فى دنيا السجون يتحول الإنسان من إنسان له عنوان وكيان إلى مجرد رقم.. فأنت فى السجن عندما يتحدثون عن تاريخ دخولك أو خروجك منه أو حالتك الصحية أو سلوكياتك لا يهمهم اسمك أو وظيفتك أو ثقافتك أو ثروتك أو من هى عائلتك.. فكل ما يهمهم هو رقم السجين.. وأما اسم السجين أو وظيفته أو تاريخه فلا أهمية له.. لأنك أصبحت مجرد ملف له رقم بصرف النظر عن نوع جريمتك وعما إذا كنت مداناً أو بريئاً مظلوماً.. كل هذه الأمور لا تهم السجان.. فأنت فى النهاية مسجون والسجان ليس قاضياً مفروضاً عليه أن يستمع إلى مظلمتك لذلك فهو لا يهمه من الذى ظلمك!.. والمسجون فى السجن مجرد بضاعة مودعة عند السجان فالسجان هو أمين مخزن مهمته تخزين هذه البضاعة داخل السجن.. فالسجين مثل الصابون أو الأرز أو السكر وبحكم وظيفة السجان فعليه الحفاظ على هذه البضاعة.. وأمين المخزن فى السجن هو مأمور السجن.. يساعده العشرات من الضباط والجنود ومهمتهم حراسة البضاعة معه.. وإذا طلبت أية جهة استلام هذه البضاعة «أقصد المسجون» يتم التسليم والتسلم على دفاتر رسمية كما يحدث فى المخازن بالضبط. والسجن هو السجن حتى ولو كانت أسواره العالية مصنوعة من ذهب أو ألماظ.. فأنت داخل السجن تكون مسلوب الإرادة فاقداً لأغلى نعمة من الله بها على الإنسان وهى نعمة الحرية.. وفى السجن لا تختار مكان نومك فمن الممكن أن تنام وحدك فى زنزانة انفرادية أو تنام في عنبر مكتظ بالعشرات من المساجين.. وفى السجن لا تستطيع أن تختار رفقاءك الذين ينامون معك.. فقد يكون هذا الرفيق مجرماً معتاد الإجرام قاتلاً أو تاجراً للمخدرات أو نصاباً أو مزوراً أو جاسوساً ومن الممكن أن يكون شخصاً بريئاً أو مظلوماً أو مقهوراً فأنت وحظك.. والذى يختار مكان نومك وكذلك النزلاء الذين سيكونون برفقتك هما شخصان فقط ضابط مباحث السجن وأحياناً المأمور!! والمسجون لا يختار لون ملابسه ولا نوعها فأنت ملتزم بارتداء ملابس ذات ألوان محددة.. فالكل سواسية فالمسجون يرتدى اللون الأزرق الداكن إذا كانت العقوبة التى ينفذها هى عقوبة السجن المشدد أو المؤقت أو عقوبة الحبس مع الشغل.. أما إذا كانت العقوبة هى الحبس البسيط بدون شغل أو كان المسجون محبوساً احتياطياً فمن حقه ارتداء الملابس البيضاء.. أما المسجون المحكوم عليه بعقوبة الإعدام فهو يرتدى الملابس الحمراء.. ولم يشغل أحد تفكيره حتى اليوم ما هو سبب اختيار كل لون من هذه الألوان دون غيره للعقوبات السابقة!! والمسجون ليس حراً فى اختيار نوع الأكل الذى يتناوله.. فالأكل موحد في السجون مثل الزى تماماً.. وإذا حصل المسجون على تصريح بتناول طعامه من خارج السجن على نفقته فى الحالات التى تسمح فيها لوائح السجن بذلك فإن الأطعمة التى تدخل له يتم فحصها فحصاً دقيقاً بمعرفة أكثر من عشرة حراس فهم يريدون أن يتأكدوا من خلو الأطعمة من أية ممنوعات لذلك عندما يصل الطعام الى المسجون بعد فحصه تكون نفسك قد اتسدت من مجرد مشاهدته وليس تناوله بعد ان فعصته العيون قبل أن تفعصه الأيادى!! فى الحجرة الضيقة التى اختاروها لأقضى فيها مدة عقوبتى الظالمة كان يزاملنى ثلاثة من النزلاء هم اللواء عبدالفتاح عبدالعزيز أحد أبطال حرب أكتوبر وزوج المذيعة فريدة الزمر ورجل الأعمال الفلسطينى على الصفدى والدكتور مصطفى السيد أستاذ الطب المتخصص فى القلب. الحجرة كانت بلا تهوية تقريباً فلم يكن بها إلا نافذة واحدة تطل على عنبر مخصص للمحكوم عليهم المصابين بمرض الدرن فإذا فتحت النافذة فأنت معرض للإصابة بمرص السل وإذا أغلقتها فأنت على وشك الاختناق خاصة أن زملاءك الثلاثة الذين يقيمون معك يدخنون السجائر بشراهة ومصدر التهوية الوحيد هو مروحة قديمة معلقة فى سقف الحجرة تشبه الطاحونة كنا نخشى من استعمالها خوفاً من سقوطها فوق رؤوسنا فى أى لحظة خاصة التى كانت معلقة بسلسلة ضعيفة. فى أول ليلة قضيتها فى السجن لم أتذوق طعم النوم وظللت جالساً على سريرى حتى شروق الشمس لأنه باليقين هذا المكان ليس مكانى ولا منامى ولا مقامى، وكان سبب مخاصمة النوم لجفونى فى هذه الليلة هو تفكيرى فى الطغيان والافتراء والتجبر الذى تعرضت له منذ القبض على بمبنى مجلس الدولة وحتى وصولى واستقرارى فى هذه الحجرة الحقيرة. هذه مقتطفات من كتاب المستشار مرتضى منصور ويتكون من ثلاثة أجزاء وصدرت منه الطبعة الخامسة والعشرون وهو بعنوان «مرتضى منصور ضد الفساد» ويفضح حضرات السادة الطغاة. وهو سيرة ذاتية يحكى فيها مرتضى مشواره فى محاربة الفساد حتى الحكم عليه بالسجن 3 سنوات بتهمة محاولة اقتحام مكتب رئيس مجلس الدولة الأسبق تم تخفيضها الى سنة قضاها فى سجن طرة، يقول مرتضى إن الاتهام ملفق والعقوبة ظالمة وتمت بتوجيهات من أحمد نظيف وزكريا عزمى.