داخل حوارى بولاق أبو العلا خلف ورش السبتية وسوق العصر، قادتنا أوصاف أهالى المنطقة لأشهر حمام بلدى فى مصر، «حمام عوكل»، صالة واسعة مكتظة بالنساء اللواتى جلسن ينتظرن دورهن لدخول الحمام بمناسبة العيد، المكان مزدحم عن آخره، يتعالى صوت سيدة فى منتصف العمر بين الحين والآخر لإعادة الانضباط للمكان، تبدو عليها الصرامة وقوة الشخصية مع مسحة من جدعنة ولاد البلد لاتخطئها العين. تفضى صالة الحمام إلى أدوار علوية تحوى حجرات منفصلة، يتصاعد من بعضها البخار، وأخرى لتبديل الملابس، وحجرات للتكيس، والتدليك، ومغطس للماء الساخن وآخر للبارد، «Spa» بلدى يرجع تاريخه إلى 400 عام، عناية خاصة واهتمام تبادر العاملات بالمكان تقديمه للزبونة، منذ تطأ قدمها أرض الحمام. «لاأتحدث مع الصحفيين»، هكذا استقبلنا عم عوكل بصوته الاجش ونبرة صارمة قبل أن يتراجع ليوافق اخيرًا على مشاركتنا قصته مع الحمام البلدى، أو «حمام الأربعاء» كما كان يطلق عليه، مقصد أغنياء القاهرة وأعيان الصعيد فى الثمانينات، قبل أن تقرر وزارة البيئة إغلاقه فى التسعينيات، على خلفية التلوث البيئى الذى أحدثته عمليات حرق القمامة التى استخدمت كوقود «للبواجير» بالحمام. «الراحة والألفة» سمة أساسية بالمكان: أخذتنا زوجة «عوكل»، أو كما يطلق عليها «الحاجة» فى جولة بالحمام، حيث يستقبلك بخار الماء من كل مكان، مع آيات قرآنية تزين الحوائط تحصينًا من «العين»، بينما تجلس السيدات بكل أريحية فى انتظار دورهن للتكيس، وآخريات خرجن للتو من المغطس، تستقبلهن العاملات بحجرات التدليك. «البلدى يوكل»، هكذا أشاد «عوكل» بحمامه، فى مواجهة خدمات العناية بالجسم التى توفرها مراكز التجميل الشهيرة، مؤكدًا أن الراحة التى يوفرها المكان لن تجدها سوى فى الحمامات البلدى. برنامج العروس: تمر العروس بسلسلة من المراحل بالحمام ليكتمل تجهيزها لليلة العمر، تبدأ بأخذ حمام سريع، يليها جلسة تنظيف كاملة للجسم، بمساعدة إحدى العاملات وفى خصوصية تامة، ثم تأتى مرحلة التكيس، والتدليك بالليف المغربى لإزالة الخلايا الميتة عن الجسم، وتبيض البشرة وإكسابها نعومة ونضارة. ويأتى بعد ذلك الدور على حجرة المغطس، حيث تجلس السيدة فى حوض كبير مملوء بالماء الساخن، يليه جلسة أخرى فى مغطس للماء البارد، وهى المرحلة الذى يصفها «عوكل» بأنها لمسة سحرية تجدد جمال المرأة وتعيد نضارتها، كما تنشط دورتها الدموية. وأخيرًا يأتى دور رسم الحنة، بواسطة «حنانة» خبيرة «إيدها تتلف فى حرير»، على حد قول الزبائن هناك، تمتلك موهبة رائعة، يمكنها إبداع أصعب رسومات الحنة بمهارة فائقة. ساعة أو ساعتين فقط هى كل ما يلزم السيدة لتستعيد نضارتها وتشعر بالاسترخاء وهدوء الأعصاب، وتخرج عروسا فى أوج جمالها. الخصوصية والأمانة شعار حمام «عوكل»: تحصل الزبونة على 3 مفاتيح لخزانة صغيرة خاصة بها، بمجرد أن تسجل اسمها لدى «الحاجة»، لوضع كافة متعلقاتها الشخصية، تجنبًا للسرقة. أما الخصوصية، شدد «عوكل» على أن الحمام له منفذ واحد وهو مؤمن بعناية من قبل حراسة خاصة، تمنع دخول الرجال والصبية خلال الفترة المخصصة للسيدات. كما أن الحمام مغطى بالكامل وخال من النوافذ سوى من بعض المشربيات الخشبية التى تسمح بدخول الهواء، بدون السماح للضوء بالنفاذ إليه خلال أوقات العمل، ليضمن خصوصية كاملة للسيدة أو الفتاة. مواعيد العمل والأسعار: يفتح الحمام أبوابه للزائرين 24 ساعة، مقسمة على فترتين، من 8 صباحًا وحتى ال 5 عصرًا للنساء، والفترة الثانية من 6 مساء وحتى ال 6 صباحًا للرجال، و3 ساعات راحة للحمام تخصص لتنظيف الحمام وتجهيز السخانات ولدورة جديدة من العمل. أما الأسعار فتبدأ من 40 جنيها للرجال والنساء، وتصل حتى 200 جنيه للعروس أو العريس، وبعيدًا عن جشع مراكز التجميل الشهيرة، يرفض عوكل تغيير قائمة أسعاره خلال المناسبات، حرصًا على إقبال الزبائن. العمال بالحمام «فى خدمتك»: يحظى الزبون فى الحمام بمعاملة خاصة، يقدمها فريق كامل من المتخصصين من النساء والرجال، ويؤكد «عوكل» على نزاهة العاملين لديه، مضيفًا أن العمال يخضعون لكشف طبى شامل قبل تشغيلهم، لضمان خلوهم من الأمراض، كما يقدمون ما يفيد حسن سيرهم وسلوكهم، وخلو سجلهم الجنائى من أية سوابق. تاريخ الحمام كما يسرده «عوكل»: قبل 18 عامًا، كان الحمام أشبه ب «لوكاندة للمتسولين»، ملجأ للشحاذين وأرباب السوابق بعدما أغلقته وزارة البيئة، ليعيد «عوكل» تجهيز المكان من الألف إلى الياء، بعدما اشتراه، وعلى مدار أكثر من 10 سنوات، واصل «عوكل» ترميم الحمام وتجهيزه لاستقبال الزبائن. وتحول الحمام لقطعة فنية رائعة يتوسطها بهو كبير تزينه نافورة راقصة، ومقاعد مريحة لانتظار الزبائن، وحوائط يغطيها الرخام حتى السقف. «حافظت على كل طوبة بالمكان»، هكذا أكد «عوكل» الذى جمعته قصة عشق مع الحمام، مشيرًا إلى أن تصميم المكان لم يتغير منذ 400 عام، إنما أعاد ترميمه مرة أخرى ليظهر كما كان عليه منذ قرون.