منذ بدء المسار التفاوضي بين الحكومات لبناء الاتحاد الأوروبي وحتى بداية التسعينات، كان لافتاً إحجام بريطانيا عن الانغماس الكامل في المشروع الأوروبي، إذ اكتفت بأن تتدخل بطريقة محسوبة لنيل بعض الامتيازات من دون الاستسلام الكامل للحلم الأوروبي. فمثلاً، أتى انضمامها إلى السوق الأوروبية المشتركة متأخراً في 1973، أي بعد 16 عاماً من معاهدة روما في 1957. لكن سرعان ما شابت الأمر أزمة ثقة قادت إلى استفتاء «بريكسيت 1»، حيث قرر رئيس الوزراء العمالي هارولد ولسون إجراء استفتاء عام 1975 أسفر عن غالبية ساحقة لمصلحة بقاء بريطانيا عضواً في المجموعة الاقتصادية الأوروبية. إلا أن السجال حول عضوية بريطانيا لم يختف قط، وفي الثمانينات انتزعت رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر تنازلات جديدة من المجموعة الاقتصادية الأوروبية أسفرت عن إعادة ثلثي مساهمتها في موازنة بروكسيل لأن بريطانيا لم تكن تجني فوائد من دعم الزراعة بقدر البلدان الأخرى الأعضاء في المجموعة، كما اختارت أن تبقى خارج اتفاقية شنغن لحرية السفر بين الدول الأعضاء في 1985، وفي 1992 أُجبرت بريطانيا على الانسحاب من آلية سعر الصرف الأوروبية بسبب ضعف الجنيه الإسترليني مقابل المارك الألماني. في 1992 ومع إتمام بناء السوق الموحدة وانتهاء الحرب الباردة دخلت عملية البناء الأوروبي في مسارين جديدين: الأول مع معاهدة ماستريخت تعدت فكرة توحيد أوروبا المجال الاقتصادي لتشمل الجانبين الاجتماعي والسياسي من طريق مجموعة من الإجراءات تشمل إقامة اتحاد اقتصادي ونقدي يتضمن في مرحلة لاحقة إحداث نقد موحد، وضع ميثاق اجتماعي مشترك (رفضته بريطانيا أيضاً) ووضع سياسة أمنية أوروبية مشتركة إضافة إلى إقامة تعاون وثيق في مجالي القضاء والشؤون الداخلية. أما المسار الثاني فيشمل فتح باب الانضمام لدول أوروبا الشرقية لتغيير وجه الاتحاد الأوروبي من مشروع أوروبي غربي يضم دولاً متقاربة اقتصادياً إلى اندماج اقتصادي بين دول لا تمتلك نفس التقدم الاقتصادي. أدى ذلك إلى تغير موازين القوى داخل الاتحاد حيث تغيرت فيه الزعامة من الثنائية الفرنسية - الألمانية إلى قيام ألمانيا بإدارة الدفة وتوجيه معظم سياساته الاقتصادية بالتعاون مع دول وسط وشرق أوروبا. وبالتزامن مع مرحلة التحضير لانضمام دول شرق ووسط القارة العشر، تم طرح مشروع طموح جداً ألا وهو دستور الاتحاد الأوروبي. في هذا الوقت، كان على الدول ال 25 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إقرار الدستور إما بالاستفتاء العام أو الاقتراع البرلماني. وفي 2005 رفض الفرنسيون إقرار الدستور الموحد وبهذا الرفض فإنهم وجهوا ضربة قاصمة للاتحاد الأوروبي ولسياسة الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك الذي ربط أداءه السياسي بمشروع الاتحاد الأوروبي، حيث كان من أشدّ المتحمسين للدستور الأوروبي الموحّد القائم على الخصوصية الأوروبية من دون الأخذ في الاعتبار الأوضاع الفرنسية الداخلية من تفاقم للبطالة وغلاء الأسعار وانكماش التجارة الخارجية بحكم تحرير الحدود في وجه كل البضائع الأوروبية. فشل إقرار الدستور الأوروبي الموحد عكس النزعات القومية المتصاعدة، التي يسميها بعضهم شعبوية، في القارة الأوروبية، والشقاق بين الاتحاد الأوروبي والمواطنين الذين قاموا بالتصويت بالرفض ليس لأنهم يعارضون الدستور بقدر ما يرغبون في الاحتجاج على سياسات زعماء بلدانهم. والآن بعد قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي بغالبية 52 في المئة، تسجل القوى اليمينية المحافظة انتصاراً جديداً وتوجه ضربة قاصمة لحلم الوحدة الأوروبية التي طالما بهرت العالم. لقد تم استفتاء «بريكست 2» في ظل مجموعة من التحديات والظروف التاريخية الحرجة التي تواجة أوروبا؛ أبرزها أزمة منطقة اليورو، مروراً بأزمة اللاجئين والتشتت الأوروبي في معالجة واحتواء الأزمة، وخوف البريطانيين، لاسيما كبار السن الذين صوَّت ما يقرب من 65 في المئة منهم للخروج من الاتحاد الأوروبي، على الهوية والخصوصية البريطانية إن بقيت حبيسة الاتحاد الأوروبي. سيمنى الاقتصاد البريطاني بخسائر متعددة، إذ إنه سيسجل نمواً بوتيرة بطيئة في أعقاب فقدانه أفضليات العضوية وبخاصة حرية التجارة في سوق الاتحاد الأوروبي التي تضم 500 مليون مستهلك. وسيتعين على بريطانيا أن تنسحب من السوق الأوروبية الموحدة في غضون عامين من إعلان الخروج ولا يُعرف متى تستطيع العودة، ونقلت مجلة «شبيغل» الألمانية عن مصادر مطلعة قولها إن المفوضية الأوروبية لن تجعل عودة بريطانيا سهلة لكي لا تشجع الحركات المناهضة للاتحاد الأوروبي في دوله الأخرى. كما يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يتعلل بأن لديه قضايا أشد الحاحاً من التفاوض مع بريطانيا مثل أزمة اللاجئين والأزمة المالية في اليونان والنزاع مع روسيا. وفي أحسن الأحوال سيواجه البريطانيون فترة يكتنفها الغموض والإبهام، وهذا ما لا يخدم الاستثمار. لكن الأثر السياسي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو الأشد وطأة حيث سينتهي الأمر بأن يلتزم البريطانيون العديد من أنظمة بروكسيل لأسباب تجارية واقتصادية، مثلهم في ذلك مثل النروج وسويسرا، البلدين اللذين يخضعان لشروط الاتحاد الأوروبي من دون أن يكون لهما دور في صياغة هذه الشروط. نقلا عن صحيفة الحياة