بحثت عن وصف لهؤلاء الذين يعيشون معنا على كوكب الأرض، لكنّ أقوالهم وأفعالهم تدل على أنهم جاؤوا من كوكب آخر، فلم أجد أفضل من عنوان هذا الكتاب المعروف، للكاتب الراحل أنيس منصور (الذين هبطوا من السماء). وهو كتاب يتحدث عن ظواهر غريبة مرتبطة بالكائنات الفضائية، ويرصد مشاهدات وأحداثاً منذ العصور القديمة وحتى العصر الحديث، تشير إلى أن هناك كائنات أخرى كانت تسكن الأرض قبل الإنسان وما زالت تزوره حتى الآن، تاركة علامات وآثاراً في الأماكن التي تزورها. قرأت هذا الكتاب في مرحلة مبكرة جداً من حياتي، وأعترف أنه قد أحدث لديّ صدمة حينها، حيث غدوت أنام وأصحو على هواجس الخوف من الكائنات الفضائية والأطباق الطائرة والانفجارات المضيئة، خاصة وأن قراءتي له قد تزامنت مع متابعتي للمسلسل الأجنبي THE INVADERS، الذي كان يدور حول كائنات فضائية تغزو الأرض لاحتلالها وخطف بعض ساكنيها. الذين هبطوا من السماء في كتاب أنيس منصور، كائنات فضائية اختلف العلماء حول وجودها وحقيقتها، ونسبوا إليها بعض الظواهر الغريبة، لكن دليلًا مؤكداً لم يقم عليها، لذلك ظلوا مقيمين في بطون الكتب التي تحقق أعلى المبيعات في المكتبات، وفي أفلام الخيال العلمي التي تسجل أعلى الأرقام في دور السينما. أما الذين يعيشون معنا في كوكبنا من الذين ينطبق عليهم هذا الوصف، فهم أناس يشبهوننا، يأكلون ويشربون مثلنا، لكنهم يعيشون في عالم افتراضي من صنع خيالهم، وهذه حرية شخصية تكفلها لهم كل الدساتير والقوانين منذ عهد حمورابي وحتى الآن، لكن ما لا تضمنه لهم هذه الدساتير والقوانين، هو أن يفرضوا علينا العيش معهم في هذا العالم الافتراضي الذي صنعوه لأنفسهم، بعد أن انسلخوا عن الواقع المختلف تماماً عن عالمهم. الذين هبطوا من السماء يقولون إن الحكومة لا تقتل شعبها، ويؤكدون أنه لا توجد حكومة تقتل شعبها ما لم تكن حكومة يقودها شخص مجنون.. والواقع يقول إن الجنود ورجال الأمن الذين يقتلون كل يوم العشرات من أفراد الشعب، يتبعون الحكومة التي يقودها شخص يُفترَض أنه ليس مجنوناً، كما يقول الذين هبطوا من السماء. الذين هبطوا من السماء يقولون إنه لم تصدر أي أوامر بالقمع الدموي للمظاهرات التي تجري كل يوم في بلادهم، وإن هناك أفراداً في المؤسسة الأمنية تمادوا في تصرفاتهم، لكنها تبقى تصرفات فردية وليست مؤسساتية، ويؤكدون أن هؤلاء الأفراد تمت معاقبتهم.. والواقع يقول إنه لو تمت معاقبة الذين تمادوا في تصرفاتهم، لما استمرت هذه التصرفات الفردية كما يسميها الذين هبطوا من السماء. الذين هبطوا من السماء يقولون إن القوات في بلدانهم ليست قواتهم، وإنما هي قوات عسكرية تنتمي إلى الوطن ولا أحد يملكها.. والواقع يقول إن هذه القوات تقتل كل يوم العشرات من أبناء الوطن الذي تنتمي إليه، وإنها لا تأخذ أوامرها إلا من الذين هبطوا من السماء. الذين هبطوا من السماء يقولون إنه لم تصدر أي أوامر من أي أحد بالقتل أو بممارسة الوحشية، والواقع يقول إن القتل مستمر، وإن ممارسة الوحشية تتم كل يوم، سواء أمر أو لم يأمر الذين هبطوا من السماء. الذين هبطوا من السماء يقولون إن الضغوط الخارجية لا تعنيهم، وإن أهم شيء بالنسبة لهم هو كيف تنظر شعوبهم إليهم، وإنهم يفعلون ما في وسعهم لحماية شعوبهم.. والواقع يقول إن آخر ما يهمهم هو كيف تنظر إليهم هذه الشعوب، وإنهم يفعلون أكثر مما في وسعهم، ولكن ليس لحماية الشعوب، وإنما حماية الذين هبطوا من السماء. الذين هبطوا من السماء يقولون إن حكوماتهم تمضي في إصلاحات.. والواقع يقول إن الإصلاحات التي يمضون فيها، مجرد مشاريع على الورق يخرجونها عند اللزوم ثم يعيدونها إلى الأدراج، وإن الدماء التي تسيل على الأرض أسرع جرياناً من هذه الإصلاحات التي يتحدث عنها الذين هبطوا من السماء. الذين هبطوا من السماء يقولون إن معظم الذين قتلوا في الأحداث التي تجري في بلدانهم، هم من أنصار الحكومة وليس العكس.. والواقع يقول إن المظاهرات التي يهتف المتظاهرون فيها بحياة الحكومة، لا يصاب أحد من المشاركين فيها بخدش، أما تلك التي يهتف المشاركون فيها ضد الحكومة فهي وحدها التي تتعرض لرصاص الشبيحة والعصابات الإجرامية، التي لا نعرف متى وأين وكيف تكونت بعيداً عن عيون وآذان مخابرات وأجهزة أمن الذين هبطوا من السماء! الذين هبطوا من السماء يقولون إن هناك الكثير من محاولات تشويه الحقائق حول ما يجري في بلدانهم، وتوجيه اتهامات باطلة إليهم، ويطالبون بضرورة التحقق من صحة الصور والتقارير التي تبث عن بلدانهم.. والواقع يقول إنهم يرفضون طلبات المنظمات العربية والدولية السماح بدخول مراقبين محايدين إلى أراضيهم، كما يرفضون دخول وسائل الإعلام المستقلة، ويتهمونها بالكذب والتزوير، لأن ما تقوله ليس على هوى الذين هبطوا من السماء. وأخيراً.. اعترف الذين هبطوا من السماء بأنهم لم يقولوا أبداً إنهم بلد ديمقراطي، وأن الأمر يستغرق وقتاً طويلًا ويحتاج الكثير من النضوج حتى الوصول إلى ديمقراطية كاملة.. والواقع يقول إنهم هذه المرة صادقون، وإن الديمقراطية لن تتحقق أبداً ما لم يرحل الذين هبطوا من السماء. "الذين هبطوا من السماء" كائنات أرضية انفصلت عن الواقع، وخلقت لنفسها عالماً افتراضياً سوف تكتشف زيفه عندما تلحق بمن سبقها من أولئك "الذين صعدوا إلى السماء". نقلا عن صحيفة البيان الإماراتية