تواجه مدارس مصر حالة فوضي شاملة مع قرب امتحان التيرم الأول، فرغم مرور شهرين علي بداية العام الدراسي، إلا أن المحصلة الدراسية للتلاميذ مازالت «صفرا» بالمدارس، فلا المدرسون قدموا شيئاً مفيداً للطلاب ولا الطلاب استفادوا من معلميهم الذين انشغلوا في بداية العام الدراسي باعتصاماتهم وإضراباتهم، وها هم يدخلون في حلقة جديدة من الفوضي مع إجراء الانتخابات البرلمانية في لجان أغلبها في المدارس. أضافت تلك المشكلة إلي أزمة التعليم في مصر هموماً ثقيلة، فكثافات الفصول مازالت فوق طاقة الأمكنة، وعمت الفوضي كثيراً من المدارس التي رصدتها عدسة «الوفد». وكانت الصورة واضحة في المدارس الثانوية التي غاب عنها طلابها ليبلغ متوسط الغياب بها 50٪ أي أن أكثر من نصف الطلاب امتنعوا عن الحضور أصلاً. وقد كشفت جولة «الوفد» ببعض المدارس الحكومية حالة الانفلات الأمني بشكل ملحوظ وهو ما عزز مخاوف أولياء الأمور علي أبنائهم الطلاب وكذلك العاملين في المدارس، ولا شك أن تقسيم اليوم الدراسي علي فترتين وثلاث فترات يومياً ومن ثم عدم انتظام العملية التعليمية سيفتح «باب خير» علي المدرسين والمدرسات لأن الدروس الخصوصية ستتفشي ليزداد العبء علي أولياء الأمور. حالة من الفوضي والإهمال تعيشها أغلب المدارس في مناطق بولاق الدكترور وشبرا الخيمة بالمقارنة بالمدارس الموجودة في حيي مدينة نصر والدقي. في مدرسة السيدة نفيسة ومدرسة منطي الابتدائيتين بقرية ميت نما بمنطقة شبرا الخيمة تعانيان من اختفاء التلاميذ بسبب مخاوف أولياء الأمور في هذه القري من ذهاب أبنائهم إلي المدارس بعد أن تعرضت المدارس لأحداث بلطجة عديدة بدافع سرقة المدارس في وضح النهار. أولياء الأمور أكدوا أن ما حدث يدل علي الإهمال الجسيم في المدارس الحكومية التي من السهل أن تتعرض للسرقة لسهولة دخولها وافتقادها للتواجد الأمني المستمر علي أبواب المدارس، مما يجعلنا غير مطمئنين علي أبنائنا من الذهاب إلي مرة أخري، خوفاً من تعرض أبنائنا للخطر من قبل معتادي الإجرام أثناء الاصطدام بهم في أوقات سير العملية التعليمية، والحل هنا في يد الحكومة التي من واجبها القبض علي هؤلاء اللصوص والمجرمين ليطمئن المواطنون ولتهدأ أحوال البلد، ولكي يسير التعليم كما هو مخطط له. وهناك مشهد يتكرر يومياً أمام مدرسة ذات النطاقين الابتدائية المشتركة ومدرسة الشروق الاعدادية التابعتين لإدارة بولاق الدكرور التعليمية، حيث تحول المكان هناك إلي سوق عشوائي يمتلئ بالباعة الجائلين الذين يقومون ببيع الأطعمة مجهولة المصدر بدون اعتراض من أحد، بخلاف وقوف التكاتك في انتظار دخول أو خروج التلاميذ من تلك المدارس أمام وعلي جوانب أسوار المدارس، مما يؤدي إلي إحداث فوضي وعرقلة في حركة دخول وخروج التلاميذ، ويشكل خطراً جسيماً علي صحة هؤلاء التلاميذ، بالإضافة إلي أن يتوسط أولياء الأمور طوابير الفترة المسائية في ظل فوضي العملية التعليمية، كما لاحظنا قيام تلاميذ مدرسة «ذات النطاقين» بإلقاء المقاعد خارج المدرسة علي أسطح الجيران. والمؤسف في الأمر أن هناك حالة حصار شديدة فرضتها وزارة التربية والتعليم حيث تم التنبيه علي جميع المدارس بالمحافظات بعدم الإدلاء بأي تصريحات خاصة بأداء سير العملية التعليمية، وهو ما ظهر جلياً في مدرسة ناهيا الثانوية المشتركة بمنطقة كرداسة التي تعمل لفترتين، فإن مجاهد جميل مدير المدرسة رفض الإدلاء بأي معلومات عن سير العملية التعليمية أو معوقات تسليم معظم الكتب الدراسية المتمثلة في كتب اللغات وبعض المواد غير الأساسية، حسب أقوال الطلاب. وفي طريق المنيب وجدنا مدرسة مصطفي كامل للتعليم الأساسي التابعة لإدارة بولاق الدكرور، مكتوبا عليها أنها تتطلع إلي بناء جيل مثقف متمسك بمكارم الأخلاق ومواكب لتطورات العصر، إلا أن ما شاهدناه عكس ذلك، فهذه المدرسة تعمل لفترتين «ابتدائي واعدادي» حيث يتجسد صور الإهمال والفوضي داخل المدرسة التي يبدو عليها أنها تحولت إلي قاعة أفراح للرقص والغناء والطبل حتي في وقت اليوم الدراسي، فضلاً عن تهالك معظم نوافذها الذي يشكل خطورة علي حياة التلاميذ. من ناحية أخري خلت مدرسة رفاعة الطهطاوي الثانوية بنين في أول طريق صفط اللبن تماماً من المدرسين والطلاب أثناء الفترة الدراسية الصباحية. وقد انتقلنا إلي مدرسة ملحقة المعلمين الابتدائية التابعة لإدارة الدقي التعليمية واكتشفنا الفارق الشاسع مع انتظام العملية التعليمية والتسليم الكامل للكتب الدراسية والتواجد الكامل لمعلمي المدرسة، ولكن يعيبها عدم تواجد عامل الأمن علي باب المدرسة، بالإضافة إلي عدم وجود مشرف داخل المدرسة حتي يمكنه مساعدة التلاميذ في عبور المشاة بعد انتهاء اليوم الدراسي بدلاً من العبور بمفردهم. محسن الراوي - مدير المدرسة - قال: إن المدرسة تعمل لفترتين علي أكمل وجه، والكتب الدراسية تم تسليمها للطلاب منذ الأسبوع الأول من العام الدراسي، وهي المدرسة الوحيدة التي لم تدخل في إضراب أو اعتصام، فالمعلمون جميعاً ضد الاعتصامات التي يسفر عنها الفوضي التعليمية وتأخر الطلاب عن تحصيل مناهجهم الدراسية، كما أن ثورة 25 يناير حررت الشعب المصري من نظام استبدادي ظل لمدة 30 عاماً مضت في الحكم البائد ومن ثم ننتظر إصلاحاً حقيقياً علي كافة المستويات، خاصة المستوي التعليمي في مصر. وبالضبط كما الحال في مدرسة المستقبل التجريبية بمدينة نصر من انتظام العملية الدراسية والتواجد الدائم للمعلمين طوال الفترة الدراسية، أضف إلي ذلك التسليم الكامل للكتب الدراسية، والتواجد الأمني شبه المكثف علي أبواب المدرسة الذي يقوم بمهمة تسجيل كل بياناتك وسؤالك عن سبب زيارة المدرسة. وفي مدرسة ناصر الاعدادية بنين والمشهورة بمدرسة «المجنونة» التابعة لإدارة بولاق الدكرور كان الوضع أسوأ بكثير، طلاب المدرسة أكدوا ل «الوفد» أن الوضع داخل المدرسة علي ما يرام فمدرس الألعاب الرياضية يتحصل من كل طالب علي جنيه و2 جنيه مقابل نزولنا إلي الملعب أو حوش المدرسة، وإحنا مضطرين ندفع علشان مدير المدرسة «منع تماماً الفسحة» داخل المدرسة علي جميع طلاب المدرسة، كما أننا لم يشغلنا استلام أو عدم استلام الكتب الدراسية لأننا معتمدون علي الدروس الخصوصية. وهو ما يكشف عدم التزامهم بالزي المدرسي الموحد، بالإضافة إلي أن الطلاب يحملون السلاح الأبيض «عيني عينك» داخل المدرسة ويمارسون أعمال البلطجة والعنف علي زملائهم من أجل الحصول علي السندويتشات، بخلاف أن الطلاب يقومون بالهروب من علي أسوار المدرسة، فلا يوجد محاسبة شديدة علي هؤلاء الطلاب في أوقات الفترات الدراسية. كمال مغيث - الباحث بالمركز القومي للبحوث التربوية - يري أن المشكلة تبدأ من الحكومة «الرخوة» التي لا تمتلك القدرة علي القضاء علي كافة المشكلات المجتمعية سواء كانت مشكلة فلول الحزب الوطني المنحل أو من ناحية إصدار دستور جديد أو لتأكيد نزاهة الانتخابات القادمة، ولا حتي لديهم القدرة علي مواجهة قضية الفتنة الطائفية التي تظهر بين وقت لآخر. وأكد «مغيث» أهمية وجود إرادة سياسية، فلا يجوز اتباع الحلول الوسط بل ينبغي مواجهة الأمور المهمة والعاجلة بكل قوة وإصرار وحسم حتي تصدق النوايا وتتناغم مع التصريحات والوعود، مشيراً إلي أن أكبر مؤسسات الدولة شهدت مع مطلع هذا العام أكبر إضرابات للمعلمين وتحديداً أمام مقر رئاسة الوزراء، بسبب عدم وصول الحكومة لاتفاق واضح ومحدد حول مطالب المعلمين، كل هذه العوامل أدت إلي فوضي العملية التعليمية، فأصبحت الهياكل التعليمية «بلا معني» والطالب يحصل علي شهادة الدبلوم الفني لكنه لا يستطيع كتابة اسمه، بالإضافة إلي أن الميزانية المخصصة للتعليم «هزيلة» وهي أقل مما كان ينفق علي التعليم في السنوات الماضية، فميزانية التعليم زادت بنسبة 4 مليارات جنيه - أي ما يعادل 10٪ من الميزانية المخصصة للتعليم من إجمالي الإنفاق الحكومي - ويقدر بحوالي 3.5٪ من إجمالي الناتج القومي ولكن ميزانية التعليم في حقيقة الأمر نقصت ولم تزد، لذا فنحن نحتاج إلي ميزانية جديدة للتعليم في مصر بنسبة تتضاعف عن هذه الميزانية المرصودة لها حالياً لكي تصل إلي نسبة 20٪ للتعليم ما قبل الجامعي، لكي نقول إن الميزانية الجديدة المخصصة للتعليم الجامعي سوف تهدف إلي تعليم حكومي حقيقي. فيما قال محمود الناقة رئيس الجمعية المصرية للمناهج والتدريس إن المعلم والتلميذ خارج حجرة الدراسة منذ عشرات السنوات، ولم يعد هناك تعليم حقيقي في المدارس، بل يمكننا أن نصف ما يحدث في المدارس بأنه ليس شيئاً مستغرباً في المجتمع، مشيراً إلي أن الكل حالياً يعيش هذه الفترة الفوضوية.. فلماذا نستثني مؤسسة مثل المدرسة وجمهور المدارس في معظمه هو جمهور المظاهرات والمليونيات؟ وأضاف: التعليم في مصر قضية مجتمعية كبري، فإذا أردنا إصلاحاً حقيقياً للتعليم في مصر فلابد أن ينظر إليه علي أنه بمثابة العمود الفقري لأي مجتمع، لذا ينبغي علي الحكومة إعطاؤه الاهتمام والأولوية قبل أي شيء آخر حتي قبل قضية الصحة في مصر، لأن التعليم الصحيح هو الطريق الأمثل للقضاء علي العقبات أو الأمراض المجتمعية، بخلاف تنمية البشر علي أساس علمي داخل المجتمع، مشيراً إلي أن قضية التعليم في مصر هي أخطر ما يسند لوزير لأنها قضية مؤسسية يجب أن يكون لها مجلس حقيقي يمكنه أن يقودها وليس من قبيل «تمثيلية» إلي المجلس الأعلي للتعليم قبل الجامعي، كما أن الميزانيات المخصصة للإنفاق علي تنمية البشر من خلال تعليمهم يذهب معظمها إلي مرتبات المعلمين وأشياء أخري كثيرة. وأضاف: يبدو أن وزير التعليم يعتقد أنه خلال هذه الفترة الانتقالية غير مسئول عن صياغة نظام تعليمي جديد، ربما لا يتوافر الفرصة له لكي يخضع للتغيير، أو يعتقد أنه ليس مهمته الحفاظ علي انتظام آلية العمل الجاد، لكنه ينتظر حالياً لحين تشكيل الحكومة الجديدة المنتخبة ليسلم مهامه التي كان مكلفاً بها إليها. بينما يري أحمد يحيي أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة قناة السويس أن تدهور العملية التعليمية جزء من حالة الانفلات الأمني التي تشهدها مصر علي المسرح العام سياسياً وثقافياً واجتماعياً ولا يمكن فصل ما يحدث في المدارس والجامعات عن مجمل المشهد السياسي الذي يسود مصر في هذه الفترة وبالقطع فهي فترة انتقالية لا يمكن القياس عليها ولا يمكن اعتبارها نموذجاً، لكننا نأمل الوصول فيها إلي درجة الكمال، مشيراً إلي أن هذه المرحلة تشهد اضطرابات وتوترات وسوء إدارة سواء من المعلمين أو الطلبة وكذلك في الجامعات والأمر كله يتعلق بكيفية إدارة الأزمة، فمن المؤسف أنه حتي الآن لا توجد رؤية مجتمعية عقلانية لإدارة الأزمات التي تواجهها مصر بعد ثورة 25 يناير وما أكثرها.. فلم نشاهد أي نموذج يمكن استخدامه في إدارة الأزمات الحادثة سواء المتردية والصراع المتبادل بين كافة الأطراف داخل الأزمة.. مثال ذلك.. ما يحدث من المعلمين في مطالبهم الفئوية التي أثرت سلباً علي احترام الطلاب لهم وعلي العملية التعليمية وعلي خوف أولياء الأمور علي أبنائهم بل قد يتعدي الأمر إلي تهديد العام الدراسي بأكمله.. ومن هنا كان يجب أن يبرز دور وزارة التربية والتعليم المسئولة عن حقيبة التعليم في إدارة الأزمة، والتي فشلت فيها فشلاً ذريعاً، فالاستجابة للمطالب الفئوية أو المصالح الخاصة ليس حلاً للأزمة بقدر ما هو تأجيل لها وزيادة اشتعالها. ويري «يحيي» أنه من الضروري تفعيل مبدأ الثواب والعقاب في تلك الأزمات واحترام القانون فيما يتصل بالإضرابات والوقفات الاحتجاجية وعدم استخدام الطلاب أو المعلمين أو أساتذة الجامعات في الصراعات السياسية والمطالب الفئوية.. فالمدارس والجامعات للتعليم والبحث العلمي والأنشطة الداعمة لبناء شخصية الطالب وليست للصراعات الحزبية أو السياسية أو غيرها.