من أعضاء مجلس الشيوخ من الديمقراطيين الذين طالبوا أوباما بمنع تمويل النظام الديكتاتوري في مصر، والغريب أن الشيوخ والنواب الجمهوريين هم من تزعم حملة منع التمويل لمصر، فقد أرسل السيناتور «بول» وعضوة الكونجرس «بوكانان» خطاباً لكلينتون يدعوانها لتجميد المعونة لمصر حتي لا تصل رسالة خاطئة لحكومة مصر بأن أمريكا ستستمر في تمويل العسكريين المستمرين في قمع المجتمع المدني. إن التناقض سيظل قائماً بين حماية أمريكا لمصالحها في المنطقة وبين ترويج القيم الأمريكية الأخلاقية والدفاع عن حقوق الإنسان، ولسوء حظ أمريكا فإن العالم يحكم عليها بأفعالها وليس بأقوالها، وقد استمرت بقيادة أوباما كما كانت بقيادة بوش تحمي الديكتاتوريات والنظم القمعية، وهذا لا يعني تناقضاً بين قيمنا وأفعالنا، ولكنه يكشف ببساطة حقيقتنا دون أقنعة. وإلي هنا ينتهي مقال الكاتبين الذي يوضح بجلاء ربما للمرة المليون حقيقة الاستعمار الأمريكي، مهما ردد إعلامه من أكاذيب، ومهما ردد العملاء والأبواق المأجورة لدينا هذه الأكاذيب. ---- نائب رئيس حزب الوفد