بدت وكأنها تعلم ما يدور حولها، بعدما خرجت علينا بنصيحة مقتنعة بها تماما قائلة: «أنا مش هنتخب أي حد من المرشحين لرئاسة الجمهورية؟!» وعن سبب هذا الموقف قالت: «عمرو موسي تبع مبارك والبرادعي جاي من بره ومش عارف عننا حاجة، وباقي المرشحين مسمعناش عنهم ومعملوش أي حاجة لينا». «نادية علي» إحدي المقيمات بمستشفي العباسية للصحة النفسية، منذ أن قابلناها في المستشفي لم تكف عن الحديث عن الانتخابات والمرشحين سواء للانتخابات الرئاسية أو اعتراضها علي المرشحين للبرلمان، ولم تعلم «نادية» التي قضت نحو 30 عاما بالمستشفي أن رأيها سيبقي حبيس صدرها، حيث يمنعها القانون من مزاولة حقها في الانتخاب من الأساس. وينص القانون رقم 173 لسنة 2005 في المادة الثالثة علي أنه «يحرم من مباشرة الحقوق السياسية المصابون بأمراض عقلية طوال مدة حجزهم»، ولذلك ستحرم نادية التي لم تعرف أحدا سوي أصدقائها في المستشفي من المشاركة في الانتخابات، رغم تماثلها للشفاء بشهادة الأطباء. الغريب هنا أن قانون مباشرة الحقوق السياسية الذي يمنع المرضي طوال فترة حجزهم من مباشرة حق الانتخاب أو الترشيح يتعارض مع قانون الصحة النفسية الجديد الذي يعطي الحق للمحجوزين في مستشفيات الصحة النفسية بإجراء عقد الوكالة بالنسبة للمحاماة في القضايا الخاصة بهم، ومن هنا فإن القانون يعترف بأن المرضي داخل مستشفيات الصحة النفسية لديهم القدرة علي التمييز في اختيار من يوكلهم. ونادية واحدة من 5000 مريض أدت بهم الظروف أن يستقروا بالمستشفي رغم شفائهم من الأمراض النفسية والعقلية، لعدم وجود أقارب يسألون عنهم أو أماكن يمكن أن يعيشوا بها بعد الخروج من المستشفي، مثل مديحة محمود النزيلة بالمستشفي منذ 19 عاما والتي أشارت إلي أنها رفعت قضية ضد أخيها الذي لم تره منذ أكثر من عشر سنوات لاسترداد ميراثها ومازالت القضية متداولة بالمحاكم. وقالت مديحة إنها ترغب أن يظل المجلس العسكري في حكم البلد لأنها تشعر بأن هناك حالة فوضي تعاني منها جميع المحافظات، مشيرة إلي أنها تحرص علي مشاهدة النشرة الإخبارية لمعرفة ما يدور في مصر وباقي الدول العربية، مضيفة: «كان نفسي أشارك في الثورة وأذهب لميدان التحرير لكن إدارة المستشفي منعتنا من الذهاب فقمنا بعمل تجمع أمام القسم وشارك معنا بعض الأطباء والممرضين». وعند سؤالها عن سبب مشاركتها في الثورة قالت: «مبارك حرامي سرق البلد وعياله كمان عايزين يورثونا ويسرقونا، وكمان هو السبب في قتل الشهداء وأنا نفسي يتعدم»، وأوضحت أنها تريد المشاركة في الانتخابات وأنها لن تختار أي مرشح إلا بعد أن تدرس برنامجه الانتخابي، أما بالنسبة للمرشحين للرئاسة فإنها تؤكد أنه يجب اختيار رئيس أفضل من مبارك. لم يختلف حال فهيمة عبد الستار عن حال سابقتها، فهي قضت أكثر من 20 عاما بالمستشفي ولم تخرج منه إلا لزيارة شقيقتها بالإسكندرية، وقالت: «أنا بشتغل في المستشفي منذ 15 عاما، وتقوم إدارة المستشفي بتحويش مرتبي، ولما خرجت لأختي العام الماضي أخذت من المستشفي 3000 جنيه، وأعطيتها لأختي لعمل نظارة طبية لي حيث إنني أعاني ضعف البصر. لكن ما يغضب فهيمة أنها عندما حاولت أن تدخل ميدان التحرير في أحد أيام الجمعة رفضوا إدخالها لأنها لا تحمل بطاقة شخصية، وهو ما دفعها بمجرد عودتها للمستشفي لبدء إجراءات عمل البطاقة بمساعدة الأطباء، وهي في انتظار استلامها الآن، وعن الانتخابات قالت «أنا عشت أيام الرئيس السادات وكان كويس، لكن حسني مبارك ظلم ناس كتير وأنا هنتخب اللي شايفاه كويس للبلد بس هما يخلونا ننتخب». أما عالية إسماعيل فهي خريجة الفنون التطبيقية تعيش بالمستشفي منذ 12 عاما، ولها أكثر من 10 لوحات فنية تم عرضها بمسرح المستشفي، قالت» لم أذهب إلي الانتخابات في السابق لأن جميعها كانت مزورة، وأتمني أن تكون أول انتخابات بعد الثورة نزيهة، وكنت أتمني أن أذهب إلي الاستفتاء الأخير، لكن إدارة المستشفي لم توافق خوفا علينا، وطالبت بأن يشارك المرضي في الانتخابات المقبلة». من جانبه صرح د. عارف خويلد الأمين العام للصحة النفسية أنه طبقا لآخر إحصائية فقد بلغ إجمالي المرضي داخل المستشفيات 6000 مريض، لافتا إلي أن التعامل مع المريض الذي تم شفاؤه نظمها القانون رقم 2009، أنه عند تماثل المريض للشفاء يمكن خروجه علي أن يقوم أهله برعايته داخل منزله، وبسبب أن كثيرا من أهالي المرضي لم يطلبوا خروج ذويهم فيتم احتجاز هؤلاء بالمستشفي. وأوضح أن فترة تواجد المريض النفسي وطبقا للنسب العالمية داخل المستشفي من 18 إلي 30 يوما، وهي مدة العلاج داخل المستشفي، وخلال هذه الفترة نجد أن الأعراض التي أدت لإصابته بدأت تختفي، مؤكدا أن هناك بعدا اجتماعيا يجب أن يتم وضعه في الحسبان عند خروج من تماثل للشفاء ألا وهو حالة أسرته وعائلته الاجتماعية. وأضاف: «هناك من 3 إلي 5% فقط من المرضي المتواجدين داخل مستشفيات الصحة النفسية يحتاجون العلاج وهم من يعانون من مرض نفسي شديد، و95% يمكن أن يتم علاجهم علي مستوي العيادات الخارجية، ويمكن أن يخرجوا من المستشفي ليمارسوا حقوقهم». وأكد أن قانون مباشرة الحقوق السياسية يتحدث عن المريض في فترة حجزه بالمستشفي ويقصد هنا بالمحجوز إلزاميا، أما المحجوز اختياريا فهو واع ويستطيع أن يطلب إجازة يمارس فيها حقه الانتخابي ثم يعود. وأضاف: «أما من لم يستطيعوا مباشرة هذه الحقوق فهو المريض الذي يكون خطراً علي سلامته ومجتمعه وهؤلاء المرضي حكمهم علي الأمور مضطرب فالقانون منعهم من مباشرة الانتخاب خوفا من إساءة استخدامهم في الانتخابات»، مشيرا إلي أنه لكل مريض تماثل للشفاء الحق في أن يطلب اجازة لينتخب ثم يعود مرة أخري إلي المستشفي، موضحا انه لم يطلب أحد من المرضي الذين تماثلوا للشفاء هذا الطلب وذلك بسبب ان وجود المريض داخل المستشفي جعله يتكاسل عن الخروج وهناك مسئولية تقع علي لجان حقوق المرضي بالأمانة العامة للصحة النفسية في توعية المرضي بحقوقهم خاصة أن عدد المرضي الاختياري الموجودين بالمستشفيات أكبر من الإلزامي. واستكمل قائلا»ليس كل مريض بالمستشفي له حق الانتخاب خاصة ان منهم لايحمل بطاقة الرقم القومي، ففي 2009 تم عمل مبادرة داخل الامانة لعمل رقم قومي للمرضي ونجحنا في عمل من 200 إلي 300 بطاقة، لكن هناك مرضي لا نستطيع أن نصل إلي بياناتهم، وهؤلاء لم يتواجدوا علي خريطة الدولة. وشدد علي أنه لا يستطيع أن يضع لجنة انتخابية داخل المستشفيات لأنه يمكن اتهامه باستغلال المرضي لصالح أحد المرشحين، لافتا إلي أن كل ما يمكن أن يفعله توعية المرضي الذين تماثلوا للشفاء بحقهم في الانتخاب والمكان الذي سيدلون فيه بصوتهم. وأشار إلي أن جميع المرضي يمكن أن يخرجوا من المستشفي مع ملاحظة أنهم يقومون بمرحلة علاجية أخري، فالمريض الذي استقرت حالته يخرج من المستشفي ويقوم أهله برعايته، أما المريض الذي لم يجد أحداً لرعايته فيجب أن يخرج من المستشفي ويذهب لأماكن إيواء مثل دار المسنين وهذا النوع من الدور لم تتوافر في مصر بعد. في سياق متصل أشار د. أحمد حسين مدير ادارة حقوق المرضي بالأمانة العامة للصحة النفسية إلي أن القانون رقم 71 لسنة 2009 يعطي حقوقاً للمريض كانت مسلوبة منه في القانون رقم 73 لسنة 1956 وان هناك 70% ممن يتم حجزهم داخل المستشفيات بعد خروجهم وقضاء فترة علاجهم يمارسون أعمالهم كاملة وأن هناك 30% منهم يستطيعون التعايش مع الآخرين بكل طباعهم، فليس جميع المرضي النفسيين فاقدي الأهلية لكن هناك 10% منهم فقط كذلك، وأن التخلف العقلي لا يندرج تحت مسميات المرض النفسي. وتساءل حسين: كيف يعطي قانون الصحة النفسية للمريض النفسي حقوقاً أعلي من مباشرة الحقوق السياسية كإجراء عقد الوكالة ويحرمه من التصويت في الانتخابات؟، فنحو 70% من المرضي النفسيين يستطيعون مباشرة حقوقهم السياسية وأن المرض النفسي مرض مزمن ككل الأمراض الأخري مثل الضغط والسكر، حال استقرار المريض علي علاج معين فهو قادر علي مباشرة حياته بشكل طبيعي.