البكاء علي اللبن المسكوب لن يعيد لنا ما خسرناه.. وما خسرناه حتي الآن كثير.. وكثير جداً.. فقد خسرنا في المقام الأول معني العمل والانتاج لنأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع، والمؤلم أن اعتمادنا علي الخارج زاد.. وكأن الثورة تعني عند البعض ألا نعمل.. بل نكتفي بالهتاف والتظاهر والاعتصام.. واذا كان النظام السابق قد دمر نظام التعليم.. ولم يحقق العدل الاجتماعي أي يحصل المواطن علي حقه في العلاج وفي المسكن وفي الأجر العادل لعمله.. فإننا ومنذ يناير الماضي، أي ما يقرب من عام، لم ننتج شيئاً نأكله أو نلبسه واسألوا أو اقرأوا عن حجم الواردات من الثوم إلي اللحوم.. ومن القمح إلي القطن، تخيلوا مصر تستورد الآن القطن حتي من.. إسرائيل!! والثورة ليست في ذلك.. أو ما لهذا قام الثوار وتحركوا.. ولكن منهم من أحرقوا كنوز مصر، أو بالضبط من التحقوا والتصقوا بالثوار وساروا في ركابهم، أو تستروا بردائهم.. ونحن لا يمكن أن نتهم الثوار بإحراق ما أحرقوه.. فالثوار ابرياء مما فعل هؤلاء البلطجية وهؤلاء العاطلون، الذين حرمناهم من العمل في الانتخابات، وكانت مصدر رزق كبيراً لهم.. هم الذين يمدون ايديهم ليتسلموا «المعلوم» ممن يخطط لهم، ثم يأمرهم بإحراق ما يريدون.. وقد كان المجمع العلمي المصري واحراقه من نتاج هؤلاء المجرمين الذين لا يعرفون معني الكتاب، فما بالنا وهذا الكتاب من كتب التراث، وان عمره ربما يمتد إلي ما قبل اختراع الطباعة نفسها، أي كتباً من المخطوطات النادرة.. التي منع حتي لمسها.. ولقد كانت بين تراث هذا المجمع العلمي العظيم كتب من هذا النوع.. وللأسف فإن النيران لا تفرق بين كتاب وآخر.. ولا حتي الذين أخذوا يرشون البنزين علي نوافذ هذا المجمع العلمي ثم يشعلون النيران فيها.. فتأكل كل شيء.. ومن المجرمين من لم يمسك كتاباً واحداً طوال عمره!! والآن.. تعالوا نفكر كيف نعيد تدبير نسخ - ولو مصورة - من هذه الكتب النادرة التي أحرقها أبو جهل الكبير ونفذها عياله .. من أولاد الشوارع.. والبلطجية.. علينا أولاً أن نبحث عن الفهارس، ثم نراجع ما نجا من كتب أو من مخطوطات.. ونبحث عن المناطق التي قد تتوفر فيها مثل ما كان موجوداً عندنا.. وهنا أقول إن المجمع العلمي المصري كان يتبادل محاضر جلسات علمائه من أيام بونابرت مع المجمع العلمي الفرنسي نفسه.. أي الأمل كله أن نجد نسخاً مما احترقت واحتفظ بها المجمع الفرنسي - كجزء من تراثه العظيم وان نراجع ما كان موجوداً عندنا - من خلال الفهارس ونعتقد أن ادارة المجمع الفرنسي لن تبخل علينا بنسخ مصورة من هذا التراث الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية خلال تواجد هم في مصر - وهي حوالي 3 سنوات - ثم نرجوهم في باريس ان يمنحوا مصر التي يحبونها بعضاً مما تحويه مكتبتهم من مؤلفات عن مصر، منذ أقدم التاريخ.. وفي مختلف العلوم.. خصوصاً وقد كان المجمع المصري توأماً لمجمعهم العلمي الفرنسي، واذا كان مجمعهم الفرنسي قد نشأ عام 1795 وكان بونابرت عضواً به عام 1797.. فإن المجمع العلمي المصري انشأه بونابرت في اغسطس 1798 أي بعد 3 سنوات فقط من إنشاء المعهد الفرنسي في باريس.. وبالتالي فإن ما فيه واحترق يمكن تعويض بعدما ضاع.. من هناك، من والده الشرعي المعهد العلمي الفرنسي.. ولقد كنت في ابوظبي بعد ساعات من إحراق المجمع المصري.. وهناك عرفت ان الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة وعضو المجلس الأعلي لحكام الامارات قد أعلن تبرعه وتكفله بترميم المجمع العلمي المصري باعتباره ثروة علمية للأمة العربية.. وقال هذا الشيخ الحاكم المثقف الذي التقيته كثيراً إن ما يصيب مصر يصيبنا.. وهذا ليس منة أو إكراماً.. ولا ننسي مواقف مصر.. واضاف أننا مهما فعلنا فلا يكفي لرد الجميل.. وقال ان كل النسخ الاصلية التي لديه سيقدمها هدية للمجمع.. كما ان هناك نسخاً أعلم أنها ربما احترقت وهي الخرائط الخاصة بالأمير يوسف كمال فإن لدي - في الشارقة - مجموعة منها وهي نادرة ولا توجد إلا في مدريد.. ووعد بتجميع الكثير من هذه الكتب والمراجع النادرة لإرجاعها إلي مصر قريباً بإذن الله. والشيخ الدكتور سلطان القاسمي الذي تعلم بكلية الزراعة بجامعة القاهرة مازال يتذكر عندما كانت مصر ترسل بعثة تعليمية إلي الشارقة منذ عام 1954 وكانت مصر تتكفل بتكاليف كل شيء يخص هذه البعثة لتعليم أبناء الشارقة.. بينما كانت مصر - في هذه الفترة تحتاج إلي كل قرش، ولكنها كانت تقدمه لأبناء الشارقة عن طيب خاطر.. وهذا الشيخ المتعلم المثقف حصل علي درجة الدكتوراه في التاريخ في رسالة مهمة يدافع فيها عن بلاده وكيف اتهموها واتهموا ابناءها بأعمال القرصنة التي كانت - في حقيقة الأمر - نضالاً ودفاعاً عن بلادهم في الخليج العربي ضد قوات الغزو والاحتلال.. وبالمناسبة فالشيخ سلطان كان أول وزير للتربية والتعليم بدولة الامارات العربية منذ اليوم الأول لإنشاء هذا الاتحاد وهذه الدولة الوليدة.. قبل ان يصبح حاكماً لإمارة الشارقة خلفاً لأخيه الشيخ خالد القاسمي.. والآن ماذا يفعل رجال أعمال مصر للمساهمة في عادة إعمار وترميم المجمع.. وفي تزويده بالكتب النادرة.. علهم يسهمون كما أسهم الشيخ سلطان.. ويردون الجميل كما يرده هذا الحاكم المثقف..