سارت سياسة الكيان الصهيونى دائماً على أساس الرفض التام للتفاوض مع أى من منظمات المقاومة الفلسطينية التى تعتبرها كلها جماعات إرهابية.. ورفض تبادل الأسرى معها أو أى تصرف يضفى شرعية على المقاومة الفلسطينية، وفجأة خرجت إسرائيل على النص المقدس ووقعت مع منظمة حماس التى تحكم قطاع غزة صفقة عن طريق وساطة مصرية لاسترداد جنديها الأسير لدى حماس الذى بقى فى الأسر خمس سنوات مقابل إطلاق سراح أكثر من ألف أسير فلسطينى من سجون إسرائيل، معظمهم قاموا بعمليات فدائية ضد الاستعمار الصهيونى وصدرت ضدهم أحكام بالسجن الطويل مدى الحياة أو أكثر من ذلك!! وقد فشلت كل محاولات الوساطة طوال السنوات الخمس الماضية لإطلاق سراح الأسير الإسرائيلى، فما الذى حدث وقلب سياسة إسرائيل رأساً على عقب بهذا الشكل المهين لها؟ أجابت مجلة الشئون الخارجية الأمريكية فى عدد أكتوبر عن هذا السؤال من خلال مقال للكاتب الإسرائيلى دانيال جورديس، رئيس مؤسسة شالم فى القدس، يقول جورديس إن الصفقة المذهلة لاسترداد الأسير الإسرائيلى كانت نتيجة تضحية نتنياهو، رئيس الوزراء، بالواقعية السياسية فى سبيل القيم العاطفية!! ولكن هذه الحركة ستشجع حماس وتجعل الواقعية السياسية أكثر ضرورة من أى وقت مضى، وليس هناك فى إسرائيل من يسمى هذه الصفقة بأنها صفقة جيدة، فهى بشعة على كثير من المستويات، فإسرائيل ستفرج عن أكثر من ألف سجين فلسطينى بينهم عدة مئات من الإرهابيين المتشددين مقابل جندى واحد، ولأول مرة تستسلم الدولة اليهودية لصفقة كتبت قائمة المطلوب إطلاق سراحهم منظمة إرهابية، وبين المطلوب تحريرهم العديد ممن تسببوا فى مقتل مواطنين إسرائيليين، وهو أمر لم يكن متصور الحدوث فى الماضى، وربما تكون إسرائيل بهذا العمل قد أعطت أعداءها حافزاً لاختطاف المزيد من جنودها، فالإرهابيون الذين سيفرج عنهم محتمل جداً أن يهاجموا ويقتلوا إسرائيليين مستقبلاً. ورغم هذه الحقائق فإن صفقة إطلاق سراح الجندى شاليط قد وافقت عليها الوزارة الإسرائيلية بأغلبية ساحقة 26 وزيراً وافقوا وثلاثة فقط رفضوها، وأيدت الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين هذه الصفقة، وبإبرام هذه الصفقة فإن نتنياهو والرأى العام الإسرائيلى قد اختاروا العودة لجذورهم!! وهى إحياء تقليد إسرائيلى مركزى قديم وعقيدة راسخة هى أن إسرائيل لا تتخلى عن أبنائها فى الميدان، وهذا التقليد قديم بقدم الدولة الإسرائيلية نفسها فهو ينبع من حقيقة أن جيش دفاع إسرائيل هو جيش مواطنين مكون من التجنيد الإجبارى، وكل أسرة إسرائيلية تعلم أنها قد تواجه نفس المأساة التى واجهتها أسرة الجندى شاليط، وفى الجيش نفسه فإن «السير بالنقالة» يعنى أن الجنود يتدربون على حمل زميلهم الجريح على نقالة لمسافات طويلة صعوداً للجبال أو هبوطاً فى الوديان، فهذا النوع من التدريب هدفه تثبيت رسالة مؤداها أنه ليست هناك أى حالة لا يستطيع الجنود فيها إعادة زميلهم الجريح لبيته ويدرس هذا التقليد فى جيوش أخرى أيضاً، ولكن فى حالة إسرائيل فالوضع يختلف فمنذ لحظة أسره أصبح اسم شاليط يتردد فى كل بيت إسرائيلى ولنا أن نقارن هذا بالصمت المطبق فى أمريكا عن أسر الجندى بوير جدال الذى مازال أسيراً لدى طالبان منذ يونيو 2009، فمنذ اختطف شاليط كان المجتمع الإسرائيلى يهتز بمشاعر الخطأ لعجز إسرائيل عن الوفاء بالتزامها نحوه. ولذلك وفى ضوء تدهور الوضع الدولى لإسرائيل وتراجع قدرتها على الردع فإن نتنياهو شعر بضرورة رفع الروح المعنوية لإسرائيل على وجه السرعة، فإعادة شاليط لبيته بصرف النظر عن الثمن الذى ستتقاضاه حماس هو تحقيق لتقليد يقتضيه الشرف، ويأتى ذلك فى وقت تنهار فيه الكثير من افتراضات إسرائيل عن الظروف المحيطة بها، ففى الوقت الذى تحاول فيه إسرائيل السباحة وسط الاضطرابات الاقتصادية والسياسية فى الشرق الأوسط وحول العالم يمثل هذا الاتفاق عودة إسرائيل إلى قيمها التى تأسست عليها وفرساً يؤكد فيها السياسيون والمواطنون لأنفسهم أن الصفقة تمثل فى بعض جوانبها القيم التى قامت عليها إسرائيل. كان اتفاق الصفقة نتيجة تأكد أجهزة الأمن الإسرائيلية أنها لن تستطيع إنقاذ الجندى الأسير، فعملية أسره نتيجة غارة من حماس من غزة عبر الحدود لداخل إسرائيل كانت تمثل فشلاً ذريعاً لجيش الدفاع الإسرائيلى، وخلال السنوات الخمس منذ اختطاف شاليط فإن الجيش نفسه الذى دمر سلاح الطيران المصرى على الأرض 1967 والذى أنقذ أكثر من مائة أسير إسرائيلى فى عنتيبى 1976، نفس هذا الجيش ظل يخطر حكومته أنه لا يملك وسيلة لتحرير هذا الجندى الأسير عبر الحدود، ويجب علينا أن نعترف بأنه خلال الجيل الأخير فقد أصبح أعداء إسرائيل أكثر تقدماً وحرفية، ولكن هذه الصفقة وكذلك عدم وجود خيارات عسكرية لدى إسرائيل لمواجهة برنامج إيران النووى ترك لدى الإسرائيليين شعوراً بالضعف لم يعتادوا عليه. وزاد هذا الشعور لدى الإسرائيليين نتيجة أحداث الربيع العربى، ففيما سبق كانت إسرائيل تتمتع بعلاقات حميمة مع مصر والأردن، وكانت حدودها مع سوريا هادئة، ولذا كانت تستطيع التركيز على مصدر التهديد الوحيد لأمنها الذى تسببه حماس وحزب الله وإيران، ولكن مع صعود نجم الإخوان المسلمين فى مصر، وتدهور نظام بشار الأسد فى سوريا، والاضطرابات التى تعم الأردن تجد إسرائيل نفسها سابحة فى بحار لا تملك لها خرائط ملاحية ويشعر الإسرائيليون بذلك، ولذا يتصاعد القلق فى الشارع الإسرائيلى ومما يزيد الوضع سوءاً أن الفلسطينيين يطالبون الأممالمتحدة بدولة فلسطينية، مما يزيد تهميش وضع إسرائيل على الساحة العالمية، وتركيا التى كانت حليف إسرائيل القوى تحولت مؤخراً للعداء لها، وبفقدان إسرائيل لأصدقائها فى المنطقة وحول العالم بدأت تشك فى إمكان إنقاذ أسيرها دون وساطة أصدقاء الماضى، ولذا قررت التحرك لعقد الصفقة قبل تغيير الخريطة السياسية. وعزز مشروع إقامة الدولة الفلسطينية مفهوم أنه بينما تعتبر إسرائيل حماس تنظيماً إرهابياً ترفض مفاوضته فإن فتح هى الجانب الذى يمكن عقد صفقة معه، ومنذ غزو إسرائيل لغزة 2008 كانت حماس هادئة فى نشاطها إلى حد كبير ورغم أنه كانت هناك هجمات بالصواريخ واختراقات الحدود المصرية من عناصر من غزة فقد كانت حماس تشجبها فوراً، ورغم هذا فإن طلب الرئيس الفلسطينى إقامة دولة فلسطينية وجه لإسرائيل ضربة قوية، فإذا نجح مسعاه بالاعتراف بدولة فلسطينية فإنه يستطيع المطالبة بتوقيع عقوبات على إسرائيل لاحتلالها أراضى عضو بالأممالمتحدة، ويستطيع مطاردة إسرائيل فى المحاكم الدولية. وفضلاً عن ذلك فإن حديث عباس أمام الأممالمتحدة لم يترك لإسرائيل أملاً فى السلام، فرفضه الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، ورفض إسقاط طلب عودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم فى إسرائيل أوضح أن الصراع ليس فى طريقه للحل، وقد أدرك الإسرائيليون أن عليهم أن يعيشوا مع هذا الصراع دون حل له، ويعنى هذا بالنسبة للكثيرين أن عليهم من آن لآخر ابتلاع صفقة مثل صفقة الإفراج عن شاليط، وحتى تحتفظ إسرائيل بشرعية وجود جيش لها يتم تجنيد أبنائها فيه لخوض حروب تستمر أجيالاً عديدة فقد احتاجت الحكومة الإسرائيلية لإظهار التزامها المستمر لإعادة جنودها المخطوفين لبيوتهم بأى ثمن. لقد تزامن تدهور وضع إسرائيل الدولى مع الاضطرابات الاجتماعية فى داخلها فصيف من التظاهرات الضخمة فى الشوارع فى كل أنحاء البلاد بدأ بسبب الغضب من أسعار السكن ولكنه سرعان ما تصاعدت الشكوى من ارتفاع نفقات الدراسة والطعام والصرف على الأطفال ومشاكل عديدة أخرى، فقد اتهمت المظاهرات الحكومة الإسرائيلية بالتخلى عن العدالة الاجتماعية التى تعتبر ركناً أساسياً فى العقيدة الصهيونية، وطالب تظاهر للأطباء بتحديد ساعات معقولة للعمل وزيادة الرواتب وأصبح يهدد بالشلل لقطاع المستشفيات العامة لدرجة أن الحكومة هددت بإحضار أطباء أجانب للعمل، ونتيجة ما يسمى بالهجمات الانتقامية من المتطرفين اليهود ضد الفلسطينيين وإحراقهم للمساجد فى شمال إسرائيل خلال الشهر الماضى، فقد تصاعد التوتر بين اليهود والعرب مما أثار قلق الإسرائيليين ونفورهم، وكل هذا التفكك الاجتماعى خلال الأشهر الماضية، كشف التشققات فى مجتمع كان يفتخر بصلابته وفى ضوء تدهور وضع إسرائيل الدولى وتراجع قدرتها على الردع احتاج نتنياهو الذى أصبح وضعه السياسى مزعزعاً، إلى إعطاء دفعة سريعة للروح المعنوية فى إسرائيل، كان عليه أن يبدى أنه يستطيع اتخاذ قرارات قوية وتحويل الأنظار عن مشاكل الدولة إلى قيمها الأساسية وإعادة توحيدها وقد نجح فى ذلك بعقد صفقة الأسرى واسترداد شاليط، فقد ذكر نتنياهو الإسرائيليين على الأقل ببعض القيم الراسخة التى مكنت إسرائيل دائماً من استمرار حياتها، وهى قيم حيوية فى هذه اللحظات بالذات، حيث يتكاثر أعداء إسرائيل ويتفكك بنيانها الاجتماعى. ومن سخرية القدر أن قرار الوزارة بالموافقة على صفقة استرداد شاليط يتصادف تزامنه مع الذكرى الخامسة والعشرين لإسقاط الطيار الإسرائيلى رون آراد فوق لبنان وعدم وجود أثر له من وقتها، ،وقد قرر الإسرائيليون عدم تكرار تجربة الطيار المفقود أبداً، والآمال الزائفة التى عقدت على استعادته من لبنان، قرروا أن يعقدوا صفقة بشعة مؤلمة حتى يستردوا على الأقل بعض القيم التى ميزت إسرائيل بينما كان ذلك مستطاعاً وإلى هنا ينتهى هذا العرض المفصل التبريرى لجورديس عن أسباب إقدام إسرائيل على هذه الصفقة شديدة المهانة لها، ولا يستطيع الكاتب أن يخفى هلعه من المستقبل وهلع مواطنيه من تكاثر الأعداء حولهم وتضاعف قوتهم فى الوقت الذى تتراجع فيه قوة إسرائيل. طالما كتبنا وكتب المئات غيرنا أن الكيان الاستيطانى الصهيونى كيان يحمل فى طياته جرثومة فنائه، وأن العامل الديموجرافى وحده سيحيل إسرائيل إلى أقلية يهودية مميزة اقتصادياً وعلمياً فى بحر عربى فسيح على غرار مصير الأقلية البيضاء فى جنوب أفريقيا، واليوم ننزداد تفاؤلاً بأن أبناءنا وأحفادنا سيشهدون فناء إسرائيل كدولة معادية، وشرط ذلك أن يستمر أبناؤنا وأحفادنا على طريق الربيع العربى ويتخلصوا من أدران الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة ويستردوا مصائرهم فى أيديهم. --------- نائب رئيس حزب الوفد